(فاطنة السمحة).. أزمنة الرحيل ! خالد عويس ورحلت فاطمة أحمد إبراهيم بعيدا عن وطنها الذي عشقت، هناك، في بلاد "تموت من البرد حيتانها" كما كتب روائينا العظيم، الطيب صالح، ورحل هو ذاته بعيدا عن النخل والنيل والدليب! رحلت فاطمة بعد أن خطت على الأرض سطور نضالات كبرى، سياسية واجتماعية وثقافية، وتصدت لأكثر القضايا تعقيدا في مجتمعنا دون أن يرمش لها طرف، وواجهت السجون، بل و"الدماء" التي زانت حيطان منزلها، لوحة تحكي عن إمرأة سودانية، حبست دموعها في مقلتيها بعد إعدام رفيق دربها "شفيع العمال"، واحتفظت بحزنها في أعماق روحها، لتحمل على كاهلها.. "حزنا أكبر، ليس يُقال"، هو وجع الشعب السوداني، ومعركته المستمرة ضد الاستبداد ودعاة التخلف ًو مناهضي الاستنارة والمساواة والعدالة الاجتماعية. رحلت فاطمة في زمن رحيل العمالقة، سياسة وأدبا وشعرا وفكرا. رحيل يقرع الأجراس بأننا ندفن، كل أشهر، واحدا من الكبار، بل، على وجه الدقة، ندفن جزءا حميما من أرواحنا، وذاكرة السودان السياسية والفكرية والثقافية والفنية والأدبية! فاطمة عاشت عصر الصراعات الكبرى في السودان، الصراعات الموشاة حوافها بالدم، والمعارك التي لم تكن لتحتمل أنصاف المواقف، أو ذلك اللون الرمادي "المقيت" إلى جوار حائط "متسخ"! فاطمة أخطأت التقديرات السياسية أحيانا؟ نعم، كما نفعل كلنا، وهل من تقديرات سياسية صائبة مئة بالمئة؟ فاطمة أخطأت التقديرات "النضالية"؟ انتقصت من مبادئها ولو قيد أنملة؟ باعت، ولو بمثقال درهم، تاريخها ونضالاتها؟ تخلت عن قضايا المرأة والمساواة والعدالة الاجتماعية؟ كلا، وألف كلا، فهي ظلت نسيج وحدها، فريدة متفردة، تغرّد بعيدا في إمساكها جمرة الحقوق، و"الجمرة تلهلهب حية" ! إنها من طينة الخليفة عبدالله ودتورشين وعلي عبداللطيف وعبدالقادر ودحبوبة والشريف حسين الهندي وعبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ والإمام الهادي المهدي وأمين الربيع ومحمود محمد طه ورابحة الكنانية ومهيرة بت عبود وجوزيف قرنق. من طينة بابكر النور ومحمد عثمان حامد كرار! الموت لا يوجع الموتى، "الموت يوجع الأحياء". وموت فاطمة يهز ويوجع كل ذي "نخوة وطنية". إنه زمن الموت – يا صلاح أحمد إبراهيم، أيها الطير المهاجر للوطن، زمن الخريف -، إنه زمن الموت يا صلاح، حيث حامت المنايا حول حمانا، وانتقت مصطفى ووردي ونقد، وقطفت أمين الربيع وعمر نورالدائم وسارا وحميد ومحجوب وعبدالنبي علي أحمد. انها انتفت بعناية الدوش والفيتوري وعثمان حسين وفاروق كدودة والحاج مضوي والطيب صالح وجون قرنق. أرأيت يا صلاح؟! ها هي المنون تقطف فاطمة أيضاً !! تقطفها والوطن، بعد، لم يتحرر، ولم يعد حرا ولا عزيزا ولا كريما !! روحي بسلام فاطمة، فقد "أعطيت ما استبقيت شيئا"، وهبت عمرك كله لوطنك وقضاياك، ولم يأخذ روحك بريق "ذهب المعز" ولم يجزعك سيفه. رحمك الله، أم النضال، أم السودانيين والسودانيات. كنت سودانية من شعرك لأخمص قدميك، وسنعلّم أجيالنا سيرتك الناصعة. سنقول لهم: من هنا مرت فاطنة السمحة. هنا، على هذه الأرض تحدت كل شىء من أجل ما تؤمن به، ومضت مرفوعة الرأس، مثل "راية في جيش الفتى المهدي الإمام"، كطلقة في مدفع عبد الفضيل ألماظ، كالملكة أماني شاخيتي، مثل صباح واجه فيه الشفيع الموت بجسارة. نعم، فاطمة مرت من هنا، لكن أثرها…. لا يزول !