أرى قدمي أراقَ دمي عمر الدقير يُقال عن الشعراء أنهم يعيشون مع الحلم ويرفضون التأقلم مع الواقع .. ولعله في هذا السياق أرسل الإمبراطور الروماني الشاعر بوبليوس أوفيد إلى المنفى في مكانٍ تختلط فيه الفصول وتتداخل فيه التقاويم – وذاك بالطبع نفيٌ يليق بالشعراء – لأنَّ أوفيد، الذي كتب "فن الهوى"، تمرَّد على الواقع وغرَّد خارج السرب وظلَّ وحيداً على ضفاف الحلم في انتظار لحظة الشروق. ورغم أنَّ الشعراء أنفسهم أدركوا بالتجربة أنَّ الواقع شيء آخر وأنَّ القصيدة ليست وسيلةً عملية لمواجهة تحدياته، لأنَّ نواميس الواقع وقوانينه لا تخضع لجماليات الشعر وما يجترحه خيال الشاعر من يوتوبيا خالية الشرور .. لكن يبقى خسران الحلم هو أقسى ما يمكن أن يحدث للإنسان، لأنَّ الحلم إذا ضاع لم يترك للإنسان خياراً غير قبول الأمر الواقع والتأقلم معه .. وما من واقع غاشم يصبح عصياً على التغيير إلَّا إذا تأقلم معه ضحاياه لِمُجرَّد أن تستمر حياتهم، ولو في حدِّها العضوي الأدنى، وتحولوا هم أنفسهم إلى جزءٍ مِنْ غنائم مَنْ تسلَّطوا عليهم وأراحوهم من مقاومتهم لهم. وإذا صحَّ لنا أن نَصِفَ تاريخ الإنسان على ظهر هذا الكوكب الأزرق بأنه جدلٌ مستمر بين تحديات الواقع والاستجابة لها، وفقاً لنظرية المؤرخ أرنولد توينبي، فإنه يصحُّ القول أن أهم شرطٍ للاستجابة للتحديات في مختلف حقول الواقع هو شرط الوعي الذي من دونه تذهب جهود البشر سُدىً كأمطارٍ تتساقط في غربال .. بل إنَّ الوعي هو كلمة السر لفتح باب التغيير، ولهذا بقيت مقولة جان جاك روسو تتردد بعد رحيله بزمن طويل وهي أنَّ الظلم والفقر وحدهما لا يخلقان لدى المُصاب بهما رغبةً في التغيير بل الوعي بهما وإدراك أسبابهما هو الشرط اللازم لاستنهاض الهمم من أجل التغيير.. ولعلَّ تلك المقولة الخالدة تُقدِّم تفسيراً لحالة الخضوع والصمت المُفعم بالحزن الذي يتبدى في وجوه المظلومين والمُفقَرين، وهو حزنٌ سلبي لا معنى له إذ لم يصاحبه شعورٌ واعٍ بالظلم والفقر يُحوِّله إلى غضبٍ وثورةٍ على الواقع الذي أنتجهما .. هذا الوعي الذي تحدث عنه روسو وغيره من رُواد حركة التنوير هو الذي مهَّد الطريق لتفجير الثورة الفرنسية بأقانيمها المعروفة. الإستبداد، في كلِّ زمانٍ ومكان، يحارب الوعي لأنه يحرر ضحاياه من القطعنة والإمتثالية والاستسلام للأمر الواقع .. والوعي هو وقود الزحف نحو التغيير والخلاص من الاستبداد، ولكنه في المقابل ليس منحةً مجانية أو لقيطةً من قارعة الطريق .. إنه مثابرة عقلانية لفهم الواقع وكدحٌ شجاع لنزع القشرة التجميلية التي تغطي سطحه والغوص في أعماقه وكشف المسكوت عنه وتسمية الأشياء بمسمياتها .. وغالباً ما تكون هذه المهمة سبباً لألوانٍ من المتاعب وصنوفٍ من الأذى لمن يقومون لها، وكتاب التاريخ الانساني شاهدٌ على أمثلةٍ رائعة لكثيرين واجهوا مصائرهم بصمودٍ وجسارة – سواء كانت هذه المصائر سجناً أو تعذيباً أو تشريداً أو حتى موتاً – وقد تكون عبارة السهروردي الشهيرة: "أرى قدمي أراقَ دمي" شعاراً لكل من فضَّل مصيراً قاسياً على الاعتذار عن وعيه والتراجع عمَّا يراه حقاً وصواباً. الإنتهازيون الذين يتواطؤون مع الإستبداد ويسعوَن لتغييب الوعي العام عن طبائعه وصنائعه وتخذيل الناس عن مقاومته مثل الأطباء الذين ينكثون بقسم أبو قراط ويحجبون عن الناس الوعي بخطورة الوباء وأسبابه وكيفية مقاومته .. ولكن مهما تعاظم التحالف الشيطاني بين سَرْخَس الاستبداد وطحلب الإنتهازية وزكمت رائحته الأنوف، تظلُّ هناك بقية من رحيق يفرُّ إليها دعاة التغيير – كما نحلٍ دؤوب – ليصنعوا منها لِقاحاً ضد وباء الاستبداد ودفاعاً باسلاً عن البقاء على قيد الضمير. إنَّ من يحاولون نفياً جذرياً لثقافة المقاومة إنما يحاولون عبثاً تدجين التاريخ .. فما من شيءٍ يستطيع اجتثاث روح المقاومة، وهي قد تهجع تحت الرماد ولكن لا بدَّ لجمرها أن يومض ذات يوم حتى لو توهَّم المستبدون أنهم دجَّنوا التاريخ وأدخلوه في زنزانةٍ أو بيت أشباح. ….. * نُشِر بصحيفة "أخبار الوطن" الصادرة عن أمانة الاعلام بالمؤتمر السوداني، العدد الأول – 8 أكتوبر 2017.