كان من شأن الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان الأسبوع الماضي أن تكون مناسبة لتعزيز علاقات البلاد مع الدول الفاعلة في جواره ومحيطه الإقليمي، وتأكيد انفتاح سياسة السودان الخارجية المتوازنة مع الأطراف كافة لخدمة مصالحه الوطنيه، ولكنها في مفارقة لافتة تحوّلت علي أيدي من يفترض أنهم حلفاؤه الأقرب في المنطقة إلى مناسبة كشفت عن هشاشة هذا التحالف، وعن محاولة لفرض حصار على الخرطوم من نوع جديد يحدّد لها خيارات علاقاتها الخارجية. لم يكن أكثر المراقبين تشاؤماً في الخرطوم يتوقع أن تنعكس الزيارة الأولى لرئيس تركي إلى السودان لتؤثر سلبياً على علاقات السودان مع جواره الأقرب، ولئن كان مفهوماً إلى حد ما سبب ردة الفعل المصرية في ظل العلاقات الرسمية المتوترة للغاية بين البلدين على خلفية أزمة سد النهضة وأجندة خلافية أخرى، إلا أن المراقبين لم يستطيعوا تفكيك لغز الهجوم العنيف الذي تعرض له السودان جراء زيارة أردوغان من وسائط الإعلام السعودية والإماراتية لم يسلم من سهامه العنصرية الطائشة حتى الرئيس عمر البشير الحليف الأقرب للرياض وأبوظبي، والشريك العسكري لهما في حربهما في اليمن. السبب الظاهر الذي أتخذ ذريعة للهجوم على الرئيس البشير، وعلى السودانيين عموما، كانت الزيارة التي قام بها أردوغان إلى مدينة سواكن الأثرية على البحر الأحمر، ذات التاريخ العثماني، وتعهد بإحياء تراث المدينة وتعميرها مع الإشارة إلى أن تركيا بدأت أصلاً منذ سنوات في صيانة الآثار العثمانية في سواكن. ولكن وسرعان ما اخترعت رواية عن نيّة الطرفين لتحويل المدينة إلى قاعدة عسكرية تركية، ومن ثم بُنيت على هذه الرواية المنتحلة هذا الهجوم الإعلامي المأذون. وما يثير التساؤل في دوافع هذه الهجمة المباغتة على زيارة أردوغان ومحاولة ربطها بتحالفات عسكرية، أنه لم تمض سوى أسابيع قليلة على زيارة الرئيس البشير إلى روسيا والتي عرض فيها علانية في جلسة محادثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين إقامة قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر في الأراضي السودانية، وللمفارقة أن دعوة البشير الصريحة لموسكو لإقامة قاعدة عسكرية في السودان لم تثر أية انتقادات من أي نوع لا من الرياض، ولا القاهرة، ولا أبوظبي، والسؤال لماذا لم يتسبب هذا العرض الحقيقي في أي انزعاج للبلدان الثلاثة، ثم تثار هذه الضجة حول مسألة مختلقة لم تكن موجودة على الطاولة. إذاً من الواضح أن الاحتجاجات غير الرسمية السعودية والإماراتية تحديداً، باعتبار أن لمصر مشاغل أخرى فيما يخص علاقاتها بالسودان، لا علاقة لها بمبدأ وجود قواعد عسكرية على الأراضي السودانية، وإلا فمن باب أولى أن تحتج على العرض السوداني لروسيا بإقامة قاعدة عسكرية قبالة الشواطئ السعودية، كما أن الاحتجاج على تعزيز العلاقات السودانية التركية ما كان ينبغي له أن يثير انزعاج شركاء السودان في التحالف العربي، خاصة في ظل العلاقات الوثيقة التي تربط الرياض وأنقرة، وقد زار رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم الرياض والتقى بالملك سلمان أثناء زيارة أردوغان للخرطوم. هذا فضلاً عن أن للبلدان الثلاثة علاقات اقتصادية وثيقة مع تركيا بما لا يقارن مع السودان حيث لا يتجاوز سقف التبادل التجاري بينهما خمسمائة مليون دولار، في حين يبلغ تبادل التجاري بين تركيا والسعودية عشرة مليارات دولارات، ومع الإمارات نحو ثلاثة عشر مليار دولار على الرغم من التوتر الظاهر في علاقاتهما السياسية، أما المفارقة الأكثر غرابة فهي أن حجم العلاقات الاقتصادية بين تركيا ومصر تبلغ نحو سبعة مليارات دولار ونصف على الرغم أن بينهما ما صنع الحدّاد، وعلى الرغم من احتضان تركيا لجماعة الإخوان المسلمين المصرية المطاردة. في ظل هذا المعطيات يبقى الاحتمال الوحيد لتفسير الانتقادات السعودية الإماراتية للخرطوم لا يتعلق بزيارة أردوغان ولا مسألة سواكن، بل بحدث آخر جرى على هامش الزيارة حيث عقد اجتماع ثلاثي بين رؤساء أركان الجيش السوداني، والتركي الذي جاء مرافقاً أردوغان في جولته الأفريقية، والقطري الذي تزامنت زيارته للخرطوم في هذا التوقيت. وبغض النظر عن الأجندة التي تمت مناقشتها في هذا الاجتماع، لا شك أن مجرد مشاركة رئيس الأركان القطري في هذا الاجتماع أثار حفيظة الرياض وأبو ظبي، واعتبرتا أن حليفهما السوداني تجاوز بذلك خطوطهما الحمراء، مع الإشارة إلى أن محاولة الرئيس البشير اتخاذ موقف غير منحاز في حصارهما لقطر لم يكن محل ترحيب، كما قاد عدم استجابته لضغوطهما في هذا الخصوص إلى فتور في علاقاته مع كلا البلدين عبّر عنه في تصريحات إبان زيارته لروسيا مفارقة لسياستهما تجاه إيران وسوريا.