برز صوت الدكتور ناصر السيد في مؤتمر نشر بيانات التعداد السكاني الخامس المنعقد بقاعة الصداقة في الفترة 18-21 كصوت معارض قوي، إذ كان يجلس في الصف الأمامي ويحرص على المداخلة في كل جلسة فيوجه انتقادا لاذعا للإنقاذ أمام زبانيتها، وكانت مداخلاته تحظى بالتصفيق من الحضور الذي جله موظفي الجهاز المركزي للإحصاء وغيره من المؤسسات الحكومية الذين ما كان يُظن أن يطربوا لذلك الصوت المعارض القوي. وكان منافحا عن استقلالية الجهاز المركزي للإحصاء عن التبعية لرئاسة الجمهورية وقالها بصوت عالٍ إن الرئاسة سبب مصائب كل البلاد. (حريات) التقته في ردهات المؤتمر وسجلت معه الحوار التالي: (حريات): ما هي الأسباب التي دعتك للمناداة باستقلالية الجهاز المركزي للإحصاء عن رئاسة الجمهورية؟ نريد للجهاز أن يكون مستقلا ويصدر قانون لحماية الجهاز وحماية مصداقية الأرقام التي تصدر عنه. والأسباب هي أن حماية استقلالية الجهاز هي حماية مصداقية التعداد لأن الإحصاء لا يمكن إجراء أي إدارة بدونه ولا تنظيم أي من المجتمعات بدونه، وأهم شي فيه هو المصداقية والمصداقية لا تتوفر في مثل النظام القائم، لأن هذا النظام قائم على تزوير حتى انتخابات رئاسة الجمهورية والمجلس الوطني. الرأي العام يرى الحكومة تضع الأرقام كما تشاء وتخرجها كما تشاء ولا يجد الإنسان حتى صوته المرشحين لا يجدون صوتهم. حكا لي البعض عن عبد الله دينق نيال قوله: صوتي لم أجده في دائرتي!، فأنت يجب أن تحصن هذا الجهاز لحساسيته ودقته وأهميته في رصد كافة جوانب الحياة، فالدولة يجب أن تكون ملمة بها بصورة كاملة في المجتمع حتى تستطيع معرفة وحل المشكلات وهذه المسائل يعتمد عليها جهاز الإحصاء. فجهاز الإحصاء لا يقل أهمية عن جهاز القضاء أو الجهاز التشريعي، فلا بد إذا كنا نريد أن نقيم في السودان وضعا دستوريا وديمقراطيا من أن نفكر جديا أن هذه الأشياء تحتاج لمصداقية ولا بد من حماية جهاز الإحصاء حماية كاملة من تغول السلطة التنفيذية. رئيس الجمهورية بحسب الدستور هو رئيس الجهاز التنفيذي الذي هو واحد من سلطات ثلاث فلا يمكن يكون هو الخصم والحكم خصوصا بعد ما شهدناه منه في 22 عاما ميلاديا و24 عاما هجريا. حماية هذا الجهاز تكون في وضع مستقل عن الدولة، ومنحه سلطات ليستطيع أن يحصل على ما يريد من أية جهة في الدولة في قطاع عام أو خاص وأن يكون له الحق في أن يستوثق من صحة ما قدم له من معلومات. هذه تحمي الجهاز، وتحمي العمل العام، وتحمي المواطن السوداني ولا تضر بأحد إلا شخص يريد التزييف. والإحصاء يدخل حتى في المؤسسات الخاصة، إذا كنت تدير شركة أو مصنعا أو غيره لا بد تكون لديك إحصائياتك أرباحك وخسائرك وغيرها. والجهاز لو أصبح مستقلا يستطيع أن تكون له ميزانيته الكاملة. الإحصاء الأخير بحسب الورقة التي قدمت كلف حوالي 145 ألف دولار وهذا مبلغ زهيد جدا يستطيع أي محسن من المحسنين أن يتبرع به لإجراء إحصاء سكاني في السودان. خاصة إذا أضفنا أن الجهاز إذا استقل يستطيع أن يقوم بأعمال يبيعها ويحصل على موارد ذاتية منها ويصبح مستغنيا حتى عن دعم الدولة. (حريات): ما هو تقييمك للتعداد على ضوء المؤتمر الحالي؟ ليس هناك إحصاء لا يمكن مناقشته أو تحليله أو مراجعته أو معرفة أوجه القصور فيه كما يظهر في الكثير من الأوراق المقدمة في هذا المؤتمر، ففي المؤتمر الآن اعترفوا بأن هناك مثلا قصور في عملية تحديد سن الزواج والبالغين وغيرها. التحسين refinement في الإحصائيات مسألة مهمة لأن المشكلة أننا نهتم بالجوانب الكمية ونغفل النوعية ولا بد نهتم بنوعية الإحصاء وليس بكمية الإحصاء، وكلما ترتقي المجتمعات يكون الاهتمام الأكبر بالنوع وليس الكم الذي يكون بيدك بشكل تلقائي، فستعرف يوميا نسبة المواليد الذين يتم تسجيلهم عبر وزارة الصحة وتأتي المعلومات تلقائيا لجهات الإحصاء. وكمثال في بريطانيا أي ورقة في جهاز الدولة تمشي للإحصاء والمعلومات يتم تحديثها ليس فقط بشكل يومي بل على مدار الساعة، فالإحصاء فوري ولا تنتظر سنوات منذ 1993 وحتى 2008م لإجراء إحصاء فهذه مدة طويلة جدا. وبهذا الشكل نحتاج لأن يكون في كل وزارة مركز إحصاء وليس لتبرير سياسات الحكومة وقصورها ويدعي مثلا أن كل الناس تطعموا أو كل الناس تعلموا، فرئيس الجمهورية في فرنسا مثلا يعرف الحصص التي تدرس في كل الدولة وجدولها. هذه الدول لم تبن عشوائيا ولكن بتنظيم اجتماعي دقيق جدا يُحترم ويستطيع أن يثيب وأن يعاقب ولا يستطيع أن يحدث ذلك إلا إذا كان استقل. (حريات): تحفظت جهات سياسية وإقليمية عديدة على الإحصاء. ورفضت نتائجه في الجنوب وجنوب كردفان من قبل الحركة الشعبية وتمت إعادته في جنوب كردفان وأجري اتفاق سياسي لمعالجة الفروق في التسجيل للجنوب، كذلك رفضته جهات كثيرة في دارفور وأصدر مجلس شورى قبيلة الفور نقدا لاذعا له ورفض الاعتراف به، على ضوء الأوراق في هذا المؤتمر هل ظهرت أي مصداقية لتلك المواقف أم بدت كمجرد مواقف سياسية؟ أعتقد أن الذين اشتغلوا هذا الشغل فعلوا ذلك بمهنية ولكن حسب المعطيات التي قدمت لهم، فالأوراق قدمت في ضوء ما قدم لها من إحصاءات، ولكن هل ما قدم من إحصاءات هو الحقيقة أم من نسج الخيال فهذا شيء آخر؟ هناك ورقة قدمها عدد من الباحثين حول نقد الإحصاء اعتبرتها أهم ورقة في هذا المؤتمر وكان يجب أن تفصل لها جلسة كاملة. وكان يجب توزيع الأوراق قبل المؤتمر ليتاح للمؤتمرين مراجعة نتائج الإحصاء مقارنة بالإحصاءات السابقة، فالناس مثلا لم يشيروا لإحصاء 1956م وهذا الجانب التاريخي هام جدا. من ناحية أخرى فإن الظروف الاجتماعية التي أجري فيها الإحصاء كانت ظروف معاكسة أو غير طبيعية. الجنوب كان يتشكك في الإحصاء لأنه لو صارت هناك وحدة فستترتب عليها نسبته من الثروة، ولهذا أتعجب كيف أجري الإحصاء في الجنوب لأن السلطة هناك ممثلة في الحركة الشعبية وقيادتها كانت ضد إجراء الإحصاء في الجنوب ولأسباب واضحة جدا فاعترضت عليه. ودارفور كانت فيها حرب، والمناطق الأخرى جنوب كردفان وأبيي فيها مشاكل وجنوب النيل الأزرق كذلك. أجري الإحصاء والسودان في بؤر مشتعلة من الحروب. ففي هذه الظروف ناس الإحصاء يمشون بشكل أولي وليس بالطريقة الدقيقة المفروضة لإجراء الإحصاء، فهو عمل من الدرجة الثانية أو الرابعة من باب شيء خير من لا شيء! قد تكون نتائجه مؤشرات أو تكون أي حاجة. أنا لا أشك في نزاهة القائمين على الإحصاء ولكن أشك في الظرف والبيئة التي أجري فيها الإحصاء. كذلك أجري الإحصاء ولأول مرة هناك نظام فيدرالي أو شبه فيدرالي. السلطات المحلية نفسها تتخوف جدا ولديها مصالح محلية وتريد أن تضعف بعض المعطيات أو تضخم معطيات أخرى أو بعض المنجزات، كل ذلك يضعف المصداقية والاعتمادية reliability على نتائج الإحصاء المقدمة. وإذا لم تكن لديك جهة تقوم بإعادة تقييم ما تم تقديمه سيفتح ذلك الباب للشك في كل شيء. (حريات): لماذا برأيك تأخر نشر نتائج التعداد كل ذلك الوقت منذ 2008م وحتى الآن؟ تأخرت النتائج بسبب الانتخابات، هذه الانتخابات كان لا بد أن تبنى على تصورات المؤتمر الوطني الحزب الحاكم، لتحديد توزيع الدوائر وسن التسجيل وعدد الناس المسجلين، وحقيقة جرت عملية تزييف وطنية كبيرة جدا قام بها هذا النظام وهي مسألة لا يستطيع تحملها موظفي الجهاز فلديهم طاقات هم موظفو خدمة مدنية. والملاحظ أن أكثر من اهتم بالرد على كلامي حول عدم تبعية الجهاز للرئاسة هو ياسين الحاج عابدين نفسه (مدير الجهاز) وقد علّق لي أحدهم بقوله إن عابدين كان يطلق عليه حينما كان مسئولا عن هيئة الكهرباء (حاج قاطعين) فهو ضمن ناس احترفوا الإدارات فصارالتنقل من إدارة لأخرى كأنه مهنة لهم. وأعتقد هذه من مخلفات الاتحاد الاشتراكي، ولو نظرنا للنظام الحاكم الآن حقيقة الذي يحكمنا هو الاتحاد الاشتراكي لا حركة إسلامية ولا غيرها. وذلك باعترافهم هم وليس غيرهم. والآن هم يتخذون سياسات مثلا بدأوا بزيادة الاتصالات 30% وعلّق أحدهم قائلا إنهم بدأوا بالكلام وسوف ينتهون بالطعام وبالفعل الان أسعار الطعام وصلت لأن يكون سعر الطماطم 16 جنيها للكيلو. أنت تحتاج لإحصاء يرصد لك السوق والأسعار بالتفاصيل. نحن نحتاج أن نفصل بين نظام سياسيا فاشل وبين تنظيم من أجهزة الدولة مهم جدا يجب أن يستمر في أداء عمله، فنحن لا يمكننا أن نلغي كل شيء حتى نسقط الحكومة. أن تبني نظامك على أساس أنه تنظيم وطني ولكن تغل يد السلطة التنفيذية لكيلا تجعل منه أداة لها وهذا يعضد من الكرامة المهنية للموظفين في الجهاز، ودرجة هذه الكرامة المهنية بينهم جيدة جدا فأكثر من يصفّق لتعليقاتي الناقدة أثناء المؤتمر هم موظفو جهاز الإحصاء. هؤلاء يمثلون الطبقة الوسطى المسحوقة، وهم يريدون الحفاظ على كرامتهم المهنية ولكن كلما ترقوا يؤمر عليهم ناس (من برة) أمثال (قاطعين) الذين صاروا مثل (محللاتي القرية) الذي يحلل الطلاقات البائنة. من الناحية العلمية والوطنية ينبغي أن نحمي الكرامة المهنية للعاملين بالجهاز.