فى الراكوبة جلست جدتها تتحدث بانفعال، تسرد قصص ووقائع لم يحضرها سواها، تحكى عن عماتها وجداتها كأبطال أسطوريين، عندما اقتربت من الراكوبة القت على جدتها التحية . بالكاد ردت عليها وهى تلاحق ابطال حكايتها فى احداثهم الخارقة، استجدتها جارتهم بنظرة اولاً ان تفك أسرها، ومن ثم همست لها منتهزة ضعف سمع جدتها: انا عندى حلة فى النار عليك الله امرقينى من حبوبتك دى..بصوت عال قالت للجارة: ياخالة رسلوا ليك بنادوك فى البيت، قفزت الجارة فرحة وهى تعد الجدة بانها ستأتى بعد قليل لتسمع بقية حديثها..تمددت فى السرير المواجه لجدتها لتسمع صوت جدتها يواصل التذمر : ماف زول جاب لى موية من الصباح ،يبقى لى زاد الترب …و…وواصلت تذمراتها بلاتوقف. وضعت دفاتر طلابها جانباً وأبعدت النظارة عن عينيها وهى تواجه زوجها مبتدرة لنقاش كانت تعرف موقفه منه مسبقاً، واصلت حديثها بهدوء، القى برأيه الذى توقعته، فإنفجر بركان “نقتها” ظلت تلاحقه فى غرف البيت وتطالبه بان يواصل المناقشة معها ولايتهرب، كان قد قرر منذ وقت طويل الا يخوض اى نقاش معها فهما يدوران دائماً فى حلقة مفرغة، اذ تصر دوماً على رأيها وتلوى عنق الحقائق، كما انها قد تستنتج من عبارة ما موقف نقيض لمشاعره فتتمسك به وتحاكمه على اساسه ويتحول النقاش لتبرئة لساحته، لذا قرر ان أفضل ما يفعله فى مواجهة “نقتها” هو الصمت … وكان موقفه يجعل بركانها يثور أكثر.فأكثر.. وقفت طفلتها تحاول ان تلفتها الى عطل فى لعبتها.. ظلت يديها تتابع العمل “بالمفراكة” وهى ساهمة تكاد تسمع صوت الصغيرة، بعد فترة طويلة ردت عليها ولكن كانت الطفلة قد يئست من ان تجيبها فرجعت عائدة لداخل غرفتها… أكملت عمل “الملاح” وهى تشعر ببعض الذنب ، فقررت ان تذهب اليها ، ماأن جلست بقربها حتى سمعت صوت طفلها الرضيع يصرخ باكياً ، ركضت اليه وهى تعتذر لصغيرتها، أرضعته كى يعاود نومه لكنه عزف عن صدرها بإصرار. حملته وتوجهت للمطبخ كى تسقيه بعض “اليانسون” ليذهب عنه المغص الذى لازمه طوال الاسبوع، وجدت ان “الملاح” قد غلى وسال على البوتجاز واتسخ كل المكان ، بيد واحدة حاولت ان تنظف المكان، اعدت اليانسون وسقته للصغير، أرقدته بقربها لينام ، ركضت للصغيرة وجدتها ترسم سألتها عما ترسمه لم تجيبها وقبل ان تحاول ارضائها طرق الباب فجاء الأب ، فركضت الأبنة اليه حاملة رسمتها وهى تقفز بسعادة :بابا جاء بابا جاء نظرته بحب وهو يرفعها عن الارض ويقبلها ويبدى اهتمام عال وهى تريه مارسمته..شعرت ببعض الضيق لانها لم تستطع ان تفعل ما فعله ولكنها انسحبت للمطبخ تعد الغداء.. سألته ان احضر معه السلطة ، فضرب على رأسه بكفه مثلما يفعل دائماً فى اشارة للنسيان، تضايقت بشدة وواصلت اعداد الطعام ، حاولت ان تنتظر ان يكمل غداءه لكنها لم تستطع فبدأت تتحدث وتتحدث عن نسيانه المتكررلما تكلفه به دائماً وعدم اهتمامه.و..و..،ولم تتوقف حتى القي برغيفه من يده ساخطاً وهو يغادر الصينية، شعرت بذنب بالغ وأحست بضيق شديد ، وتحيرت لماذا دائماً تفقد السيطرة على رغبتها فى “النقة”!!! فى احدى الطرف الشائعة يحكون عن امرأة كثيرة”النقة” أقنعها زوجها بأن تجعل نقتها يوم بعد يوم، وفى اليوم المحدد لعدم النقة لم تستطع المرأة احتمال الصمت كما ترددت من عدم الايفاء بوعدها، فجلست مواجهة لزوجها وبدأت تردد: بكره النقة…بكره النقة…بكرة النقة.. فما الذى يجعل الرغبة فى الثرثرة والتشكى رغبة ملحة لدى النساء ، يفشلن فى مقاومتها ، وتنصاع لها غالب النساء حتى المتعلمات او المثقفات منهن ، لدى العالمة التربوية ” باتريشا شيللر بعض الإجابات اذ ترى ان الأمهات المتشكيات من الكبت القديم فى تربيتهن يجعلن من الحديث وسيلتهن للتخفف من عدوانيتهن المكبوتة ،وانهن بشكل غير واع يورثن طفلاتهن هذه الآلية . وترى د. باتريشا ان الكبت لدى الطفلات الإناث يبدأ باكراً اذ يتم تلقينهن الحدود بحسم وتقوم الأم من وقت باكر بفصلهن عن أجسادهن ، اذ ان الأم تبدأ عملها بأبعاد الطفلة عن اى تحسس لجسدها او اى وضع يكشف جسدها، وتحرص على تعليمها عدم رفع ثوبها لما فوق ساقيها وغيرها من التعليمات التى تجعل من الطفلة تشعر بأنها محبوسة ومكبوتة . وتشير د. باتريشا الى جزئية هامة فى تعقيد مشاعرنا كنساء تجاه الرجال اذ ترى ان النساء فى الأوضاع الحميمة يرغبن فى ذات الاهتمام الدافى العاطفى الخالى من المسحة الجسدية الذى كن يتلقينه من الأم ، وعندما لايجدن ذلك من الرجل يشعرن بانه لايحبهن بمايكفى ، وتتحول العلاقة الجسدية به لعلاقة غير مشبعة نفسياً ، ويولد عدم الاشباع المتواصل رغبة عميقة فى الثأر من الطرف الآخر تتجسد فى الثرثرة والتشكى المتواصل. كما تلفت انتباهنا الى ان النساء اللاتى يلاحظن أن امهاتهن لايحملن الحب لأبيهن يعانين من تأثير مدمر ، فاذا كانت الابنة تحب والدها. فان سلبية الأم تحدث بداخلها صراعاً ، لانها لاتشعر بالحرية فى ان تحبه ، ان لم تكن الأم تحبه، اذا كانت الأم لاترى الا العيوب ولا تكف عن النقيق والتشكى ، فمن الممكن ان تتحالف الابنة مع أبوها ولكنه سيكون تحالف مثقل بالذنب وتأنيب الضمير، وستكون علاقتها مع الرجال تكرارا لعلاقة امها ابيها وأبيها والنقيق. هذا ما ستتذكره الابنة من الحياة العائلية. أن التعقيد الذى تصنعه الثقافة السائدة بمشاعر الفتيات تعقيد عميق فمن ناحية تحب الطفلة امها ومن ناحية تحسها كسجانتها لذا ما تولده هذه التناقضات الشعورية تجاه أقرب الناس اليها يكون أثره النفسى بالغ .وأخف الضرر فيه هو الرغبة فى الثرثرة، وفى مجتمعنا السودانى تتعقد العلاقة بالرجل أكثر اذ ان الرجل فى حياة الطفلة يظل كائناً غامضاً ومخيفاً.. لان الأب يتخلى للأم عن كل الأعمال القذرة ولكن الضرورية، فهى من تعلمنا الجلوس فى الحمام وتلاحقنا لنظافة ايدينا وغسل شعرنا ، وتجبرنا على انجاز الواجبات ، فى الوقت الذى يتبوأ فيه الأب منصب المدير فهو من ترفع له الشكاوى بأخر النهار ومن يتم التهديد بإخباره عمن أسأ السلوك، كما انه من يمتلك، غالباً، قرار شراء حذاء او فستان جديد، هذا التناقض الشعورى من رغبة بالتصاق بالأب هذا الكائن الغامض ومن خوف منه فى ذات الوقت تورث الطفلات صراعاً لا ينتهى نحو الرجال، وتظل هذه الثقافة تغذى هذا التناقض فمن ناحية تتعلم الطفلة عدم الاقتراب من الرجال وتعتبرهم ذئاب يمكنهم فى اى غفلة منها التهامها ، ويجب عليها الا تأتمنهم مطلقاً، من ناحية أخرى عليها التهيؤ للارتباط الأبدى بهم والزواج منهم واعتبارهم نقطة أمانها ، فكيف نتوقع من كيان الفتاة الصغيرة تفهم هذه الرسائل المتناقضة : الرجال سئيون ولكنهم أزواج جيدون!!! كيف يمكن للنساء ان يتقبلن وجود الرجال الحميم من أجسادهن دون ان يكون هناك أحساس عميق بالذنب، لقد ولدنا- كفتيات – ونحن فى حالة خصام مع أجسادنا ، فكيف نتوقع اندماجنا فى حياة طبيعية ولقد ربتنا جملة تشوهات!!! ان الخوف وانعدام الثقة يتم إسقاطه فيما بعد على كل رجل فى حياتنا والفتاة تكون غاضبة على كل الرجال من أثر تحذير قديم أطلقته الأم . وفى ذات الوقت هن مشدودات ومحبات للرجل فكيف يحللن هذا التناقض الثرثرة هى الوسيلة الآمنة فهن لايرغبن فى مفارقة الرجل ولكن بذات الوقت يحملن مشاعر متناقضة تجاهه لذا التشبث بأى خلاف والنقة حوله هى أفضل صيغة للاستقرار النفسى. ان الخروج من هذه الحلقة المغلقة هو بتأمل عميق ومستبصر لمشاكل تربيتنا لفتياتنا، فضرب الزوجات لن يغلق أفواههن، ولاالتجاهل المر، ولاحتى الاستسلام وتنفيذ كل مايرغبن به فالرغبة فى الثرثرة هى ليست حول موضوع بعينه ، ان النساء النقناقات يقلن عبر سيل ثرثراتهن ان هناك أزمة ضخمة فى تربيتنا لفتياتنا فهل نفكر فى حلول ابداعية وعلمية أم نجعل الدائرة تدور لتتشابه الحبوبات والأمهات والفتيات ، وتتشابه ايضاً ردود الفعال من الرجال فمن يتزوج بأخرى أكثر “نقة” أو من يجعل من زوجته أضحوكة يحادث أصدقائه عن كثرة نقتها ومن يصمت واهماً انه ينجو بصمته .. ويظل المشهد متكرراً مع بعض الاختلاف الديكورى.!! هادية حسب الله [email protected]