في ليلة كساها الحزن على رحيله المؤلم قبل حوالي عام، بصالة الخليل بأم درمان، نظمت اللجنة القومية لتأبين فارس الكلمة الأستاذ محجوب عثمان محمد خير حفلاً لتؤبن من خلاله الفقيد، حضره جمع من أهل الصحافة وزملاء الراحل في الحياة السياسية وهو ابن اليسار البار كما وصفه أحد المتحدثين. أقامت اللجنة المنظمة عند مدخل الصالة معرضاً يحوي سيرة الراحل منذ النشأة الأولى وحتى ولوجه مهنة الصحافة التي أحبها وأخلص لها، حيث عرضت اللجنة نماذج لما كتبه محجوب عثمان بصحيفته (الأيام)، وما نشرته له الصحافة العربية التي كان أحد أعمدتها القلائل من أبناء السودان. الأستاذ دفع الله الحاج يوسف تحدث إنابة عن اللجنة القومية للتأبين قائلاً: “درجت العادة على إقامة مثل هذه الحفلات كلما ترجل فارس من فوارس الحياة الخيار لنتذكره وننقل تجربته للأجيال القادمة”. مضيفاً: “اللجنة القومية لتأبين فقيدنا قررت التحول من التأبين إلى التخليد، وهنالك عدد من المقترحات منها أنشاء مركز (محجوب عثمان) للاستنارة والتدريب الصحفي، وهي فكرة تحتاج لدعم مالي. والفكرة الثانية هي وضع مبلغ في أحد المصارف ليقدم لجائزة (محجوب عثمان) للتميز الصحفي”. تلته الأستاذة أحلام ناصر ممثلة “الحزب الشيوعي فرع بيت المال” التي استهلت كلمتها بمقطع من قصيدة “جيل العطاء” لمحمد المكي إبراهيم، وطافت من خلال كلمتها بجوانب متعددة من حياة الراحل وإسهاماته على مستوى الحزب بفرعية بيت المال وعلى مستوى اللجنة المركزية التي شغل أحد مقاعدها لسنوات طويلة. رائد الصحافة الأستاذ محجوب محمد صالح تحدث عن تجربته مع الراحل في إنشاء صحيفة (الأيام)، بجانب الفارس الراحل الآخر بشير محمد سعيد في العام 1952م وثلاثتهم سماهم الإعلام ب”الفرسان الثلاثة”، حيث وصف رفيقه بالتميز المهني في مجال الإعلام خاصة عندما تولى الوزارة – شغل وزارة الإرشاد القومي “الإعلام” مطلع عقد السبعينات – فقد كان يتحمل الصعاب في سبيل مهنته مدافعاً عن قضايا الناس بقوة واقتدار طلية ستة عقود مضت في بلاط صاحبة الجلالة. مردفاً: “نذر الراحل حياته منذ مولده لخدمة الوطن وكان أكثرنا التزاماً بالمواقف ولم يخالفها، دخل السجون في سن كبيرة كما دخلها في عمر الشباب”. سارة نقد الله رئيس المكتب السياسي بحزب الأمة، وصفت الراحل في ثلاث جمل: (أمدرماني الهوى، يساري الفكر، وطني التوجه).. وفي ختام حديثها طالبت الحضور بالعمل على توريث الأشياء الجملية لأبنائنا كما فعل محجوب. تلاها الأستاذ سليمان حامد عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني الذي تحدث قائلا ً: “ظل محجوب عثمان يؤدي واجبه الحزبي بإخلاص منذ تاريخ انضمامه للحزب في أواخر الخمسينيات رغم مشاغله الكثيرة، لا سيما وهو صحفي يتملك صحيفة بمشاركة آخرين، وهو أيضا واحد من خمسة أعضاء حضروا المؤتمرين الرابع والخامس من أعضاء اللجنة المركزية”. واسترسل: “لقد كرس جل وقته لخدمة قضايا الشعب في جميع المناصب التي تقلدها مدافعاً عن قضايا المرأة والعمال والطلاب، بالإضافة إلى أنه يعد من أفضل أعمدة الرأي في السودان ومدرسة خرجت الكثير من الكوادر الصحفية”. وعن اختياره لأسماء أبنائه قال حامد: “محجوب اختار اسم عبد الخالق لابنه حتى يتطابق مع اسم سكرتير الحزب الشهيد عبد الخالق محجوب، واسم نازك لابنته الراحلة نازك تيمناً بالشاعرة العربية صاحبة الكلمة الرصينة نازك الملائكة”. ليستريح بعدها الحضور مع فيلم وثائقي يحكي عن حياة الراحل منذ بداياته في العمل الوطني وعمله بالصحافة ثم السلك الدبلوماسي، من إعداد المخرج طارق فريجون لمدة نصف ساعة مصحوبة بموسيقى حزينة دمعت معها أعين الحضور، بجانب إفادات للدكتور منصور خالد والسفير ميرغني سليمان اللذين عاصرا الفقيد لفترة من الزمن. حكى خلال الفيلم الراحل عدداً من المواقف لشخصيات في المحيط السياسي والصحافي، وبعض المواقف الطريفة، منها قصة نجاح تظاهرة بورتسودان التي كان هو أحد قياداتها. أفصح لأول مرة عن سر مشاركة الهندودة في تلك التظاهرة وهم بعيدون عن النشاط السياسي قائلاً: “جاءنا في تلك الأيام السيد محمد نور الدين من الخرطوم، فتحدث مع زعماء الهندودة قائلاً لهم: السيد علي قال ليكم: (الجماعة ديل – وهو يقصد محجوب ورفقائه – إذا جوكم للتظاهر أخرجوا معاهم)”. فكانت تلك الكلمات هي سر نجاح التظاهرة التي انطلقت ببورتسودان ضد الجمعية التشريعية إبان فترة الحكومة الاستعماري. ليعتلي المنصة السفير جمال محمد إبراهيم مقدماً كلمة رابطة السفراء السودانيين التي ينتمي إليها الراحل بحكم عمله سفيراً في أوغندا إبان السنوات الأولى لحكم مايو، فعلق جمال بأنه عندما عمل بسفارة السودان في كمبالا وقف عند ثلاثة أشخاص هم محجوب عثمان وعبد الله الحسن وبابكر النور سوار الدهب، مضيفاً بأن محجوب عثمان جاء لوزارة الخارجية بخبرات الصحفي وقدرات من كان وزيراً بحنكة واقتدار، ولكن شاء القدر أن يكون عمره قصيراً في أهم سفارة على المستوى القاري آنذاك، وهي سفارة أوغندا، إلا أنه حقق إنجازات تحسب له حينما أمسك بخيوط المرتزقة الألماني (شنايدر) الذي كان شوكة سامة في خاصرة القارة الأفريقية، حيث نقل نشاطه إلى الكونغو ثم جنوب السودان، ويقال إن له يداً في اغتيال الثائر الإفريقي باترس لوممبا، فنشط في العمل الإهاربي فلم تعتقله يد عسكرية وإنما يد محجوب هي التي أمسكت به. وكان موقف خروجه من السفارة مشرفاً ومثالاً للوفاء واحترام المبادئ عندما احتدام الصراع بين مايو وحركة يوليو 1971م، فما كان منه إلا أن انحاز إلى الصف الثاني تاركاً الوظيفة المرموقة التي يشغلها.