*(سر الحكومات العظيمة هو المعرفة الدقيقة لمقدار المستقبل ومقدار الحاضر الواجب مزجهما..) فيكتور هوغو شاعر وروائي فرنسي .. قد يكون الاختلاف في الرأي، ولاسيما عند تعاظمه، مزعجاً، بيد أن ترشيد ثقافة الاختلاف وتعميق مفهوم المواطنة من شأنهما أن يردما الهوة بين أبناء الوطن الواحد، ويجعلانهم جميعاً مشتركين في عملية بناء الوطن والنهوض به. والواجب على كل مخلص لوطنه أن يعمل على تعزيز مفهوم الحرية والديمقراطية، وأن يكرّس مفهوم المسؤولية عند الجميع، لأنها تمثل حافزاً كبيراً لضبط المتخاصمين من أصحاب النزعات العرقية والطائفية، وعندها يصبح الولاء للوطن هو الهدف الأسمى للجميع، تقل الصدامات والأحقاد. كما أن تحويل الولاءات المحلية والمصالح الشخصية لمصلحة الدولة من شأنه أن يساعد على تعزيز مفهوم السلام الوطني وتقليل حدة الصراعات. علاوة على ذلك، فإن الجو المساعد على الاستثمار والتنمية سيعمل على تقوية الديمقراطية وسيقطع الطريق على أولئك المتربصين بوطننا، الساعين لتمزيقه على أسس عرقية وطائفية مقيتة، بعد أن انفصل جزء عزيز منه. رفض الأجداد الانصياع لها منذ عشرات السنين. إن الديمقراطية الحقيقية والحرية المسؤولة هي النظام الأفضل لدعم الثقافة التعددية بعيداً عن المواقف والممارسات الاستبدادية، فالديمقراطية تهيئ أجواءً ثقافية أثيرة لاحترام المتضجرين سأماً، واحتواء تيار الغبن الناتج عن التهميش السياسي والثقافي. وعندما ننجح في بناء ثقافة حقيقية ومؤسسات سياسية ديمقراطية يشعر أولئك المغبونون فترة طويلة أنهم نالوا قسطاً من حقوقهم التي حرمهم منها أصحاب الثروات والمناصب فترة طويلة، وعندها يصبح هؤلاء مشاركين فاعلين في عملية سياسية ديمقراطية، ويحددون هوية أنفسهم بطرق تختلف عن نماذج التعريف المتشددة، وقتئذ ينأى هؤلاء بأنفسهم عن الدخول في أتون المواجهة مع الدولة. ويكونون، بلا أدنى شك، أنصاراً وطنيين أقوياء لعملية الديمقراطية الأصلية ويشاركون في البناء الديمقراطي أكثر فأكثر بالتشرب من الثقافة الديمقراطية وقيم المشاركة والتعايش. إن حجب حرية التفكير ضار وتجريف عقول الشباب كما ذكر غير مرة الدكتور حيدر إبراهيم علي دائماً فهو من جهة يمنع التطور ويحرم الناس من الأفكار الجديدة التي قد تحتوي على نسبة من الحقيقة، كما أن هذا الحجب يتسبب في غطرسة الأفكار وتصاعد سلطتها.. وهنا بالذات، تصبح شديدة الخطورة والضرر. وهذا ضروري في بلدنا التي عاشت فترة طويلة على سياسة الإقصاء الثقافي والسياسي، فتراكمت الأخطاء وامتلأت النفوس. من هنا.. يكون من الحكمة عدم تجاهل مطالب الشعب السوداني أو تهميش جميع فئاته والاكتفاء بحقنهم بالوعود، كما يحسن عدم الاستهانة بحقوق الحكام والمسؤولين على طول الخط أو رميهم بالفساد! فليس من العدالة ولا الديمقراطية ولا حرية الرأي الدخول بالذم والقذف مالم نكن على إطلاع وثيق على ملفات الفساد، فرمي الكلام على عواهنه جعل المفسد يزداد فساداً من دون اعتبار للرأي العام، حينما تساوى مع النزيه عبر معادلة غير عادلة! برغم اتفاقنا على أن الفساد يبطىء عجلة التنمية، فضلاً عن قهره النفوس وسلبه الانتماء من قلوب المواطنين، ومساهمته في نهب مقومات الأوطان. وتعميق مفهوم المواطنة لا يكون إلا من خلال العملية الديمقراطية التي تقوم على جملة من المعايير تتمثل في المساهمة الفاعلة التي تعطي الفرصة المناسبة لكل مواطن للتعبير والمشاركة عن رغباته وآماله وطرح كل ما يدور في داخله من أسئلة والمساواة في الاقتراع في المرحلة الحاسمة ومشاركته في اتخاذ القرارات، ولاسيما أنه يمثل المحور الأساس فيها، ومن حق كل مواطن اكتساب المعلومات على نحو يمكنه من فهم الأمور المراد اتخاذ القرار بشأنها حيث يتكون عنده الفهم المستنير، وأن يكون هنالك سيطرة نهائية من قبل المواطنين على جدول الأعمال حيث تتوفر لهم الفرصة لاتخاذ القرار فيما يتعلق بالكيفية التي بموجبها وضع القضايا على جدول الأعمال التي يراد إصدار قرار بخصوصها عن طريق العملية الديمقراطية. وتعميق مفهوم المواطنة يحيلنا إلى شرطين أساسيين: - الدولة الوطنية، وما يستتبع ذلك من إقامة مجتمع قومي، (وطني) يقوم على اختيار إرادة العيش المشترك بين أبنائه. - والنظام الديمقراطي واستدعاءاته الكثيرة على مستوى التوازن بين الحقوق والواجبات، بين الخاص والعام، وبين الخصوصيات والشمول. والمواطنة الحقة تعني أول ما تعني الانتماء للوطن، كما أن درجة المواطنة مرتبطة بمدى الشعور بهذا الانتماء اعتباراً لكون الانتماء هو الارتباط الوثيق بالوطن. وبتعبير آخر، فالمواطنة هي أن تعطي للوطن بقدر ما تأخذ منه، وهذا الحد الأدنى للمواطنة وقوامها. وهنا لابد من التأكيد على أن العلاقة بين المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني متداخلة كل التداخل، فمؤسسات المجتمع المدني تعمل على احترام حرية الأفراد، وحماية مصالحهم في مواجهة ضغط الدولة، وهي تعمل وفقا لمبدأ الإدارة الذاتية والتنظيم الذاتي، وتقدم حلولاً فعالة لعدد كبير من المشكلات التي تواجه الأفراد الذين ينضوون تحت رايتها. وهذه الجماعات تنشأ في الأصل انطلاقاً من مبدأ الحد من سلطة الدولة وطغيانها على الأفراد، وهي تقوم على التنظيم والإدارة الذاتية. وتعبر جماعات المجتمع المدني عن طموحاتها وتطلعاتها السياسية في اللحظات السياسية الحرجة، وهي تشحن مفهوم الديمقراطية السياسية بأبعاد اجتماعية وأخلاقية وإنسانية. وتعتمد مبدأ الديمقراطية في ممارساتها الخاصة، كما أنها تؤكد مفهوم المواطنة الحرة وتمنح هذا المفهوم فعالية إنسانية وسياسية تتميز بدرجة عالية من الثقة والاهتمام. فالمواطنة الحديثة كما يرى مايير P.Meyer ، تتمثل في قدرة الفرد على وعي القيم الديمقراطية والأخلاقية الأساسية التي تجعله أكثر قدرةً على اتخاذ خياراته الديمقراطية، وأكثر قدرةً على الفعل في إطار إحساسه بالانتماء إلى كيان اجتماعي منظم ومحدد.. وهي تعني المشاركة الفعالة في مختلف المسؤوليات العامة للمجتمع. من هنا، كان لزاماً على الحكومات جميعها أن تولي كل الاهتمام لتعزيز مفهوم المواطنة، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، كما ينبغي عليها أن تولي اهتماماً كبيراً لمكافحة الفساد بإيقاظ الضمير الجمعي، وتأصيل الانتماء للوطن، وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين، وإشباع حاجاتهم الأساسية التي لها مساس في حياتهم ومستقبلهم وأمنهم من السكن والتعليم والصحة. والحقيقة التي لا مراء فيها أنه لم يعد هناك مَنْ يقبل بمبدأ الوصاية السياسية أو الفكرية أو الأخلاقية التي لا تسمح لأحد بالتفكير خارج سيطرتها، فمن حق كل إنسان منا أن يعبر عن رأيه وعن فكره، لكن ليس من حقه أن يختزل الحقيقة بشخصه أو بفكره، وليس من حقه أن يجرّم الآخرين لأنهم لا يذعنون لفكره، فالذي يقرأ التاريخ يرى أن الإقصاء خطر حقيقي على المجتمع يؤدي في يوم ما إلى تشريع القتل والتدمير، وهو أمر شبيه بما عاشته أوروبا في عصور ظلامها الوسطى، حيث كانت ثقافة تقديس رجل الدين شائعة بالقدر نفسه الذي شاعت فيه محاكم التفتيش التي كانت مهمتها التفتيش في الضمائر وإسقاط التهم على المخالفين. [email protected]