التقيت فى صيف عام 1995 بمدينة ماركفيلد الريفية الساحرة، التى تقع فى الجزء الجنوبى من بريطانيا، بشاب فلسطينى يعمل بالمؤسسة الإسلامية التى استضافتنى لأكمل بحثاً عن (حكومة المدينة فى عهد الرسول «ص»)، وما زلت أعمل فيه ولم يكتمل بعد! استدرجت الشاب الفلسطينى للمناقشة حول تطورات القضية الفلسطينية فوجدته «ما جايب خبر»، وقال لى معتذرا: انه لا يقرأ الجرائد ولا يسمع نشرات الأخبار فى التلفزيون أو الاذاعة، فسألته لماذا؟ فأجابنى: لأنى لا أسمع أو أقرأ شيئاً يسر، فلماذا أتعب نفسى وأرهق أعصابى بمتابعة أخبار أعلم سلفا بأنها سيئة ومحبطة ومحزنة؟ وظننت وقتها أن الرجل يهرب من واقع عربى سيئ دون أن يشعر بمسئوليته فى العمل لاصلاحه، وأن مثل هذه المواقف الهاربة المنهزمة هى التى تكرس الواقع البائس الذى يعيشه العالم العربى. ولكن مراقبة الأحداث فى السودان تجبرك أحيانا لبعض المواقف الانصرافية أو الانهزامية لأنها تبعث على اليأس وتحطم الأعصاب وتدمى القلب. وقد يكون أسلوب الشاب الفلسطينى أحد الوسائل التى ينبغى أن يتعاطاها المرء، خاصة مع تقدم العمر، ليتفادى أمراض القلب والسكرى والذبحة الصدرية! ولست أعجب الآن من انصراف معظم الشباب من الاهتمام بالسياسة دعك من المشاركة فيها، تركوها لشيوخ الستينيات والسبعينيات الذين أدمنوا اللعبة ولا يعرفون شيئا غيرها ولكنهم لا يحسنونها! وحتى لا يظن بى القارئ المبالغة فى القول أو التشاؤم من الاصلاح أنقل إليه نذرا من أخبار بعض صحف الخرطوم التى طالعتها فى يوم واحد اخترته بالصدفة، هو يوم الأربعاء السابع من مارس الجارى. جاء فى «الرأى العام» أن الولاياتالمتحدة وصفت الوضع فى دارفور بأنه شكّل أسوأ مأساة انسانية فى العالم خلال 2006م، وأن كافة أطراف النزاع فى دارفور ارتكبت انتهاكات مريعة لحقوق الانسان استمرت لأربع سنوات تضمنت عمليات قتل جماعى واغتصاب وتعذيب وتجنيد للأطفال. ويحزننى أن بعض المدافعين عن الحكومة يخففون من هذه المأساة بحديث عما يقع فى فلسطين والعراق وأفغانستان وينسون أن تلك فعائل تقوم بها قوة مستعمرة لبلد محتل، فى حين أن مأساة دارفور تقوم بها حكومة وطنية وفصائل متمردة لأهلهم وذويهم فى دارفور، ومع ذلك هناك قدر من المحاسبة والتجريم لما يحدث هناك لا نجده فى بلادنا. وورد فى جريدة «الأيام» أن «صندوق السلام الأمريكى» أصدر تقريرا صنّف فيه 60 دولة من أصل 146 بأنها الأكثر فشلا فى العالم، منها 6 عربية و27 من أعضاء منظمة المؤتمر الاسلامى، وأن السودان جاء على رأس هذه الدول الفاشلة على مستوى العالم يليه العراق فى المرتبة الثالثة والصومال فى السادسة واليمن فى السادسة عشرة. وقد يكون هناك قدر من التسييس أو المبالغة فى هذا التصنيف ولكنه لا يغير كثيرا من الحقيقة أن السودان بوضعه المذرى والمتشرذم والمتحارب هو من أفشل دول العالم، تتحشر كل دول العالم الصغيرة منها والكبيرة فى معالجة مشكلاته المستعصية! جاء فى «السودانى» أن مفوضية تخصيص ومراقبة الايرادات القومية اتهمت وزارة المالية بأنها تأخرت فى تسليم الولايات لأنصبتها واستحقاقاتها لشهرى يناير وفبراير، وأن المفوضية بصدد تقديم تقرير بذلك لرئاسة الجمهورية. وعندما يبث شخص متزن يحسب كلماته بميزان الذهب مثل السيد ابراهيم منعم منصور رئيس المفوضية تلك الشكوى فهذا يعنى أن السيل قد بلغ الزبى، وأن المفوضية عجزت تماما عن معالجة المشكلة مع وزارة المالية الاتحادية. وفى ذات الاحتكاك المالى بين مؤسسة مركزية واحدى الولايات نقلت «السودانى» فى ذلك اليوم المشادة بين وزارة الداخلية وولاية الخرطوم حول جباية رسوم المرور وترخيص السيارات، تقول الولاية بأن تحصيل الشرطة لمخالفات المرور ليست قانونية وأنها لم تستلم منها دينارا واحدا فى حين ادعت الشرطة بأنها قانونية وأن ثلثى الرسوم يذهب للولاية. وحمّل رئيس لجنة الأمن والدفاع بالمجلس الوطنى وزارة الداخلية مسئولية النزاع لأنها تأخرت فى ايداع قانون الشرطة الاتحادى على منضدة البرلمان. ولا ينبغى أن يتوقع أحد تدخل جهة عليا قريبا لفض الاشتباك، فالجهات العليا لم تتدخل من قبل فى الوقت المناسب لحل النزاع الذى نشب بين التأمين الصحى الاتحادى والتأمين الصحى بالولاية، أو بين الامدادات الطبية وادارة الصيدلة، أو بين المناصير وادارة سد مروى، أو بين صندوق المعاشات ووزارة المالية وغير ذلك. وقالت «الرأى العام» ان وزارة الداخلية وضعت يدها على كميات من الأسلحة الثقيلة والخفيفة ضمن خطتها لجمع السلاح بالعاصمة القومية، وأنها جمعت كمية كبيرة من الأسلحة فى الحملات التى انطلقت منذ ثلاثة أشهر. وحسنا فعلت وزارة الداخلية ولكن لماذا صبرت كل هذا الوقت على تواجد السلاح غير المرخص الذى انتشر فى أنحاء الخرطوم الى أن دوى صوته فوق رؤوس المواطنين فى عدة أحياء؟ وأوردت «السودانى» أن عشرات المزارعين بولاية القضارف سيّروا مظاهرات احتجاجية الى مجلس تشريعى الولاية منتقدين سياسة ادارة المخزون الاستراتيجى التى حددت سعرا غير مجز لشراء الذرة من المزارعين وأنها تأخرت كثيرا فى عملية الشراء حتى اضطر كثير من المزارعين الى بيع محاصيلهم بتراب الفلوس، وعند مقابلتهم للوالى ندد المتظاهرون بالمعالجات الفطيرة لسياسة التسويق وحذروا من أنها ستؤدى الى انهيار الزراعة بالولاية، وأمّن رئيس المجلس التشريعى على وجود المشكلة وقال ان هناك لجنة اقتصادية تدرس أبعاد المشكلة وكيفية معالجتها. وفى ولاية سنار تظاهر عشرات المواطنين، كما جاء فى جريدة «الأيام»، ضد قرار الوالى بضم «المزموم» الى محلية أبو حجار، وحمّلوا المؤتمر الوطنى مسئولية اثارة الفتن بين الوحدات الادارية فى ظل غياب التنمية بحجة ايجاد مناصب سياسية لكوادره دون مراعاة لمصالح الجماهير. وقال ضابط الأمن بالوحدة الادارية إن المنطقة باتت فى حالة احتقان وتذمر من كافة المواطنين ومن المتوقع حدوث اشتباكات فى أية لحظة. وفى ذات الجريدة جاء أن عمال ولاية نهر النيل أعلنوا التوقف عن العمل اعتبارا من السابع عشر الى العشرين من الشهر الحالى لعدم صرف العاملين استحقاقاتهم للعام الماضى والمتمثلة فى البديل النقدى والأجر الاضافى للرعاية الطبية والأمانات والتأمينات الاجتماعية. وقال رئيس الهيئة النقابية ان جملة الاستحقاقات بلغت «994» مليون جنيه بجانب استحقاقات العمال الذين انتهت خدمتهم فى سنة 2005 ولم يصرفوا حتى الآن! لماذا تتقوى الحكومة على أضعف قطاعات المجتمع؟ وقالت «السودانى» ان نواب الحركة الشعبية انسحبوا من جلسة اجازة قانون الحكم المحلى بمجلس تشريع ولاية النيل الأبيض احتجاجا على عدم اتاحة الفرصة لهم فى مناقشة بنود القانون. واتهمت بقية الأحزاب المؤتمر الوطنى بالآحادية فى اتخاذ القرارات وأنه تراجع عن ما تم الاتفاق عليه حول القانون، وأنها بصدد رفع مذكرة للنائب الأول ووزير العدل ووالى النيل الأبيض، وأنهم سيقاومون القانون بكافة وسائل التعبير. وجاء فى ذات الجريدة أن الحركة الشعبية طالبت بتقديم طلابها المحتجزين على ذمة التحقيق فى أحداث جامعة النيلين «التى أدت الى مقتل أحد الطلاب» الى المحاكمة أو اطلاق سراحهم، وقال ياسر عرمان ان الحركة «مدت حبال الصبر حول احتجاز طلابها المعتقلين فى أحداث النيلين»، وطالب باطلاق سراح أبو القاسم محمد أبو القاسم، القيادى فى حركة تحرير السودان، أو تقديمه للمحاكمة. وما هو التدخل السياسى فى سير العدالة ان لم يكن هذا؟ ويبدو أن هناك مواطنين درجة أولى ينتمون الى المؤتمر الوطنى والى الحركة الشعبية يجدون دائما من يدافع عنهم بالحق وبالباطل وأن هناك مواطنين درجة ثانية عليهم أن يصبروا الى ما لا نهاية. أما «خرطوم مونيتر» فى ذلك اليوم فأوردت قول ممثلة رئيس الاتحاد الافريقى إنها تشعر بأسف عميق لما حدث فى مدينة الفاشر من هجوم مسلح من قبل أربعة أشخاص على أحد موظفي البعثة الافريقية وحارسه، فقد أوثقوهما وقفلوهما فى حجرة واستولوا على عربة البعثة وبعض الممتلكات القيمة وفروا هاربين. ومع ذلك تقول الحكومة ان قوات الاتحاد الافريقى قادرة على مهمة حفظ الأمن فى كل الاقليم وليس فقط فى الفاشر! وذكرت ذات الجريدة أن بعثة الأممالمتحدة فى الجنوب أرسلت طائرة هليكوبتر فى يوم 5 مارس الى مدينة تامبورا فى غرب الاستوائية لتخلى أربعة من العاملين فى منظمة طوعية عالمية لأن جيش الرب اليوغندى دخل تلك المنطقة بحوالى 1000 جندى وسمعت أصوات اطلاق النيران تدوى فى انحاء المدينة. كانت التهمة فى الماضى أن جيش الحكومة متواطئ مع جيش الرب فما بال جيش الحركة الصديق؟ وفى أحد الأعمدة تعرضت «خرطوم مونيتر» الى مشكلات التعليم العالى بسبب ضعف التمويل مما أدى الى اضرابات واعتصامات فى كل من جامعة النيل الأزرق وكلية الطب بجامعة أم درمان الاسلامية وجامعة شندى بالاضافة الى تأخر دفع مرتبات الأساتذة الى أكثر من شهرين. وتساءلت الجريدة لماذا لا تتحرك وزارة التعليم العالى سريعا لمعالجة تلك المشكلات؟ وعلق الأستاذ محجوب محمد صالح فى عموده المشهور بجريدة «الأيام» على تدخل البنك المركزى لانقاذ موقف البنك السعودى الذى ظل المودعون وقوفا أمام بابه الساعات الطويلة لصرف أموالهم التى أودعوها البنك. وليست هذه هى المرة الأولى التى يتعرض فيها هذا البنك وغيره من البنوك لمثل هذه الأزمة التى تنتج من خلل فى الادارة المالية وعدم الالتزام باجراءات العمل المصرفى. وفى كل مرة يلجأ بنك السودان الى تغيير القيادات ومجالس الادارة والضغط لرفع رأسمال البنك فتستقر الأمور الى حين ثم تعود سيرتها الأولى. وحفلت جرائد ذلك اليوم بالاعلان المدفوع القيمة الذى أصدره مجلس الصحافة والمطبوعات بأن المحكمة أيدت قرار لجنة الشكاوى بالمجلس بايقاف صحيفة «الوطن» لمدة يومين بسبب نشرها لخبر عن رجال ملثمين زاروا الجريدة ليهددوا بارتكاب عمليات عسكرية ضد أهداف أمريكية وأممية بالسودان. ورغم أن الخبر لا يستحق الأهمية التى أعطتها الجريدة لأن الذى يعلن عن مثل ذلك التهديد لا يمكن أن يكون جادا «السواى ما حداث!»، ولكن الاعلان برهن على أن مجلس الصحافة ليس وحده الذى يكبت حرية الرأى فى السودان! هذه حصيلة أخبار يوم واحد7 مارس 2007 فى أربع فقط من جرائد الخرطوم. متى تقع الواقعة؟