جاء في الصحف بداية الأسبوع أن رئيس الجمهورية السيد عمر البشير التقى بوفد اتحاد الفيدرالية الإفريقية للصحافيين وتباحث معهم حول القضايا الإعلامية وأمن على الحريات الصحفية وإتاحتها بالبلاد. كانت التصريحات السابقة التي اطلعنا عليها للسيد الرئيس حول الحريات الصحفية تؤكد أنه يعتبر أن الحريات الصحفية بالبلاد متاحة بدرجة فوق العادة حتى قال مرة إن الواحد (المسئول) يحتاج لتناول حبة ضغط قبل الاطلاع على الصحف. وفي مرة أخرى، قال إن الحريات المتاحة تستغل من البعض بشكل مخرّب مدللا بصحفي كبير ملأ الصحف حول قضايا فساد شركات الاتصالات واتضح أنه ليس لديه أي دليل مطالبا الصحافة بالدليل. وفي هذه المرة قالت الأخبار إن نائب رئيس الاتحاد الدولي للصحافيين يونس مجاهد صرّح بأن وفدهم أطلع البشير على القضايا المتعلقة بالعمل الصحفي خصوصا حماية الصحافيين وأنه لا بد للسودان أن يواجه تحدياته الداخلية والخارجية بمزيد من الانفتاح والديمقراطية. وما نعتقد أن الكثيرين، يعلمونه، أن منحنى الحريات الصحافية في السودان في نزول مريع، بدرجة تجعل ممارسة العمل الصحفي ضربا من العمل في الممنوع، والتحايل في تعبئة (الأفيون: الحقيقة) وتهريبها داخل التقارير أو التحقيقات، وأسوأ أنواع (المخدرات) الصحفية هي كتابة الرأي. وأسوأ أشكالها ذلك الذي يتطرق لذكر مسئولين بعينهم. وإني ككاتبة رأي عانت من هذه الممنوعات على اختلاف المقاعد الصحفية التي قعدت عليها أناشد السيد الرئيس أن يرفع عن الأقلام الصحفية هذا الحرج الذي تلاقيه ويطلب من الصحف إتاحة مساحة لنقد المسئولين، ولا مانع أن يستعين أولئك المسئولون ببرشامة داء ضغط الدم قبل مطالعاتهم الصحفية، فالمعروف عالميا أن (حق النقد) يزيد كلما زادت مسئولية الشخص العامة، وتقل مساحة حريته الشخصية. وأي اتجاه نحو إتاحة الحريات الصحافية في السودان يجب أن يمر أولا بإتاحة حق النقد للمسئولين وتقليل مساحات حرياتهم كلما زادت قاماتهم ومسئولياتهم وليس العكس. إذ نجد أن الجهات المسئولة من الأمن الإعلامي تحاول دفع الصحف بإزاء النقد الموجه للمستويات الدنيا من المسئولين، ونجد أنه من بين المسئولين الكبار أنفسهم فهناك من يتم استهدافه في شكل الضحية، ومحاولة تحميله وزر أخطائه كأنها معزولة عمن حوله وعن المنظومة المتكاملة، ولعل السيد وزير المالية هو خير مثال لكبش الفداء المشار إليه. إن حق النقد هو أحد أهم آليات الصحافة للقيام بعملها ككلب حراسة لأية دولة، فهي التي تنبه للتجاوزات، وتشير لمناطق الخلل، وتشم رائحة الفساد والتجاوز، وتتساءل حول ما يدور من ريب، وهي أشياء تدور وستدور بشكل مكثف في أي نظام يعدم كلب الحراسة أو يوضع له كلب حارس مكمم بقيود وسلاسل، أو مدرب لينبه فقط إذا حدثت بعض الأحداث ويصمت عن أحداث أخرى جسيمة. وأول قيود الحرية الصحفية هي المطالبة بالدليل. فالصحافة ليست وكالة نيابة، إنها تنبه للمفارقات وما يطفح للسطح مما يشير لخلل. وحتى الأدلة التي تتاح للصحافة الاستقصائية فإنها تحتاج لقدرات معدومة في صحافتنا، كما تحتاج أولا وثانيا وعاشرا لإتاحة الوصول للمعلومات وقد أثبتنا في كتابات عديدة أن السودان بلد يحجر على المعلومات بشكل مغلظ: تشريعيا وعبر الثقافة الرائجة والسلوك الدارج في الخدمة المدنية. إن وضع الحريات الصحفية في السودان يثير الرثاء. والسودان مصنف عالميا في المرتبة ال (172) من أصل (178) دولة في مؤشر منظمة (مراسلون بلا حدود) لحرية الصحافة للعام 2010. إنه أسوأ من تونس ومن مصر ومن ليبيا ما قبل الثورة! ونعلم أنه قبل أن تعاد صحيفة (رأي الشعب) مؤخرا للصدور فقد عانت محنة الإيقاف الممتدة، وتبعتها كل من (أجراس الحرية) بحجة أن بعض ملاكها جنوبيون مع أن معظمهم شماليون، ثم (الجريدة). ونعلم أن إغلاق الصحف لفترات أو مصادرة بعض أعدادها طال صحفا عديدة ك(ألوان) و(الميدان) و(الأحداث) و(الصحافة) وفي معظم المرات لا يعلم المسئولون عن هذه الصحف سبب الغضب والمصادرة فيضطرون ل(رمي الودع) الصحفي ومحاولة التكهن بالسبب الذي جعل سوط المصادرة (يحمّدهم) مثلما حدث ل (الأحداث) في أغسطس الماضي. كما نعلم أنه وبعد أن أطلق سراح الأستاذ أبو ذر الأمين فهنالك لا يزال صحافيون معتقلون. والصحافيون مواجهون بقانون ينتهك حرياتهم بشكل حار في وصفه الركبان، ودبجت في ذلك الدراسات والتقارير المحلية والعالمية وعلى رأسها دراسات منظمة (المادة 19) أو الحملة الدولية من أجل حرية التعبير، والتي أكدت أن قانون الصحافة والمطبوعات الصحفية لسنة 2009م في السودان ينتهك أهم الحقوق والحريات الصحفية. هنالك قيود كثيرة على حرية الصحافة نعتقد أنها وضعت بمنطق يمكن فهمه ولكن يجب محاورته نحو المزيد من التحرير. مثلا مسألة القيد الصحفي والتي تعتبر عالميا وإقليميا من الشروط التقييدية منطقها ألا ينحدر العمل الصحفي في السودان، وشخصيا فقد التزمنا بهذا القيد واتجهنا للحصول على شهادة القيد الصحفي منذ 2004، ولكن في المقابل يجب أن تكون هذه القيود متروكة لمواثيق شرف اختيارية وللمؤسسات الصحافية ذاتها لتضع شروطا تأهيلية للملتحقين بها. كذلك شروط رئاسة التحرير وهذه القيود بشكلها الحالي القانوني تشكل حجرا على حرية الصحافة. ويضيف القانون الجنائي كذلك للصحافيين قيودا فيجرّم إشانة السمعة والخبر الكاذب ويحاكمها جنائيا، وهي مواد تحاكم مدنيا بحسب المعايير الدولية المتسقة مع حرية الصحافة. وبذلك ومع انعدام حق النقد وحصانة المسئولين المعنوية السائدة، إضافة لحصانتهم القانونية، صار الصحافيون ضيوفا مكررين على حراسات الشرطة وجلسات المحاكم الجنائية، تطلق عليهم عقوبات الغرامات التي تزيد وتنقص بحسب شنآن الصحفي ومحبته لا حسب (جريرته)، فرأينا في الحبس الأساتذة عادل الباز والحاج وراق ونور الدين مدني وفاطمة غزالي وأمل هباني، والأستاذ جعفر السبكي وصحبه على سبيل المثال لا الحصر. والمشهد لا يكتمل إذا لم ننظر للنزيف الصحافي الأليم الذي جعل أقلاما في قامة الدكتور مرتضى الغالي، والأستاذ الحاج وراق، والأستاذ فائز الشيخ السليك وغيرهم، يفضلون البعد على (البلاد أم سعد) التي لا تتيح لقلم متسعا من رأي أو منطق. بل كيف لا تغزوك الحسرة وأنت ترى أقلاما كالأستاذة رشا عوض والأستاذ خالد فضل يتحولان لخانة النظّارة بعد أن كانا جزءا أصيلا من خشبة المسرح الصحفي، فهما وأمثالهما يشكلون فقدا أليما، فالخشبة أصلا تعاني من الفقر والإسفاف ومن انعدام القدرات، ويزيدها النزيف الصحفي بسبب فيتو الإعلام الأمني جفافا. المطالبة بالحريات الصحافية في السودان الآن هي مطالبة ملحة. فالحريات آيلة لمزيد من التجريف والتجفيف. والأمل ضعيف أن تتم الاستجابة لمناشدة الوفد الأفريقي برغم صحة حجتهم لحاجة بلادنا لتلك الحريات، ولكننا مثلهم، لن نمل تكرار النداء. وليبق ما بيننا