كلما ذُكر اسم مولانا محمد عثمان الميرغني تقفز الى الذهن عبارته التي فتك بها الاستهلاك والتي توجٌه بها خلال فترة توليه رئاسة التجمع الوطني للأحزاب السياسية الى الرئيس عمر البشير والتي قال له فيها: “سلٌم تسلم” ، والعبارة في بحر اللغة يحمل صياغها ما يمكن أن يقال له “الشرط المُضغم”، وهو الشرط الذي يعقبه “الجواب” وهو يقضي بأنه اذا لم يتحقق الشرط (تسليم السلطة) ، فسوف لن يسلم البشير وأنه سوف يدفع ثمن ذلك بمثلما دفعه القذافي ب(نتف) شعر رأسه بأيدي صبية صغار، أو الذي دفعه مبارك وهو يرقد على (الحنطور) الطبي في قفص الاتهام. ما الذي حدث ليجعل مولانا الميرغني يعانق البشير ويرمي له بطوق النجاة ويقبل بالتضحية بمستقبل حزبه ويعرضه للانشقاق بعد أن تعالت الأصوات التي تقف أمام قرار الحزب بالمشاركة في السلطة مع المؤتمر الوطني !!، وما الذي يدفع بالحزب الاتحادي للمشاركة في سلطة ويتحمل اوزارها دون أن يتوصل للاتفاق على الكيفية التي تعالج أزمة الحكم وأخطائه التي ارتكبها في حق البلاد والعباد ، في الوقت الذي يعلم فيه الحزب بأن البشير – رغم المشاركة – سوف يمضي في الحرب بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ولن يدخر طلقة في ازهاق أرواح المزيد من أبناء شعبه ، وكيف يقبل الحزب الاتحادي بالمشاركة في السلطة وهو يعلم بأنه لن يكون في مقدوره – ولا ينبغي له – القيام بمحاسبة المفسدين من أركان النظام الذين نهبوا خيرات البلاد واحالوها لمقتنيات وقصور خاصة !! وكيف يدخل الحزب العريق شريكاً مع نظام يسيطرعلى جهاز الدولة بالكامل، من الشرطي النفر حتى رئيس البرلمان !! ما الفائدة التي يمكن أن تعود للشعب أو لجماهيرالحزب الاتحادي نفسه من تعيين أحد أبناء الختمية كمعتمد لمحلية الكاملين وآخر بمحلية القطينة !! وما الفائدة التي يجنيها شعبنا من تعيين أحد أبناء الحزب الاتحادي بدرجة سفير بسفارة السودان في يوغندا أو اليابان !! وماذا يزيد الناس أو ينقصهم اذا تم تعيين البخاري الجعلي وزيراً للعدل أو حسن صالح وزيراً للاوقاف !! فالحزب الاتحادي الديمقراطي (التايواني) لصاحبه جلال الدقير و ورفيقه البلال وصحبهم سبقوا الحزب الأصل في قسمة السلطة مع الانقاذ الوطني، وجلال ورفاقه اتحاديون أباً عن جد ، تنقلوا في المناصب الوزارية مع الانقاذ كما يتنقل العصفور بين الأغصان، ، فما الذي غيروه في نهج حكم الانقاذ، سوى أنهم شاطروها الفشل والفساد !! مولانا الميرغني يعلم مكر الانقاذ بأكثر مما يدركه غيره من أهل السياسة، فقد كان بشخصه طرفاً في اتفاقية التجمع الوطني التي وقع عليها بالقاهرة مع الانقاذ، وبموجب تلك الاتفاقية وافقت الانقاذ على تكوين لجنة لاعداد مشروع لاصلاح العمل القضائي بعد أن اعترفت الانقاذ بعطبه، ومشروع آخر لاصلاح الخدمة المدنية، كما وافقت الانقاذ بموجب تلك الاتفاقية على اطلاق الحريات وتحرير العمل النقابي واعادة المفصولين من الخدمة المدنية والعسكرية ، وهي الاتفاقية التي لم يجن ثمارها سوى الفريق عبدالرحمن سعيد (القيادة الشرعية) الذي تم تعيينه كوزير للبحث العلمي لبضعة شهور قبل أن يلازم كرسي القماش بمنزله بحي الصفا وهو يحدق في السيارات العابرة . بحسب ما نشر بالصحف اليومية حول ماورد في مضابط اجتماع الهيئة القيادية العليا للحزب الاتحادي الديمقراطي الذي عقد برئاسة السيد محمد عثمان الميرغني، فقد وافقت الهيئة القيادية للحزب على المشاركة في السلطة في كل مستوياتها بمقدار الثلث، وقد تفضل البروفسير البخاري الجعلي القيادي بالحزب بالكشف عن تفاصيل الاتفاق (صحيفة الشرق الأوسط عدد 22 الجاري)، فقال: ” لقد كنا في غاية المرونة، فقد طلبنا وزارة (سيادية) واحدة حددتها لجنة الحزب بالخارجية أو العدل، كما طلبنا وزارة (اقتصادية) واحدة اما الصناعة أو الزراعة، ووزارة (خدمية) واحدة اما الشئون الدينية والأوقاف أو الرعاية الاجتماعية، وتركنا بقية نصيب الحكم من الوزارات ليقوم بتحديده المؤتمر الوطني”. وفي نصيب الحزب بالخدمة المدنية يقول البخاري الجعلي: “طلبنا أن يرشح الحزب سفيرا في إحدى السفارات الخمس العريقة بالنسبة للسودان (القاهرة والرياض وأديس أبابا ولندن ونيويورك)، ثم أي خمس سفارات أخرى بصرف النظر عن أهميتها، كما طلبنا أن يرشح الحزب مديراً لإحدى الجامعات الخمس العريقة، ومدير آخر لإحدى الجامعات الثلاثين الأخرى، كما طالبنا بثلاثة معتمدين في كل ولاية من ولايات السودان”. ويمضي الجعلي فيقول: ” أما عن السلطة العدلية، فإن الحزب قد طلب أن يُرشح مائة شخصية قانونية، يقوم المؤتمر الوطني بتعيين (واحد) منها في المحكمة الدستورية و3 في المحكمة العليا و5 قضاة رؤساء محاكم استئناف وقاضي استئناف في كل ولاية من ولايات السودان”، اضافة لذلك والحديث لا يزال للبخاري الجعلي: “طلبنا اللجنة أن يتقدم 30 قانونيا للعمل كمستشارين بوزارة العدل يُعين منهم المؤتمر الوطني 10 وفقا لمؤهلاتهم وتواريخ تخرجهم مع المواقع التي يحتلها أبناء دفعتهم”. للمرء أن يتساءل عن السر الذي يقف خلف السبب الذي دائماً ما يدفع بالجهات التي تتقاسم السلطة مع الانقاذ للتمسك بمناصب (السفراء) بوزارة الخارجية دون بقية وظائف الدولة الأخرى التي يمكن من خلالها تقديم خدمة الشعب بطريقة مباشرة وأكثر فعالية، كوظائف مديري المدارس ومسئولي صحة البيئة وغيرها من الوظائف التي يجني نفعها عامة الناس لا شاغليها وحدهم، فحين قامت الحركة الشعبية بتوقيع اتفاقية نيفاشا، لم تتمسك من مجموع الثمانية وعشرون بالمائة من الوظائف الحكومية بجهاز الدولة بالشمال الاٌ بنصيبها في وظائف (السفراء) بوزارة الخارجية، وتغاضت عن حصتها في بقية الوظائف، ولعلخ ذات السر الذي دفع بوزير الخارجية علي كرتي للتضحية على حساب نفسه بابتعاث زوجته الشخصية ليقيم منها سفيراً بروما. أكثر ما يثير الانتباه والحنق معاً، ما ورد في خصوص مطالبة الحزب الاتحادي بحقه في ترشيح القضاة بالمحاكم ، وقد يكون الباعث في رغبة الحزب في اقتسام مثل هذه الوظائف مع المؤتمر الوطني يكمن في المخصصات والامتيازات المغرية التي يتمتع بها قضاة الانقاذ، ولو كان الأمر كذلك لما اثار فينا من الشجون التي تلبٌستنا من مثل هذا النمط من التفكير ، الاٌ أنه ينبغي علينا القول بأن ترشيح حزب سياسي لأسماء أسماء لشغل وظائف القضاء، يطعن بشكل مباشر في مبدأ استقلال القضاء بخنجر مسموم، فالقاضي الذي يجلس في منصة القضاء ضمن (كوتة) الاتحادي الديمقراطي وهو يحمل (جميل) الحزب في بلوغه المنصب، لا يمكنه الدفع بحياده مهما بلغت نزاهته، وواقع الأمر، لم تفعل الانقاذ في شأن القضاء والعدالة باكثر مما يسعى الحزب الاتحادي الديمقراطي لتحقيقه بمثل هذا المطلب الشائه. ا يدري المرء الى أين سوف تنتهي هذه المفاوضات، ولكن يبقى علينا القول بأنه لن يكون من المقبول أن يدفع الحزب عن نفسه مسئوليته مما جرى ويجري في البلاد اذا قدر له المشاركة بمثل هذه الكيفية المهينة في حق تاريخه الناصع، فكما يقطف الحزب لابنائه (خيرات) السلطة، سوف يكون عليه أيضاً تحمل أخطاء شركائه في حكومة الانقاذ، ويومها سوف يدرك (مولانا) الثمن الذي دفعه لقاء حفنة مناصب لحفنة من الأعيان. وأخيراً، فانه لا بد لنا من التأكيد على أننا نوجه خطابنا لحضرة مولانا محمد عثمان الميرغني في صفته كرجل دولة وسياسة لا في صفته كزعيم ديني وروحي لطائفة الختمية، ولا أعتقد أن مولانا يدعي لنفسه عصمة، فسيدنا رسول الله (ص) قال لصحبه حين أخذوا حديثه (كنبي) في امر من شئون الحياة وتبين خطأه : ” أذهبوا فأنتم أدرى بأمور دنياكم”، ونحن لا نملك الاٌ أن ندعوا الله أن يحفظ هذا الوطن من أبنائه، وأن يهديهم سواء السبيل، أما الثورة فهي قادمة باذن الله وتطرق على البواب، ويومها، كل نفس بما كسبت رهينة. [email protected]