شغل الناس كثيرا بتنصيب شقيقي عبد الرحمن مساعدا لرئيس الجمهورية، وهم في ذلك غير ملومين والإعلام الرسمي يزيد الرقيق ماء لغرض في نفس (المؤتمر الوطني). وسوف نتعرض لعدد من الحقائق حول الأمر نختمها بشهادة حول الإمام. الحقيقة الأولى هي أن اللب الوطني السوداني وصل منذ فترة طويلة وعبر تفكير سديد أو تجارب مريرة إلا أن الاشتراك في مؤسسات حكم «الإنقاذ» قد يبني قصرا لصاحبه ولكنه يهدم مصرا للبلاد. فهو يساهم في الترويج لخدعة المؤتمر الوطني بأنه مقبول وطنيا، وأن الأحزاب السياسية ذات الشرعية ورموزها تشاركه. ولذلك كلما جلس الناس إلى المؤتمر الوطني للحوار حول قضايا البلاد، يترك كل شيء آخر ويمر عليه سراعا مؤمنا على ما يستطيع التأمين به اليوم ليجبه الغد، ثم يدلف إلى ملف المشاركة قائلا لمحاوريه: ها نحن اتفقنا على ما تريدون فتعالوا شاركونا في تنفيذه! وهم الأعلم أنه ما من تنفيذ ولا يحزنون! ولكنهم قوم مخادعون. والحقيقة الثانية هي أن عبدالرحمن هو الابن الأكبر للإمام وقائد جيش الأمة للتحرير ومخطط ومنفذ عملية تهتدون وكان قياديا بحزب الأمة القومي حتى استقال من منصبه كمساعد لرئيس الحزب قبل نحو عام ونصف العام وكان منذ العودة في نوفمبر 2000م، يؤمن بالمشاركة وسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية، ويشاركه في ذلك الغالبية الساحقة من جيش الأمة ولم يشذ منهم لدى مناقشة مسألة المشاركة إلا الدكتورة مريم الصادق المهدي. وشكل موقفه ذلك معضدا لدعوة المشاركة التي قادها السيد مبارك الفاضل داخل مؤسسات الحزب وأجهزته، ولكنه تنحى عن تياره لدى محاولته اختطاف قرار الحزب ودك مؤسساته لإقامة حزب يحل محله عام 2002م. ومع ذلك ظل عبدالرحمن يدعو للمشاركة ليلا ونهارا ولم يزد كلامه حزب الأمة إلا إصرارا، حتى استقال من منصبه القيادي وعاد ضابطا في القوات المسلحة. فوقوف عبد الرحمن مع المشاركة ليس خبرا جديدا. الخبر الجديد هو مشاركته برغم محبته المعروفة لوالده وبرغم موقف والده وحزب الأمة المعارضين لها، وبدون أن يقف على المصاطب لاعنا، ولا أن يجفو أهله المعارضين ولا يجفونه بل يصدر الإمام بيانا استباقيا متفهما لمشاركته كضابط ومؤكدا مقاطعة حزب الأمة ومقاطعته للمشاركة. وهو موقف صعب فهمه. قلت للإمام: كان يكفي أن تذكر ماضيه وتذكر أنه لا يمثلك ولا حزب الأمة بدون ذكر مهمة يرجو إنجازها فتلك المناصب أسماء سماها المؤتمر الوطني وما أنزل بها من سلطان. فسر البعض هذا الموقف على أنه توزيع أدوار بين الابن ووالده، وبينه وبين أخوانه وأخواته الذين ظلوا في مكانهم المعارض بقوة، وصمتوا من حرج الموقف مفضلين أن يكون كلامهم وكلامهن معه بالمراجعة والنصح، وحفظ الود مع الاختلاف. الحقيقة الثالثة هي أن الإمام الصادق المهدي علقت عليه آمال كثيرة في أن يكون رأس الرمح للثورة المرتقبة، وسط عجز يلف القوى السياسية المختلفة، ويأس منها دب في أوصال الضمير الوطني، وبقية أمل في حزب الأمة بقيادته باعتباره الأكثر تماسكا وحراكا. وبقدر تلك الآمال بقدر ما انتاشته السهام حتى أشفق عليه منها بعض النظّارة، ومنهم أستاذنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم وهو يستغرب من البعض قولهم إن الصادق خيب آمالنا بينما هم لم يحملوا مع الصادق طوبة تخول لهم تلك الخيبة! ولعل أبلغ ما قيل في ذلك مقال الأستاذ عمر العمر (النخبة السياسية إذ تنشغل بالمهدي)، فهو ينصح أولئك المنتظرين الصادق أن يتخذوا طريقهم الذي يرون بعيدا عنه. ولكن برأيي أن لوم هذه النخبة، وضجرها هو مما يسميه أهلنا (لوم العشم) وهو بعض مما نحبه للصادق، وقد أحبته له والدته السيدة رحمة رحمها الله حينما كانت تهدهده صغيرا إذا مرض: برية يا يابا.. تبقى غابة والناس حطابة! فقد أحبت له احتطاب الناس فيه وهي ترجو لغابتها ألا تضار باحتطاب ولا تنتظر شحا مهما كثر أو جار. الحقيقة الرابعة، إن الحديث عن موقف الإمام وأسرته من هذا التنصيب طاشت سهامه شرقا وغربا بدون أن تسبر غوره. نحن نتفق مع من يرفض التنصيب مبدئيا ويخطّئه حاليا، ويرد القراءة السياسية التي أدت إلى قبوله، ويقول إنه في النهاية يصب لصالح المؤتمر الوطني ويعطيه دفعة في تبريراته ودعاياته الخرقاء، وإنه يجعل صاحبه في موقع لا يحسد عليه، لا يحبه له حبيب ويسر له العدو، ولكننا نخالف التحليلات التي ذهبت مذهب ضعف الإمام أمام ابنه أو توزيع الأدوار بينهما، للدرجة التي جعلت بروفيسور عبد اللطيف البوني يعتبر تهشيم ذراع مريم الشجاعة كان ضمن مسرحية. طبعا أعطت متلازمة (السجن حبيسا والقصر رئيسا) ومستتبعاتها سابقة خلطت رأس أهل السودان وجففت ماء التصديق منه، ولكن الذي ينظر بعين البصيرة يعلم الصادقين من الكاذبين، فمن الساسة من تحرى الصدق حتى كتب صديقا، ومنهم من يحتار حتى بعض أتباعه هل يعارض حقا أم هي أدوار مرسومة؟ ومشكلة البوني أنه عامل المشاهد كلها على أنها في رواية واحدة، وصدّق ما اعتاده من توهم!الحقيقة الخامسة، إن موقف الإمام المبدئي من رفض المشاركة في نظام سلطوي، إضافة لموقف جماهير الحزب والأنصار القوي هما العاصمان الأساسيان لتمكن التيارات المنادية بالمشاركة من اختطاف قرار الحزب عبر وسائل الضغط والتجييش المعتادة وسط الكادر، وهذا ما فطن له من قبل السيد مبارك الفاضل فاتهم رئيس الحزب بالتقاعس في المشاركة منتقدا تصديه لمذكرته المجيشة للمشاركة بمذكرة مكتوبة، وقد تعرضنا لذلك تفصيلا في كتاب (الاختراق والانسلاخ في حزب الأمة) مؤكدين أن موقف رئيس الحزب بالتصدي لمذكرته بمذكرة مفندة في حد ذاته عمل ديمقراطي لا غبار عليه! والمكتب السياسي هو صاحب القرار في النهاية لا الأفراد مهما بلغ اسمهم أو منصبهم.لماذا إذن سمح لعبد الرحمن بالاشتراك بالرغم من الضرر البائن؟ بل وأصدر بيانا يشير فيه لإمكانية قيامه بمهمة وطنية لو كانت ممكنة لكان من الأفضل أن يشارك الحزب ككل؟ قال الإمام في برنامج (في الواجهة) بالجمعة، إنه لا يتدخل في رسم مواقف أبنائه وإن بعضهم وبعضهن يتخذ مواقف مزايدة عليه في الموقف من المؤتمر الوطني مستشهدا برسالتي المفتوحة إليه بعنوان: (لا خير فيهم سيدي الإمام وكلفتهم الأكبر) وبكتابتي في صحيفة (حريات) الإلكترونية التي تتخذ خطا أماميا في معارضة المؤتمر الوطني.والغريب أن يعتبر رئيس تحرير الصحيفة الصديق أستاذ الحاج وراق أن الإمام (يأخذ عليه شخصياً موقفه المتعاطف مع حركات المقاومة المسلحة لأهل الهامش) وكذلك أن (يتمنى أن يرضى الامام الصادق بكتابة رباح في (حريات)، أقله كما يرضى كتابتها في «الرأي العام»). فالمهدي ذاته متعاطف مع الهامش ومع عدالة قضية حاملي السلاح وإن كان يخالف وسيلتهم، كما إنني كشاهدة على موقفه مما استشهد به وراق أشهد باندهاشه من كتابتي ب(الرأي العام) فمع كونها صحيفة عريقة مرموقة إلا أن خطها التحريري أقرب للحكومة من المعارضة، ولم يندهش أبدا لالتحاقي ب(حريات) وإن أشفق عليّ من خطها الأمامي في مواجهة سافرة ربما تتاح للمحررين من خارج البلاد وقد تجر على المقيمين بالداخل غضبة الجبروت. وفي الحالين لم يتخط حديثه هامش التعليق ليصل دائرة الأمر والنهي.كتب (عصام حمدي) معلقا على خبر حريات أنه لم يتحر الدقة، قائلا: (كان الصادق المهدي يوضح أن هنالك تباينا في مواقف عائلته تجاه نظام الانقاذ تتراوح بين دعوة ابنه العقيد عبد الرحمن للمشاركة في الإنقاذ الى مقالات ابنته السيدة رباح الصادق في حريات لإسقاط النظام وأنه يترك المساحة الكافية لكليهما للتحرك للتعبير عن فكره بالطريقة التي يرونها مناسبة، وتساءل لماذا لم يتم تحميله مسؤولية مقالات ابنته رباح في (حريات) بينما يحاول البعض الادعاء بأن قرار المشاركة للعقيد عبد الرحمن تم بمباركته وتأييده؟) وهذه هي القصة. وقد استشهد الإمام لإثباتها بأنه لم يكن راضيا ببعض الزيجات التي تمت في أسرته ولكنه لم يتدخل بمنع الواحد والواحدة من اتخاذ خياره وباركه له في النهاية، ولنا في ذلك روايات ومواقف لا نحب تفصيلها ولكنا نشهد بصدق ما قال.قال بعض الناس إن هذا ضعف فكيف يستطيع أن يتحكم في حزب وهو لا يتحكم في ابنه؟ والسؤال هو: هل المطلوب أن يتحكم القائد في حزبه؟ وهل أجرى أحدهم/ إحداهن إحصاء للمناسبات التي اتخذ فيها حزب الأمة قرارا ضد رؤى الصادق فقاد ركاب الحزب مذعنا لرأي الجماعة؟ قال لهم في 1964م وفي 1985 غيروا اسم الحزب فرفضوا، وقف ضد مشاركة الجبهة الإسلامية في 1988م وأقروها، وقف مع مبادرة الميرغني في نفس العام ورفضوها قبل التوضيحات، ووقف مع المشاركة الجزئية في انتخابات أبريل 2010م ورفضوها، وهكذا. الإمام الصادق المهدي غابة ضخمة تحتمل الاحتطاب وليس سدا يمنع مرور الرياح أيا كانت اتجاهاتها، ولهذا يطيب لنا في ظلاله المقيل، حتى ولو كنا نخالفه هذا الرأي أو ذاك، أو لا نحب منه هذا الموقف أو ذاك، ببساطة لأنه يتركنا نأخذ تلك الرؤى وتلك المواقف المغايرة مع أنه لو أراد وقال للواحد والواحدة لا، لانقرعنا عما يكرهه وسرنا في الدرب الذي يشير عليه حبا وكرامة.وليبق ما بيننا.