كانت أوروبا في القرن التاسع عشر مسرحاً دائماً للحرب بين الدول والدول في طور التكوين . وكانت معظم تلك الحروبات بين امبراطورية نابليون والدولة المعادية لها . واثناء هذه الحروب ، رغم ان ذلك يبدو متناقضاً ، بدأت الأطراف المتحاربة في تطوير قيم وقواعد معينة تلتزم بها لضمان خوض الحرب بطريقة عادلة . وكان تضمين المبادي الانسانية في القانون الدولي ، عبر اتفاقيات جنيف الشهيرة ، تطوراً كبيرة في ( مأسسة) الحرب . والشخص الذي لعب دوراً محورياً في هذه التطورات ، هنري دونانت ، وتشكل سيرته الشخصية أنموذجاً حول كيف ان فرداً واحداً يمكن ان يكون ذا قيمة عظيمة في تقدم الانسانية . كان دونانت ، سويسري الجنسية ، ورجل أعمال ، يسافر بصورة منتظمة في أنحاء القارة الأوروبية . وفي عام 1859 سافر إلى ايطاليا من أجل التجارة ، وعندما وصل إلى مدينة سولفرينو في شمال ايطاليا ، كانت معركة بين جيش نابليون والجيش الايطالي قد توقفت للتو . وصدم دونانت لما شاهده في المدينة وحولها . الجنود القتلى والجرحى من الجيشين في ساحة المعركة غير قادرين على التحرك ولا يتلقون اية مساعدة . ودفعت معاناة الجنود ، وحقيقة ألا أحد يساعدهم ، دونانت كي يهرع إلى أقرب مستشفى ، ليجمع مواداً طبية وأطباء وممرضات . ومعاً ، ذهبوا إلى ساحة المعركة وقدموا العناية للجنود الجرحى . كانت فكرته : حقيقة أن احداهن أو أحدهم جندياً لا تعني انه لم يعد يستحق ان يعامل كانسان ! وعندما رجع إلى جنيف لم يستطيع أن ينتزع صورة ساحة المعركة من ذاكرته . لم يكن رأى شيئاً غير انساني كهذا من قبل . كتب كتاباً عن تجربته تلك ، وقد نشر بعد سنوات قليلة ، ولكن جهوده لم تتوقف عند ذلك . في عام 1863 نظم مع بعض المحامين في جنيف اجتماعات لمناقشة السلوك الصحيح أثناء الحرب . وفي عام 1864 قادت تلك المناقشة إلى عقد مؤتمر لمجموعة من الدول الأوروبية في جنيف ، حيث تم تبني اتفاقية جنيف الأولى ، والزمت الاتفاقية الأطراف المتحاربة بالعناية بالجنود المرضى والجرحى في ساحة المعركة وبالسماح للمنظمات الانسانية الطبية بالتواجد والعناية بالجنود الجرحى . وأسس دونانت منظمة الصليب الاحمر كمنظمة طبية مستقلة . ونظرا لاسهامة البارز في تطوير المبادئ الانسانية والقانون الانساني منح دونانت جائزة نوبل للسلام في عام 1901 . وفي السنوات اللاحقة وضعت قواعد أكثر للسلوك أثناء الحرب . وتم اعتماد اتفاقيتي جنيف الثانية والثالثة في عام 1906 و1926 اللتين ضمنتا حقوق أسرى الحرب . وبعد الحرب العالمية الثانية ، والتي تعرض اثناءها المدنيون لأبشع أنواع المعاملة من قبل النازيين ، اعتمدت اتفاقية جنيف الرابعة في عام 1949 ، والتي أرست مبادئ حماية المدنيين أثناء الحرب . علاوة على ذلك ، مع محاكمة النازيين في محكمة (نورمبرج) ، صارت المبادئ الانسانية محمية أكثر في القانون الدولي ، ويشكل انتهاكها جريمة ، يمكن ان يعاقب عليها الفرد المعنى . وفي أثناء القرن العشرين حدثت تطورات ايجابية اخرى ، مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، واعتماد مبدأ مسؤولية الحماية لاحقاً في عام 2005 . وقدم انشاء المحكمة الجنائية الدولية وسيلة محتملة لضمان التقيد بالمبادئ الانسانية . ولكن حقيقة ان المبادئ الانسانية صارت أقوى في مجرى القرن العشرين لا يعني ان حياة المدافعين عن هذه المبادئ صارت أسهل . فالقواعد الانسانية تشكل خطراً على الطغاة الذين يدافعون عن سلطتهم بانتهاك حقوق الانسان تحديداً . والسلوك الصحيح أثناء الحرب مكلف ويتطلب التزاماً واستثماراً من جانب الأطراف المتحاربة ، ولكن عديد من السياسيين لا يرغبون في منح هذا الالتزام . لماذا تفعل أفضل ما عندك لحماية المدنيين اذا كان قتلهم أقل تكلفة وأكثر فاعلية ؟ هذه بالضبط طريقة تفكير نظام البشير المعتادة في حروبه المتعددة التي انتهك فيها كل مبدأ من مبادئ الانسانية . ويعمل كثير من الناس في منظمات الاغاثة الانسانية في دارفور والأماكن الاخرى من السودان بروحية هنري دونانت . ويتعرضون للمضايقات بصورة منتظمة من الأمن السوداني الذي لا يوفر شيئا لعرقلة عملهم . والسودانيون خصوصاً الذين يعملون في منظمات الاغاثة يخشون من هجمات الحكومة الانتقامية ولكنهم مع ذلك يخاطرون بحياتهم من أجل الدفاع عن التعامل الانساني مع ضحايا النزاعات في السودان . وواضعين في الاعتبار الأعداء الكثيرين للمبادئ الانسانية ، الذين يتألفون بالأساس من السياسيين الذين يعطون قيمة للسلطة أعلى من الانسانية ، ينبغي أن نكون ممتنين بانه لا يزال هناك الكثير جدا من المدافعين عن حقوق الانسان حول العالم ، رغم كل المخاطر . وحقيقة انهم يواصلون عملهم ، تعطينا الأمل بانه في يوما ما ، سيكون من الممكن هزيمة أعداء الانسانية .