بسم الله الرحمن الرحيم د.عبد الرحمن الغالي.. تاريخ الغناء السوداني أخصب وأكثر تعقيدا مما يظن الكثيرون، تتداخل فيه العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية شأنه شأن كل غناء في أي بلد آخر ولكنه يمتاز بخصوبة عالية وصراع واضح في الأفكار والرؤى وهذا ما يمكن تفصيله في سياق آخر. في سنوية مصطفى سيد أحمد السادسة عشر تطمح هذه الكلمة في طرح سؤال لا الاجابة عليه وهو: ماذا اضاف مصطفى سيد أحمد للغناء السوداني؟ بالغناء السوداني أعني الغناء السوداني الحديث الذي نشأ في أعقاب دخول الاستعمار الثنائي البلاد وتشكل في حاضرته الوطنية أمدرمان مستفيداً مما سبقه من إرث موسيقي وشعري في الدولة الوطنية الأولى أولاً. وهو ما تمثل بصفة أساسية في فن المدائح التي أخذ واقتبس منها شعراء الحقيبة شكلها واقتبس ملحنو الحقيبة كثيرا من ألحانها. وثانياً مستفيداً من التلاقح الذي نشأ في العاصمة بين مختلف الثقافات السودانية والوافدة. وغنى عن القول إننا نحصر حديثنا في هذا ولن نتطرق إلى الغناء السوداني الموجود في تراث كافة القوميات السودانية في مناطقها المختلفة. يمكن أن يشير مؤرخو الغناء السوداني للعبادي كأول شاعر يكتب بالطريقة الجديدة ليملأ القوالب اللحنية التي أتى بها محمد ود الفكي من منطقة كبوشية مستبدلاً الكلمات الريفية المحدودة بلغة وأفكار مدينية جديدة ويمكن أن يشيروا إليه (العبادي) بأنه رائد الغناء باكتشافه للحاج محمد أحمد سرور الذي يمكن أن يشار إليه بدوره كأول رائد يحول الغناء من الطنبرة والكرير إلى الشكل الحديث. كذلك يمكن أن يشار لسرور في سعيه للتجديد والتجريب كأول من أدخل الرق والصاجات وأول من غنى بالكمان وأول من نظم حفلاً تجارياً (خلاف الغناء في مناسبات الأعراس) وأول من وزع اسطوناته خارج السودان. وكان عبد الله الماحي هو أول من سجل اسطوانات غنائية. كذلك فقد أشار مؤرخو الغناء السوداني إلى خليل فرح كرائد من رواد كتابة الغناء السوداني وهو أول من أدخل رمزية “الوطن/ الحبيبة” في شعره وكان من أوائل من أدخل آلة العود في الغناء، وكانت أغنيته “عازة” أول أغنية بها مقدمة موسيقية بالإضافة إلى اللحن الأساسي، أخذ المقدمة الموسيقية من مارش عسكري أسمه “ود الشريف رايوكمل”. واللحن الاساسي من أغنية شعبية اسمها “عمتي حواء” وكذلك يمكن الإشارة كذلك لحثه إسماعيل عبد المعين لاستعمال السلم الكامل (السباعي) وهي قضية استحوذت على اهتمام الموسيقيين لزمن طويل. وهي القضية التي استحوذت على اهتمام الفنان محمد الأمين وقدم فيها تجارب ناجحة اثبت أن اللحن يمكن أن يكون سباعيا وسودانيا في نفس الوقت. وكذلك أشاروا إلى كرومة وريادته في ابتدار الحان جديدة وطلبه من الشعراء كتابة كلمات ليست على العمود القديم كما فعل عبد الرحمن الريح ومحمد بشير عتيق، وكذلك يمكن الإشارة إلى إصراره على رفض الغناء بالموسيقى لأنها تقيد صوته والفضاءات التي يمكن أن ينطلق فيه وإصراره على أن تكون الموسيقى خلفية خافتة لأظهار الصوت البشري وهي الفكرة التي قامت عليها فرقة عقد الجلاد في عهدها الأول . وأشاروا إلى إسماعيل عبد المعين كأول سوداني يدرس الموسيقى دراسة نظامية ويستفيد منها حيث كان من المنقبين عن التراث الموسيقي لدى مختلف القوميات السودانية، فوظف ذلك التراث في الحانه وأوضح مثال لذلك مقطوعته “يقظة شعب” التي صارت شعاراً للأسطول الأمريكي في البحر المتوسط. وكذلك أناشيد المؤتمر ” للعلا” لخضر حمد و “صه يا كنار” لمحمود أبي بكر و ” صرخة روت دمي” لمحي الدين صابر. وكما اشرنا فقد كان إسماعيل ملتزما بالسلم الخماسي وكان أول من استفاد من ايقاع التم تم الذي كان شائعاً ولكنه كان منبوذاً لأنه ارتبط بكلمات مبتذلة. ثم من بعد ملأ سيد عبد العزيز وعبد الرحمن الريح وغيرهم تلك الالحان بكلمات جادة. وأشاروا لحسن عطية كأول من غنى بالعود في الإذاعة ولعائشة الفلاتية كأول مطربة بالاذاعة ولأختها جداوية كأول عازفة عود محترفة. ولريادة التاج مصطفى اللحنية ولإبراهيم الكاشف كأول من جعل للموسىيقى دوراً غير تكرار اللحن وأول من جدد اللزم الموسيقية، وأول من أنشأ فرقة موسيقية مصاحبة له. ولسيد خليفة كأول من أدخل “الكورس” النسائي اقتبسه من مصر وصار شائعاً بعده في الغناء. ولمصطفى كامل “المصري” الذي أدخل “القانون” والذي درس بمدرسة الموسيىقى باتحاد الفنانين ونوَّت الاغاني واشرف على تدريب العازفين. ولمتولي عيد مراقب الإذاعة كأول من انشأ معهداً لتدريب الموسيقى بالإذاعة. ولوردي الذي جمع بين التراث والتحديث حيث كان أول من وزع أغنية على النمط الحديث (الود التي وزعها أندرية رايدر) واستعمل فيها الطنبور. كما كان أول من استعمل الصفارة بالفم في أغنية “الحبيب قلبو طيب”. وأشاروا لبشير عباس كأول من أدخل كلاماً على المقطوعات الموسيقية مقطوعة ألحان (يا ترُى). وأشاروا لمحمد الأمين كأول مجرب للغناء بالسلم الكامل و كأول من ابتدع ما يمكن أن نسميه بالغناء الملحمي ومشاركة عدد كبير من المغنيين في عمل واحد وتوزيع الأدوار عليهم. وكأول من أضاف وتراً سادساً لآلة العود التي يجيدها ويجيد توظيفها. وكذلك لأبي عبيدة حسن الذي أضاف وتراً سادساً للطنبور وأدخل عليه الكهرباء ولأحمد زاهر كأول من أدخل الماندلين الذي كان إبراهيم خوجلي والنور الجيلاني أول من اعتمدا عليه. يمكن الإشارة لهؤلاء وغيرهم من الرواد. فماذا عن مصطفى؟ أول ما يميز مصطفى أنه صاحب رسالة فنية وفكرية والناظر لسيرته يدرك ذلك من إصراره – رغم كل العوائق – على السير في ذلك الطريق لأداء رسالته. أما الرسالة الفنية فتدفعه للتجوبد الفني بالتجريب والتمرين والدرس والاستشارة …الخ وأما الرسالة الفكرية فتبدو في اختياره الكلمات وتدخله في المضامين وذلك ما رواه بعض شعرائه من تشاوره معهم واقتراحه عليهم تعديلات تفي بغرض الرسالة التي يريد إيصالها: من التزام بالقضايا الوطنية وبث الأمل في الشعب. وثاني مميزاته أنه ناقد فني وشعري من الطراز الأول يتضح ذلك من اختياراته لأغاني الغير التي أداها ومن اختياره لقصائده . ساعده في ذلك :أنه صاحب رصيد معرفي كبير استمع لكثير من الغناء وقرأ كثيراً من الشعر والشعراء وهذا يقودنا للميزة الثالثة وهي أنه – رحمه الله – كان منفتحاً يدل على ذلك تعامله مع عدد كبير من الشعراء ( أكثر من 60 شاعراً سودانياً وأجنبياً) وهذا يعني أنه تعامل مع مئات النصوص إن لم يكن آلافها.كما تعامل مع عدد من الملحنين. ومع هذا الكم الهائل من الأعمال كان – رحمه الله – مهتماً بالتجويد.وخامس ميزاته هي التجديد وهي جوهر تفرده. وينقسم التجديد عنده – رحمه الله – في رأيي لقسمين : تجديد لحني وأدائي حيث أتى في ألحانه بمليوديات وأفكار لحنية جديدة ولكنها في تواصل مع ما سبقها، لم تشكل قفزات تقف حائلاً دون تواصل الجمهور العريض معها لذلك حظيت أغنياته بشعبية واسعة حيث جمعت بين دهشة الجديد وإلفة القديم. كما تميز بمقدرته الفائقة المتفردة في تلحين نصوص يصعب تلحينها. أما التجديد الثاني وهو الأهم فهو التجديد في اختيار المفردة فقد أعاد مصطفى الكلمة إلى سابق عهدها من حيث الأهمية. فعند نشأة الطور الأول من الغناء الحديث كان مدار الأغنية يقوم على الكلمة : حيث يتبارى الشعراء في كتابة نصوص للحن الواحد، فعلى سبيل المثال هناك اثنا عشر نصاً يجاري نص العبادي ( برضي ليك المولى الموالي) ويشاركه في نفس اللحن. وللتجويد ثمنه الذي لابد من دفعه، حيث لا بد لكل قديم من حراس : تستوي في ذلك الفنون والآداب والعقائد والقيم المجتمعية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة للآراء السالبة التي تصدر – وقد صدرت بالفعل- من لجان النصوص ولجان التحكيم بالمؤسسات الفنية والإعلامية والتي حاولت منع الراحل المقيم من كسر حواجز القديم. وهذا الأمر من طبيعة عمل تلك اللجان إذ تقوم بمهمة حراسة الشكل السائد حتى لا تسمح بدخول مستويات أقل من المعايير التي تضعها وفي سبيل ذلك أيضاً لا تسمح بدخول معايير مخالفة لها وإن كانت أعلى !!.ولكن الأعمال التي تسير مع حركة التاريخ تفرض نفسها في النهاية وقد كان. كما ساعدت الراحل المقيم الظروف التي يمكن أن تدمر غيره، فقد بلغ مصطفى رحمه الله قمة ألقه في عهد حدثت فيه تغيرات هيكلية في بنية المجتمع السوداني حيث تبنى النظام الحاكم سياسات أودت بالرعاية الاجتماعية فانتشر الفقر وغابت العدالة والحريات وتمت محاولة فرض نموذج معين. في ظل مثل هذه الظروف شكل مصطفى بتبنيه الدفاع بفنه عن تلك القيم الغائبة ملاذاً آمناً وواحة استظل بها المجتمع السوداني. سلام على مصطفى في الخالدين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد أولاُ وآخراً. د.عبد الرحمن الغالي 16/1/2012م لصحيفة المشاهد