رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاضرة الفيلسوف النرويجي غونار شيربك حول إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ ملزمة كونيا
نشر في حريات يوم 01 - 02 - 2012


بين هابرماس وكارل أتو آبل..
..
تقديم وترجمة: سمير اليوسف..
لكي ننشر العدل الكوني والحوار ما بين الثقافات، ثمة حاجة مساوية لعقلانية عابرة للقومية.
***
في سبيل مجتمع دولي متحضر، أولوية العدل وليس القوة. وهو ما يعني أن استخدام القوة ينبغي أن يشرع بالتوافق مع هذه المبادئ مطبقة بحذر في مواقف ملموسة.
مقدمة المترجم:
محاضرة الفيلسوف النرويجي غونار شيربك وإن كانت فلسفية المنطلق والوجهة فإنها تأتي على خلفية حوادث السياسة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة وإلى ما بعد اعتداء 11/9، بل وينطلق من بعض أبرز معطياتها، شأن استفراد الولايات المتحدة (وناتو) بكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم، أو حقيقة فكرة حق الدفاع الذاتي الموسع بما يبرر سياسة الضربة الاستباقية أو تجاوز سيادة الدولة القومية في سبيل حماية حقوق الإنسان. إنه لفي ظل خلفية كهذه، وفي ضوء معطياتها، يجادل الفيلسوف النرويجي هنا في سبيل تبرير فلسفي لمبادئ ملزمة كونيا للقانون الدولي ولأداء الدولة القومية فضلا عن الأداء ما بين مختلف الدول والثقافات. طبعا هذه ليست أول محاولة من نوعها في التاريخ الحديث، وليس يزعم المؤلف بأنها كذلك. فمنذ محاولة كانط، وبفضل تأثيره الواسع والعميق، لم تكف المحاولات الفلسفية في سبيل إيجاد أسس كونية لأخلاق وسياسة وقانون تغني البشر عن اللجوء إلى العنف أو على الأقل تقلل مخاطر حصول أمر كهذا. على أن محاولة شيربك، وخلافا لكانط وأتباعه، ليس الاكتفاء بأسس مبادئ كونية وإنما بمشروع عملي قابل للنقاش والتطبيق من قبل المعنيين بشؤون العالم، سياسة وبيئة، من بني البشر أو سائر الكائنات من ذوات الحس، من أجيال اليوم أو ممن قد ينوب عنها الأجيال القادمة. على أن شيربك لا يستغني عن الفرضيات الكانطية الأساسية، وعصر الأنوار عموما، وإنما يحاول مزاوجتها بفلسفة عملية، وهو لهذا السبب فهو يستند إلى ما يعرف ب”أخلاق المخاطبة” مما قال بها كل من الفيلسوفين الألمانيين كارل-أتو آبل ويورغن هابرماس. وهذه فلسفة عملية تسمى “براجماتية ترسندالية” أو “براجماتية كونية” تنطلق من الأطروحة التنويرية النموذجية بأن العقل لهو القاسم المشترك ما بين بني البشر على اختلاف أديانهم وأوطانهم وثقافاتهم القومية والمحلية، وإن حقيقة هذا العقل تتيح لهم من الحرية أو الاستقلال لكي يكتشفوا أو يبتكروا القوانين والنواميس الكونية بما يتوافق مع هذه الحرية أو الاستقلالية.
فحقيقة أن الذات العاقلة هي العنصر المشترك ما بين بني البشر تسلم مسبقا أن ثمة ذوات عاقلة أخرى وبما يحول دون نهاية للذات، على الأقل في هذه الأطروحة، إلى ما انتهت إليه من انقطاع وعزلة في فلسفة ديكارت. من هنا سعى الفيلسوفان المذكوران إلى ضرب من المخاطبة يتجاوز الوصايا أو التعاليم التي تخاطب الذات فقط على ما هي الوصايا الأخلاقية عند كانط. وهذا ما يجعل الفلسفة بمثابة تحد عملي يواجه من خلال الفعل الاتصالي وبواسطة ما يعرف ب”الفعل الكلامي”، أي الكلام الذي لا يخبر أو يفيد بقدر ما يسأل ويطلب ويعد، أي ينطوي على فعل ملازم. وإن “المنعطف البراجماتي” من حيث أنه مفهوم للحقيقة يشمل اتفاقا عاما يصار إلى بلوغه من خلال الفعل الاتصالي، أو في المجتمع الاتصال، لهو الاستجابة العملية لفلسفة كونية شأن “أخلاق المخاطبة”. وإن”أخلاق المخاطبة” من حيث أنها كونية الطموح تصر على أن المعيار صالح إذا ما اكتسب الموافقة الحرة لكافة الأطراف المعنية. الموافقة هنا تعني الصدوع بأمر “قوة الحجة الأفضل” وهي قوة “غير قسرية” على ما يؤكد هابرماس بما يعني أن الحرية مضمونة للمشاركين. بيد أن الحجة الأقوى أو حتى فعل المخاطبة والاتصال لا يستقيم من دون شروط مسبقة يتوجب على المخاط بالتقيد بها. وهذه تتألف من المعني (أي قابلية المخاطب على الفهم) الحقيقة والصدق والصواب الأخلاقي. وعلى رغم أن نظرية “أخلاق المخاطبة” تعزى إلى هابرماس وآبل معا إلا أن ثمة فوارق حاسمة ما بين مقتربي الفيلسوفين إلى حد أن أحدهما يزعم بأن الآخر قد استغنى عن هذه النظرية تماما. وعلى ما يذهب آبل في مقالة غرضها تقويم موقع هابرماس من البراجماتية، فإنه يزعم بأن نظيره لم يستغن، في ما يتصل بالمعرفة والأخلاق، عن الميتافيزيقيا الكانطية فقط وإنما أيضا كل ما يمت لما هو ترسندالي وكوني بصلة. فمن جهة المعرفة، يرى هابرماس، على الأقل في حدود ما يزعمه آبل، عرضية وليست مفارقة أو يقينية، وهذا ما يجعل الطموح باتجاه الكونية مشكوكا فيه. إلى ذلك فإنه من وجهة الأخلاق، فلقد جعل هابرماس يغلب مبدأ القانون، خاصة على صورة الدولة الدستورية، على مبدأ الأخلاق وهو ما يجعل الفعل أو الموقف الاتصالي أقل صلة ب”أخلاق المخاطبة” التي من المفترض أن تستوي بموجبه.
هابرماس، من جهته، يرى بأن من الطيش تجاهل حقيقة قابلية الخطأ، وأن ليس من معايير وفرضيات مفارقة لسياقها التاريخي، المجتمعي والثقافي، بحيث تنسب إلى مدار الميتافيزيقيا. مع ذلك فإنه ينكر أن يفضي مثل هذا الزعم إلى القول بأولوية السياق المجتمعي والثقافي، على الأقل ما يبرر النسبية، فهو لا ينفك يصر على النازع الترسندالي، أو على الأقل الكوني، سواء في ما يتعلق بالمعرفة أم الأخلاق ولكن من خلال الجمع ما بين الفلسفة غير الميتافيزيقية والعلوم الإنسانية.
من الطبيعي والحالة هذه أن تكون الخطوة الأولى لمؤلف المحاضرة تقديم تقويم لمقتربي الفيلسوفين المذكورين بما يخدم غرضه في الخلوص إلى إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ كونية ملزمة. على أنه تقويم نقدي وليس توفيقيا، ويرمي في النهاية إلى تعديل ما يقول به الفيلسوفان المتنازعان بما يمهد السبيل لمقترب متعدد ومحسن. وعوضا عن التسليم بأن معرفة العرضي قابلة للخطأ، ومن ثم فإنها لا يمكن أن تكون كونية، وهو ما يزعمه آبل في نقده لهابرماس، يرى شيربك بأن ليست كل معرفة لليومي والعرضي معرضة لخطأ مرتقب، مثلا المعرفة المرتبطة بالعديد من الأنشطة المعتادة مما نقوم بها كل يوم، أو ما يسميه بالفكر الملازم للفعل. وهذا ما يحدو به إلى ضرورة الأخذ بكل حالة على حدة، أو ما يسميه بالمقترب ؛العيني الوجهة« وبما يتيح المجال لتبرير كوني وإن تعددي الطابع.
ولئن كان هدف المؤلف دفع مقترب آبل نحو التعددية، فإنه يجادل بأن تحسينا لمقترب هابرماس لا مناص منه أيضا. فهابرماس نفسه لا يتجه وجهة العينة وإنما يؤثر الاستناد إلى نظريات علم الاجتماع والقانون، فضلا على ثنائيات مثل ثنائية الصلاحية والصدق أو المعيار والقيمة أو التبرير والتطبيق، وذلك ظنا منه أنه يحول دون الانزلاق نحو النسبية. بيد أن المؤلف يرى بأن التعددية لهي الوسيلة لحماية الطابع الكوني للمعايير المنشودة. إلى ذلك فإن مثل هذه النزعة التعددية والتحسينية، لا تزعم التطلع إلى بلوغ المثال والأسمى وإنما هدفها تجنب وهذا ما يجعلها أقرب استجابة للتحدي العملي.
وإن اتباع المقترب العيني الوجهة ليتطلب اشتغالا في الفلسفة تحليليا، أي ليس فقط تاريخيا ونقديا على مختلف وجوهه مما هو سائد في ألمانيا وفرنسا، وإن من خلال التشديد على أهمية المقترب التحليلي يسعى شيربك إلى ضم الفلسفة النقدية التاريخية إلى الفلسفة التحليلية الأنغلوفونية. على أن الدلالة البالغة لنزعة التعددية والتحسينية التي يقول بها المؤلف لتتجلى في اتساع مجال “الأطراف المعنية” التي تمليها أخلاق المخاطبة. وعلى ما يجادل المؤلف فإن المشاركة الحرة لكافة الأطراف المعنية، تبعا للمبدأ الرئيسي لأخلاق المخاطبة، قد لا تكون قيض التناول نظرا إلى أن هناك العديد من الجماعات والأفراد من “الأطراف المعنية” ليس بمقدورها المشاركة إما لاستحالة منطقية، شأن مشاركة الأجيال القادمة، أو لعوائق صحية أو عقلية، شأن المرضى جسمانيا أو عقليا، أو طبيعية، شأن الكائنات من ذوات الحس (أي الحيوانات) أو لأسباب طارئة كالتي تحول دون مشاركة من في وسعه المشاركة في الظروف العادية. لذا يقترح الكاتب تصنيف الأطراف المعنية إلى “رعايا أخلاقيين” و”مناقشين أخلاقيين”، الفريق الأول يضم كافة المعنيين أما الفريق الثاني فيضم القادرين على المشاركة في النقاش سواء كانوا من الأطراف المعنية أم من ينوب عنها، أي ممثلين لمصالح الجماعات غير القادرة على المشاركة.
وإن هذه النقطة الأخيرة لتدل على أن الفكرة المطروحة من خلال هذه المحاضرة ليست توفيقية الغرض حتى وإن نادت إلى الحوار والنقاش بين مختلف الأطراف. فإذ يصر المؤلف على حق مشاركة من لا يستطيعون المشاركة أو تمثيل أنفسهم أصلا فهو لا يحض على سلوك خيري وإنما يسلم بأن الحق ليس حكرا على من يتمتعون بقوة المناداة به أو تحقيقه، وبما يوجب دفع حدود المساواة إلى حدها الأبعد. وإن هذا لأبلغ مظاهر الفكر النقدي الرامي إلى زعزعة المراكز المعهودة ليس فقط لأصحاب المركزية الأوروبية والأثنية عموما وإنما لأصحاب المركزية الإنسانية من المنافحين عن حقوق الإنسان والداعين إلى التحرر. إن هذه المحاضرة في الحقيقة لهي بطريقتها الخاصة، وحتما بلغتها غير اليسيرة على القراءة، المباشرة والأولى، أشبه بمعادل فلسفي لبعض الأنشطة المضادة للعولمة مما جعل العالم يشهدها في الأعوام الأخيرة. وإذا ما كان هدف الأنشطة المناوئة للعولمة الاقتصادية الدعوة إلى تقديم العدل على الربح فإن ما يدعو له غونار شيربك هو تقديم العدل على القوة.
العدل الكوني والحوار ما بين الحضارات
المحاضرة:
لا يقتصر الموضوع العام ل”العدل الكوني والحوار ما بين الحضارات” فقط على مسائل توزيع الثروة والاعتراف وإنما يضم السلام والقدرة على البقاء. في هذه المحاضرة، وانطلاقا من التركيز على المسائل الأخيرة، سأناقش مسألة إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ ملزمة كونيا للقانون الدولي، ومن ثم، للسلوك وسط الدولة الواحدة وما بين الثقافات المختلفة.
عقب اتفاقية “ويستفيليا”، كان هناك تشديد على مسألة سيادة الدولة، يوصي بسياسة عدم التدخل ضمانة للسلام. لكن اليوم، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة في ضوء “محاكمات نورمبرغ” و”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، وحديثا “محكمة الجنايات الدولية”، هناك تركيز على محاكمات دولية قصاصا لجرائم ضد الإنسانية ما قد تقترف في داخل أية دولة أو أي نظام شرعي. وإبان الحرب في صربيا، وهي كانت شنت من دون تشريع مجلس الأمن الدولي، سيقت حجج من أجل تبرير معياري، احتسابي الطبيعة، على اعتبار أن مثل هذا التدخل هو بمثابة خطوة مبكرة نحو ظهور نظام تشريع دولي.
إن القانون الوضعي، الراسخ في مؤسسات ذات إقرارات شرعية، ليتمتع بحكم ذاته بقوة معيارية، ولكن في أوقات الشدة وإعادة التنظيم، ثمة حاجة إلى تبرير معياري للمبادئ الشرعية القائمة. مع ذلك فإن من البديهي في المجتمعات الحديثة ألا تكفي الحجج العلمية الصرف لوحدها حينما يتصل الأمر بتبرير معياري أساسي، وكذلك الأمر بالنسبة للحجج الميتافيزيقية أو الفقهية، أو تلك المحكومة بسياقها (الثقافي) والمستندة إلى خلفيات طارئة أو تقليدية. وحيث أن الأمر كذلك فإن ثمة من يطلب الإجابة من خلال التوجه إلى العقلانية ما بعد الشكوكية ل”علم أخلاق المخاطبة”، أو أخلاق المخاطبة، كما هو عند هابرماس وكارل أتو آبل. في هذه المحاضرة سأجادل في سبيل مقترب “نظرية المخاطبة” هذه، على أنني سأشدد، في الوقت نفسه، على الحاجة إلى تحسينات له كما يرد عند آبل وهابرماس. مختصر القول، سأشتغل على توكيد أوثق على مقترب “التعددية” و”التحسينية” وتوكيد أخف على فكرتيهما حول الأمثلة (أي صوغ الأمر على صيغة مثال) وذلك من خلال العمل على نحو تحليلي أوسع. مثلا، تحليل حذر لجملة من الاختبارات العقلية المموضعة، ومن المفضل في سياق الحجج الممتنعة بالمعنى البراجماتي للكلمة. إن مثل هذا الضرب من “أخلاق المخاطبة” ليدل على مزيج من المناهج الأوروبية (أي تلك الشائعة في ألمانيا وفرنسا وعموم القارة الأوروبية) والتحليلية (أي تلك الشائعة، تقليدا، في بريطانيا والولايات المتحدة وجل الدول الأنغلوفونية).
على هذا المنوال سأنوه بالحاجة إلى “الحكم ذي العقلانية المتبادلة” في تقويم المطلوب من النظم العلمية والأكاديمية المختلفة في سبيل تحليل الوضع الفعلي تحليلا سليما. وهذه إنما حاجة معرفة (إبستيمية) معقدة ما انفكت تتعاظم بعيد توجه الولايات المتحدة/ناتو وجهة استراتيجية عسكرية تستند إلى سياسة التدخل الفعال والضربة الوقائية. وعلى المنوال نفسه أيضا سأشير إلى الحاجة الفلسفية للعمل من خلال فكرة متدرجة ل”الشخص” تمتد من الأشخاص الحاضرين إلى الأجيال القادمة، وأيضا إلى الكائنات الأخرى من ذوات الحس- وعليه دفع حدود مدار التوزيع العادل عبر الأجيال، والفصائل الحية، تدريجيا وبما يمليه هذا الطموح الأخير من اعتبارات بيئية ذات صلة تتجاوز الحجج الراهنة ذات النزعة الإنسانية المركزية.
سأدافع أساسا عن أطروحة وضعية في ما يتعلق بإمكانية تبرير كوني لمبادئ معيارية، وفي الوقت نفسه التشديد على الحاجة إلى عمليات تعليمية، “عابرة للقومية” و”عابرة للعقلانية”، بين العلماء والأكاديميين من جهة، وبين مختلف المعنيين على مدى الحضارات والأجيال. على أن من المتوجب علينا حينما نؤدي دورا في مثل هذه العمليات أن نكون متنبهين إلى حقيقة رسوخنا، جماعة كنا أم أفرادا، رسوخا ثقافيا وتاريخيا. ذلك أن الثقافة والتاريخ من الأمور التي تعني حتى المثقفين الذين يتلفظون بعبارات كونية.
شروط خلفية في سبيل تبرير كوني للقانون الدولي
هناك مسألة أساسية في القانون الدولي تعود إلى تبرير لاستخدام القوة العسكرية، عبر الحدود الشرعية والقومية، التبرير النمطي الدفاع عن النفس أو دعم الأمم المتحدة أو كلاهما معا. وحيال تطور التقنية العسكرية الحديثة، من جهة، والتهديد الجديد للإرهاب والاضطراب الدولي، من جهة أخرى، فلقد ظهرت مسألة تصور موسع للدفاع الذاتي، وفي بعض الأنحاء أيضا فكرة نظام دولي جديد أساسه القوة. ولقد تعاظمت هاتان الفكرتان بفعل الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي في نيويورك، وهي الحادثة التي دعمت أطروحة الولايات المتحدة حول سياسة “الضربة الوقائية” في سبيل الأمن القومي والاستقرار الكوني. في الوقت نفسه ثمة قلق متعاظم إزاء الجرائم التي تقترفها النظم الطاغية ضد شعوبها، وبما أدى إلى إعادة النظر في المبدأ التقليدي لسياسة عدم التدخل مهدت إمكانية تدخل عسكري في سبيل حقوق الإنسان خاصة حين يصار إلى دعمها من قبل المجتمع الدولي وعبر مجلس الأمن الدولي.
إن ما يسمى ب”مشروع الحداثة” كان قد تشكل مبدئيا بصيغة تفاؤلية باعتباره عملية تهدف على وجه ثابت إلى تعزيز السيطرة على الأسباب الطبيعية والاجتماعية المهددة للحياة، ومن ثم إلى تعاظم الأمن والوفرة الإنسانيين. ولكن في عصرنا هذا، وفي مواجهة شتى المخاطر والشكوك الملازمة للمشروع المذكور ثمة دواع عديدة لمواقف أقل احتفالية حيال المحن الحديثة، وعلى رغم أن أشكالا من المخاطر والشكوك عديدة يمكن بطرق مختلفة التأثير عليها والحد منها، فإن أشكالا أخرى لا بد وأن تسود. أولا، هناك الأشكال المرتبطة على وجه ملازم بقابلية المعرفة الإنسانية للخطأ، وهي من الشكوك المتعذر التغلب عليها. ثانيا إن الطبيعة المنظورية الوجهة الملازمة لمختلف النظم العلمية والأكاديمية تفاقم هذا الشك المعرفي الأساسي. ثالثا، أنه حينما تدرج ضروب المعرفة هذه، وهي أصلا منظورية وقابلة للخطأ، في سياق الاستخدام بواسطة شتى مؤسسات المجتمعات الحديثة فإن من الوارد ظهور عواقب غير مقصودة أو متوقعة مردها إلى الأداء الوظيفي المقيد لهذه المؤسسات وتشظيها. رابعا، يجب أن نضيف إلى العوامل المذكورة ما يذكرنا بدور “العامل الإنساني” بما أنه يتجاوز أصلا حدود أي تكهن شامل أو تحكم.
لهذا السبب فإن تحكما شاملا، ومن ثم أمنا، ليسا في المتناول. فدائما سيكون هناك ضعف وخوف من أذى مقصود أو غير مقصود من المتعذر التقليل من شأنه. مختصر العبارة، وأشدها حصرا، فإن أية محاولة للتحكم الشامل في ما يعني العقلانية الاستراتيجية والأداتية سوف تستنفد حدها عاجلا أم آجلا: ثمة في المجتمعات الإنسانية حاجة دائمة إلى الفعل الاتصالي والتفاهم يرجع أصلا إلى ضرورة التطبع المجتمعي في الطفولة وإلى التفاهم بين مجموعة النظراء التي ينتمي الفرد إليها. علاوة على ذلك فإن النقاش المفتوح والمستنير بين مواطنين أحرار ومتساوين ليمثل ضربا من ضروب الاتصال التي تتجاوز العقلانية الأداتية والاستراتيجية.
إن هذه الملاحظات لهي بمثابة تذكير بوجود حدود ملازمة لفكرة التحكم التام في سياق البراجماتية والاستراتيجية القائمة على أساس العلم والتقنية الحديثين. ولسوف يفرض على الأنشطة العسكرية، في زماننا هذا، أن تجري في إطار عمل لا مناص فيه من المخاطرة وانعدام اليقين، كما أن الحاجة إلى عقلانية اتصالية تامة ليست مما يمكن التقليل من شأنها. ومثل هذه القيود الإدراكية والمؤسسية لتسود في المجتمعات الحديثة لا محالة. إزاء كل هذا، وبالتزاوج مع المشكلات المذكورة، نواجه مع قضية التبرير الكوني لمبادئ معيارية أساسية مسألة لا يمكن أن تحل وظائفيا واستراتيجيا أي ليس بأي من العلم أو التقنية وحدها، ولا يمكن حلها من خلال أي دين أو فقه خاص طالما أن هناك أطروحات فقهية ودينية مختلفة، وأن كل أطروحة من هذا القبيل لهي في المجتمع الحديث عرضة للمساءلة النقدية. إن شعارا شأن “الله أكبر” أو “ليبارك الرب أميركا”، ليس بحجة مقنعة بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بإله غير الذي يدعو إليه هذا الشعار أو ذاك، أو يؤمنون بالإله نفسه ولكنهم يتبعون مذهبا مختلفا عن رافعي الشعار المزعوم، هذا ناهيك عن الذين لا يجدون فكرة الإله مقنعة أصلا أو ذات معنى. وليس الحجج مركزية النزعة الأثنية أو محددة السياق معقولة طالما أن الأولى ليست مقنعة بالنسبة لأصحاب النزعة الأثنية المختلفة، والثانية لا نصيب لها من الفلاح في سياق ثقافي مختلف. ومن هنا فإن “الوطنية” حتى وإن تغنت بها قوة عظمى (شأن الولايات المتحدة) ليست بحجة وافية لتبرير ملزم كونيا لمبادئ أساسية للقانون الدولي أو للأصولية الدينية.
رد حديث ما بعد ميتافيزيقي
إن نظاما شرعيا مؤسسا ومحصنا بقوة لا بد وأن يتمتع، بما هو عليه، بشرعية ملازمة. ولكن في أوقات الشدة والاضطرابات السياسية والشرعية يمكن الجدال بأن من المطلوب تبريرا مفارقا للسياق المحدود، وصالحا صلاحا كونيا. ومن ثم فإن ثمة حاجة إلى تبرير يكون فلسفي الطبيعة، وإن ليس ميتافيزيقيا بالمعنى التقليدي بما يتعذر الدفاع عنه في المجتمع الحديث. لهذا السبب سوف نتجه الآن وجهة ؛أخلاق المخاطبة« كما نجدها في البراجماتية الكونية عند كل من كارل أوتو-آبل ويرغن هابرماس.
ولن يتفق كل الفلاسفة، أو المثقفين، على الرأي بأن تبريرا فلسفيا لمبادئ شرعية أساسية مطلوبا وممكن التحقق. ولا شك بأن فيلسوفا شأن الأميركي ريتشارد رورتي سيكون أحد المشككين في كل من الحاجة إلى محاولة من هذا القبيل وإلى إمكانية تحققها. غير أننا، في هذه المحاضرة، لن نبدأ بالدفاع عن “أخلاق المخاطبة” وعن الرأي القائل بأن ثمة حاجة إلى تبرير فلسفي لمبادئ أساسية للقانون الدولي. وعوضا عن ذلك سندخل النقاش بين كبار المبشرين ب”أخلاق المخاطبة”، حصرا آبل وهابرماس، آملين بأنص كلما أمعنا في ذلك تتضح الحجج لمصلحة هذا الخطاب ومن ثم لفكرة التبرير المعياري.
نستهل الأمر بملاحظات عامة قليلة: إن “خطاب الأخلاق” لهو براجماتية فلسفية مصوغة على صيغة منعطف لغوي براجماتي يقوم من خلال التشديد على أهمية “القوة غير القسرية للحجة الأقوى” في سبيل حل خطابي ممكن لمزاعم صلاحية أساسية- ليس فقط الفرضيات المرتبطة بمزاعم الحقيقة ولكن أيضا المعايير التي تنتظم السلوك الإنساني في صلتها بمزاعم الصلاحية المذكورة. وإن مسائل القيمة لتعتبر منذ البدء سياقية الحدود (أي القيم محكومة بسياقها الثقافي، أو التاريخي) في حين أن معايير الصلاحية تعتبر من حيث الأصل ملائمة لتبرير خطابي وكوني. وإن أي إنكار ل”القوة غير القسرية للحجة الأفضل” ينظر إليها بوصفها غير متماسكة من حيث الإحالة الذاتية، في سياق تناقض ذاتي أدائي. ففي حالة كهذه فإن المرء لينكر الشروط المسبقة لمثل هذا الإنكار- أي أن في حاله كهذه يكون ثمة تناقض أدائي.
كما هو الأمر عليه، فإن “أخلاق المخاطبة” لتعمل على مستويين: شروط مسبقة معترف بها على وجه تأملي، في سبيل النقاش، وإجابات محصلة خطابيا في داخل الخطاب. وإن القائلين ب”أخلاق المخاطبة” يحاولون، بواسطة حجج من التناقض الذاتي الأدائي، أن يبينوا بأن ثمة شروطا مسبقة للنقاش لا يمكن جديا أن تنكر طالما أن هذه الشروط مسبقة الافتراض ضرورة. فلا غنى عنها لأي نقاش جدي يضمن متطلبات العلاقات المتكافئة ما بين المنضوين فيه سعيا إلى الوقوف على الحجة أو الحجج الأفضل. إنها شروط معيارية مؤسسة لتبادل الحجج، بمعنى أن أي تبادل للحجج جدي لهو محال من دون هذه المعايير، وفي الوقت نفسه أنها منظمة للسلوك الجدلي، أي أنها تنظم سلوك المشاركين في تبادل الحجج وأن أي انتهاك لها ليعتبر خاطئا من وجهة معيارية.
والمأمول في سياق نقاش عملي أن تتبع الحجج الأفضل بما يفضي إلى تبرير للمسألة قيد الجدل وذلك في سياق إجماع عقلاني يكون نموذجيا بين كافة المعنيين. وبهذا المعنى فإن الإجابة الصالحة لتتشكل في سياق عملية أمثلة (أي تحويلها إلى مثال) معادلة للحقيقة التي ينبغي أن ترى على وجه مسبق الافتراض في أي نقاش جدي: الإجماع المحصل بين كل الأطراف المعنية في نقاش حر ومستنير وتحت شروط خطابية نموذجية للمقصود من الصلاح المعياري.
إنه لمن المعلوم بأن ل”أخلاق المخاطبة” المصوغة على صيغة براجماتية كونية نقادا وأنصارا وأن بين الفريقين نقاشات مطولة حول المنزلة المعرفية لفكرة الإجماع المثالي وإمكانيتها، وأيضا لفكرة “الوضع-الكلامي” على ما يسميه هابرماس، أو فكرة “جماعة من المؤولين والباحثين” على ما يدعو آبل. على أننا، في هذه الورقة، سنقصر أنفسنا على بعض الحجج المثارة حديثا ما بين آبل وهابرماس، ومن ثم سنضيف إليها حججنا الخاصة.
كخطوة أولى دعونا، من باب التذكير، نخط بإيجاز النقاط الأربع التالية في ما يخص ب”أخلاق المخاطبة” في سياق البراجماتية الكونية:
أولا، هناك مزاعم متعلقة بشروط مسبقة، معيارية وضرورية.
ثانيا، هناك مزاعم تتعلق ببعض مضاعفات ناجمة عن هذه الشروط المسبقة من حيث المضمون العملي الممكن لتبادل الحجج، شأن استحالة المواقف اللاعقلانية والأثنية المركزية في سياق كوني الوجهة.
ثالثا، هناك مزاعم تتعلق بإمكانية بلوغ خلاصات صالحة، في سياق نقاش عملي، بما يتعلق ببعض المسائل المعيارية الأساسية، وفي صيغة مشيئة عقلانية بما هو إجماع تحت الشروط الفضلى أو محسنة كفاية بين سائر المعنيين.
رابعا، هناك مزاعم تتعلق بالإلزام الأخلاقي لأن يجهد في سبيل تحسين أو إمكانية بلوغ الأفضل لشروط خطابية في الحياة الفعلية.
لقد أثرنا في البدء السؤال حول إذا ما كان بالإمكان إيجاد تبرير فلسفي لمبادئ لازمة كونيا. وإنه لفي حدود أخلاق الخطاب، في صيغة براجماتية كونية يمكن الدفاع عنها بقناعة، فإن الإجابة على ذلك السؤال، فإن من الظاهر بأن عندنا مرشحا مثيرا للاهتمام: تبرير خطابي الأساس نظري لمبادئ معيارية ذات إيحاءات تتعلق بقانون دولي، ومن ثم بالعلاقة ما بين الدول الأمم والحضارات ولكن أية مبادئ معيارية؟
تبعا ل”أخلاق المخاطبة” فإن الشرعية المعيارية ليتم تحقيقها بواسطة: أولا، عقلانية خطابية تقضي نموذجيا البحث عن الحجة الأفضل، ومن ثم الانفتاح على كافة الحجج ذات الصلة، وثانيا، الشمولية التي تتضمن، نموذجيا، مشاركة واعترافا متبادلا بين كافة المعنيين. باختصار وبعبارة موجبة: ينبغي أن تسمع كافة الحجج، وأن يصغى إلى سائر المعنيين. أو باختصار وبعبارة سالبة: إن الاستبعاد غير المستحق ليضعف الشرعية المعيارية. من المحقق أننا في بعض النقاشات العملية والأكاديمية سنواجه متطلبات كفاءة موزعة على وجه غير متكافئ بين الناس، إلى ذلك ثمة أسئلة معقدة في ما يتعلق بمتطلبات مشاركة حقيقية حينما نفكر بالأجيال القادمة، أو “الحالات المعقدة” لأخلاق الطب البيولوجي والكائنات من ذوات الحس (أي الحيوانات) وهي مما لا تستطيع المشاركة في أي نقاش. لكن مبدأ شرعية الأخلاق الخطابية ليتطلب، على العموم، انفتاحا جدليا وشمولية مشاركة، فإذا صير إلى تطبيق ذلك على القانون الدولي من دون شمولية وانفتاح، أي، بعبارة صريحة، من خلال نزعة استفرادية وهيمنة خاصة هيمنة الدولة الواحدة، أو نظام الدين الواحد، مثلا، فإن في ذلك ما يتناقض مع مبدأ الشرعية. ولذا فإن مبدأ الشمولية الخطابية لهو فكرة عقلانية وشرعية “ما بعد ميتافيزيقية” وتقليدية- فكرة حديثة، غريبة على القائلين بالنزعة الجوهرية كما عند الأصولية الدينية وعلى القبائلية. ولكي نمتحن هذا الموقف نتوجه الآن إلى بعض المسائل المثارة حديثا في السجال ما بين هابرماس وآبل.
مقترب هابرماس
حيال هجوم آبل على هابرماس، لائما إياه على الإضعاف الحتمي للقلب الفلسفي والنظري للبراجماتية الكونية، وذلك من خلال انحيازه (أي هابرماس) لحجج وظائفية تجريبية، رد هابرماس مشيرا إلى فوارق “معمارية” ما بينهما. ذلك أن آبل يشاء أن يؤسس تبريرا معياريا؛ ما بعد ميتافيزيقي “في صيغة نظام أخلاق كوني (بوصفه طبعة منقحة ومجددة للحقوق الطبيعية)” من حيث يمكن تشريع (أو نقد) النظم والتطبيقات الشرعية. في حين أن هابرماس يشدد على الاستقلال النسبي للمعيارية القانونية في مواجهة الشرعية الأخلاقية ومن ثم فإنه يعتبر أن نموذج آبل التراتبي (إلى حد أنه يغطي المعيارية الأخلاقية أسفل المعيارية الأخلاقية) غير ملائم. وعوضا عن ذلك فإنه يحاول أن يطور نظاما ثنائيا للمبدأ الأخلاقي ومبدأ الديمقراطية على المستوى نفسه، كما هو الأمر عليه، كلاهما ضارب الجذور في “مبدأ المخاطبة”، وهو مبدأ معياري أساسا، لكنه ما انفك محايدا في ما يتعلق بالتمييز ما بين مبدأ الأخلاق ومبدأ الديمقراطية. وإن مبدأ الخطاب لهو على هذه الصيغة: “صالحة فقط معايير الفعل حيثما يمكن لكافة الجماعات المعنية الممكنة، باعتبارها مشاركة في خطاب عقلاني، الاتفاق عليها.” من جهة أولى، ثمة عند هابرماس (كما عند آبل) تشديد على الدور الإيجابي الذي يتمتع به النظام الشرعي في تأييده لمعايير السلوك الأخلاقي (بما يجعل من الممكن توقع السلوك المتوافق مع القانون من قبل المواطنين). ومن جهة ثانية، ثمة عند هابرماس (وخلافأ لآبل) شك حول قوة وحدود الحجج النظرية للبراجماتية الكونية. في حين نجده يتمسك بأهمية العمليات الخطابية، بوصفها العملية التعليمية (بما فيها اتخاذ أدوار متبادلة، والتكوين الخطابي للرأي) والسبيل إلى البت في السجالات المعيارية المتعلقة بالصلاحية والعدل (ما عدا مسائل القيمة السياقية الطابع)، يعرب هابرماس عن شكه تجاه قوة ومدى حجة النظر الذاتي من حيث مشكلة الفكرة المؤمثلة براجماتيا شأن الموقف الكلامي وفكرة المنطق القياسي للإجماع نظرا إلى مشاكل امتداد الحجج ذاتية الإحالة خارج ملكوت تبادل الحجج. ودعما للمعيارية الكونية، وتعويضا عن شكوكه حول أهمية وقوة الحجج الفلسفية الصرف، فلقد عمد إلى تأويل نظريات علم الاجتماع (كما عند لورنس كولبرج) والتحديث (كما عند ماكس فيبر) في أفق براجماتي معياري يشدد على نمط للاتصال متعذر التصغير وللعلاقات الشخصية المتبادلة على وجه متكافئ. وعند هابرماس فإن الاختلاف ما بينه وبين آبل يكمن في اختلاف حول مفهوم الفلسفة عند كل منهما: “أنا أسلم بأن النقاش حول البناء المعماري السليم للنظرية ليتعلق في نهاية المطاف بانشقاق حول دور الفلسفة نفسها”.
مقترب آبل
ردا على ذلك يجادل آبل بأن الافتقار إلى مفهوم للتفكير يتبع عند هابرماس لهو السبب الحاسم في خلافهما. فالحجج ذات الإحالة الذاتية، مصوغة في صيغة براجماتية كونية، لهي في القلب من فكر آبل: يتوجب علينا أن نتجنب التناقضات الذاتية الأداتية، ذلك إن مثل هذه التناقضات، ذات الإحالة الذاتية البراجماتية، لتمثل ضربا من الامتناع يضعف ما يقوله المتكلم. فهي غالبا ما تكون مضمرة في ما يقال أو يفترض بطريقة حيث أن من المطلوب تحليلا حريصا وقادرا في سبيل الإفصاح عنها. هذه هي مهمة الاستخدام النقدي، أو السلبي للحجج ذاتية الإحالة: فقد ينتقد الآخرون بسبب انعدام تماسك إحالاتهم الذاتية. إن الاستخدام النقدي للحجج بفعل انعدام تماسك إحالتها الذاتية غالبا ما يكون مقنعا، ومثل هذه الحجج النقدية لتستخدم على وجه متكرر من قبل هابرماس وآبل على حد سواء. على أن المسألة الحاسمة بالنسبة لآبل لهي الاستخدام الإيجابي أو البناء لهذه الحجج. إنه من خلال التأمل في الامتناع الناجم عن التناقض الأدائي نمسي على وعي بحتمية الشروط البراجماتية. وفي هذا الصدد يتحدث آبل على “نقد المعنى” وهو ضرب من الحجج الفكرية تعمل من خلال ما يسميه ب”عبور السلبية”- فبواسطة خلق امتناع نمسي واعين لبعض المبادئ المطلوبة لكي يصار إلى تجنب مثل هذا الامتناع. هذا الاستخدام الإيجابي للحجج ذاتية الإحالة ليمثل فهما مفارقا وإن ليس الفهم المفارق “الترسندالي” عند كانط، والذي يرى في صيغة مثال الفاعل- المفعول به للمعرفة السابقة على منعطف اللغوية البراجماتية. هذا حصرا هو قلب البراجماتية المفارقة. وبحسب آبل فإن هذا الاستخدام الإيجابي لحجج “نقد المعنى” البراجماتية تجعلنا على وعي بالشروط المسبقة لتبادل الحجج في صيغة المبادئ الضرورية المنظمة لمجتمع مثالي من المؤولين والباحثين، وأيضا في سياق فكرة الإجماع ما بين الأشخاص العقلانيين وفق هذه الشروط النموذجية.
إن عمليات الأمثلة هذه لتعتبر من الشروط المسبقة، وهي مترسخة في أفعالنا الكلامية الجدالية طالما أن مزاعم الصلاحية الأساسية المرتبطة على وجه ملازم بهذه الأفعال قابلة للاستجابة من حيث المبدأ (شأنها في ذلك شأن مزاعم الحقيقة ومزاعم الصلاحية). ولكن نظرا إلى خطر انعدام العصمة الملازمة لأي نقاش جدي أو أي إجماع حقيقي، فإن فكرة الصلاحية، لكل من الحقيقة والمعيار، لتملي أمثلة حقيقية مقابلة.
إن فكرة عمليات أمثلة كهذه، فضلا على المسألة الأساسية لمزاعم صلاحية ملازمة للفعل الكلامي لتوجد عند آبل ولكن أيضا عند هابرماس وويلمر وغيرهما من الفلاسفة المرتبطين بفلسفة البراجماتية الكونية. وهذا التصور للأمثلة ليمثل الأساس لاعتقادهم في التوسط ما بين فكرة التبرير وفكرة الحقيقة (أو على نحو أعم فكرة الصلاحية، بما يتضمن الصلاحية المعيارية) ولكن في الوقت نفسه يتجنب مشكلات الواقعية المعرفية (الابستيمية الساذجة) المرتبطة بذلك التمييز ما بين الفاعل والمفعول به عند الابستمولوجيا الكلاسيكية. ويشير آبل وهابرماس وولمر وغيرهم من أتباع البراجماتية العالمية التي تشدد على الفعل- الكلامي أن يكرسوا تمييزا مفهوميا ما بين التبرير والحقيقة، وفي الوقت نفسه ربطهما معا.
إن التبرير مرتبط في الوقت الراهن بأفضل الحجج، غير أنه يمكن أن يفقد، على حد تعبير هيلاري بوتنام، في حين أن الحقيقة في سياق الشرط المسبق عند البراجماتية الكونية (أي بما هي الأمثلة) لهي نهائية وليست نسبية. والفارق ما بين هؤلاء الفلاسفة، من آبل إلى هابرماس وولمر، يقع في سبلهم المختلفة إلى تصور عمليات الأمثلة هذه. يدافع آبل عن فكرة جذرية لأمثلة البراجماتية الكونية تستوي على أساس تصوره المتحمس للتفكير الأدائي ذاتي الإحالة. هذا في حين أن ولمر قد جادل طوال الوقت بأن مفهوم آبل لهذه الشروط المسبقة شأن الإجماع النهائي من خلال الاتصال النموذجي لهو مفهوم ناقص، ليس فقط لأن هذه الشروط أبعد ما تكون عن التحقق الفعلي، مما يشدد عليه آبل، ولكن لأن هذه الشروط بالنسبة لولمر مثقلة ميتافيزيقيا، وفي النهاية، بلا معنى من حيث المفهوم: إن الوجود الإنساني محدود كما أن الاتصال الإنساني سيتميز على الدوام بمختلف وجهات النظر، ناهيك عن الافتقار إلى الشفافية. لهذا فإن فكرة الاتصال التامة، إشارة إلى الإجماع النهائي (في صيغة تركيب كامل لكافة وجهات النظر) ليس فقط مستحيلة إدراكيا وإنما أيضا لا معنى لها من حيث المفهوم. ولا يمكنها أن تكون مثالية طالما أن هدفا كهذا يتضمن إطاحة الاتصال الإنساني كما هو معروف عندنا. هذه الحجج النقدية التي يعبر ولمر عنها لهي مقبولة قبولا شاملا عند هابرماس (بل وإلى حد ما يعتبرها نقدا ذاتيا لآرائه السابقة) وإن ليس كذلك عند آبل.
في مواجهة هذا النقد، فإن رد آبل يتألف من هجوم مضاد، أولا في صيغة الاستخدام النقدي للحجج ذات الإحالة الذاتية (التناقض الذاتي الأدائي): أين يجد ولمر نفسه، من وجهة فلسفية، حينما يسوق مزاعم كهذه؟ ألا يقدم، في ما يتعلق بالمحدودية الإنسانية، واستحالة الاتصال المثالي والإجماع النهائي، مزاعم كونية الصلاحية؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، فكيف يمكن لهذه المزاعم الكونية أن تجاري فلسفته الشكوكية الوجهة؟
كما يتضمن رد آبل، ثانيا، حجة بناءة. ففي حين يؤكد ولمر بحزم على العلاقة الملازمة ما بين الفعل الكلامي و؛الحجة الصالحة« في الصيغة الدلالية لضمير المتكلم- مميزا على هذا الوجه ما بين هذه العلاقة المعيارية معرفيا للحجج الأفضل، والعلاقة المحايدة للمعرفة التي توجد إما من خلال الإحالة إلى آراء المرء السابقة، أو إلى آراء الآخرين (باعتبارها مختلفة عن آراء المرء الراهنة)- يجادل آبل بأن الوعي النظري لقابلية المرء للخطأ حاضر فعلا في الصيغة الدلالية للمتكلم، وهو السبب أصلا لما نحن عرضة لمزيد من الحجج وعلى هذا مستعدين لمواصلة النقاش.
وعلى هذا المنوال يحاول آبل أن يبين أن النقد المثار ضد تصوره هو للبراجماتية الكونية لهو أقل قدرة من اضعاف موقفه مما يراهن عليه نقاده.
محاولة لتقويم المقتربين البراجماتيين
أولا آبل. لكي يعزز آبل حججه البراجماتية المفارقة “الترسندالية” تجده يشدد على التضارب ذاتي الإحالة لأي موقف قابل للخطأ، مقترحا في الوقت نفسه، وداعما لوجهة كارل بوبر في هذا السياق، أن معرفتنا لهي في الحقيقة عرضة للخطأ. ومن أجل التماسك ذاتي الإحالة، فإننا يجب أن نوقن بأن ثمة رؤية نظرية معصومة، هذا بالذات ما تشرحه البراجماتية المفارقة. على أن هذه الحجة القوية، من حيث المظهر، لتستند على تمييز صارم ما بين قابلية الخطأ التامة، من جهة، واليقين المطلق للبراجماتية المفارقة، من جهة أخرى. فماذا عن كفاية هذه الثنائية، أي قابلية الخطأ شبه التامة واليقين المطلق؟ هل أن مفاهيم النموذج ملائمة لفهم دور قابلية الخطأ في الحياة الإنسانية؟ وماذا عن تطبيق مفاهيم عالية المستوى كهذه على حالات عيانية؟ نحن نسأل: ما المفهوم؟ وأين تقوم المفاهيم بأعمالها؟ هذان سؤالان مهمان ومعقدان. هل ينبغي النظر إلى المفاهيم بوصفها مواقف عامة، وغالبا حاسمة، أو من الأفضل تحليلها وفهمها من خلال التركيز على الطريقة التي يعمل بها في مختلف التطبيقات؟
بداية يمكن القول بأن المواقف والتطبيقات لهي هامة لكل من منزلة ودور المفاهيم وكذلك لتحليلنا نحن لهذا الدور. وإن من الملائم هنا أن نتذكر بأن المنعطف اللغوي-البراجماتي صير إلى تصوره على وجه مختلف تبعا لاختلاف الفلاسفة. فهناك أولئك الذين تصورونه باعتباره تحولا من المعرفة (أي الابستمولوجيا الكلاسيكية المستوية تبعا لتصنيف الفاعل-المفعول به) إلى فلسفة متصلة بالفعل-الكلامي. وهناك أولئك الذين يرون بأن مثل هذا التحو ل قطيعة تشبه تغير البراديم، ويراه فريق ثالث في سياق عملية تعلم ديالكتيكية (تحويل التصورات السابقة إلى مفاهيم جديدة أفضل) وهناك أيضا الذين يروون بأن هذا التحول ليس، بطريقة أو أخرى، كتحول مواقف ولكن كتحول في ممارسة الفلسفة: وعي ذاتي النقد لوهن وإبهام لغتنا يملي أسلوب تطبيق محترس تجنبا للمفردات الكبيرة، وعوضا عن ذلك الاتكال على تحليل دقيق لعينات من الاختبار الفكري غرضه فهم أشد واقعية وتمييزا للمفاهيم والعمل الذي يؤدونه في تطبيقاتنا المختلفة.
إنه حينما يباشر تحليل كهذا عيني الوجهة للمفاهيم قيد الاستخدام سيكون من المريب الافتراض بأن كل الفكر قابل للخطأ (باستثناء الفكر المقيد على وجه لا مهرب منه إلى الحجج القاطعة ذاتية المرجع). افترض، على سبيل المثال، الفكر الذي يمكن أن يمتلكه الوكيل لسلوكه، بدءا من الأفعال البسيطة، شأن حمل كوب شاي، عبور الشارع، شد برغي وما إلى هنالك. ونحن غالبا ما نرتكب خطأ ما حتى في حالات بسيطة كهذه. ولكن مع ذلك يمكننا قانونا أن نجادل أن الوكيل يعرف ما ينبغي عليه أن يعرفه لكي يفلح في فعل ما يفعله. وهذا فكر ملازم للفعل مما لا يسعنا وصفه بأنه قابل للخطأ، على الأقل ليس بالمعنى الذي توصف به الفرضيات العلمية الصريحة في العلوم التجريبية. وهذه الأخيرة، أي فرضيات العلوم التجريبية لهي، على ما يبدو، الحالات التي يفكر بها القائلون بقابلية الخطأ (شأن أتباع كارل بوبر) حينما يتحدثون عن معرفتنا باعتبارها معرفة غير معصومة: الفرضيات التجريبية حتما قابلة للخطأ، لهذا فهي محض فرضيات للتجريب في بحث تجريبي. لكن الفكر الملازم للفعل عند الباحثين، مثل ذاك الذي يحصل حينما يجرون هذا الضرب من البحث التجريبي، ليس قابلا للخطأ، على الأقل، ليس على الصورة ذاتها. على النقيض من ذلك، يمكن للواحد أن يجادل بأن مثل هذا الفكر المسبق الافتراض، بوصفه صالحا وجديرا بالثقة، من قبل الباحثين: ففي قيامهم ببحث تجريبي فهم يفترضون ضرورة، على وجه مسبق، بأن الأرض ثابتة وأن البراغي يمكن أن تشد وأن أدوات القياس تعمل اليوم بالطريقة نفسها التي عملت بها في الأمس..إلخ.
وأهمية فكر ملازم للفعل كهذا لهي موضع توكيد فتغنشتاين في أعماله اللاحقة، وهايدغر في أعماله المبكرة. فهذا الفكر مضمر وليس مموضعا تبعا لموضوع محدد، من هنا فإنه غالبا ما يدعي الانطواء على معرفة تكتيكية. ولكن إلى حد كبير يمكن استبانته والحديث عنه بطرق شتى. وحتما فإن أي بيان فعلي لفكر كهذا يثير إمكانية سوء الفهم، من هنا ثمة مظهر من مظاهر قابلية الخطأ مقيد إلى عمليات “الافعلة” هذه. ومع ذلك فإن الإمكانية الثابتة للخطأ في حالة عيانية للتعبير الفعلي (من صيغة الفعل) لا تدل بأن كل حالات الأفعلة (أي صوغ الأمر على صيغة فعل غير مؤكدة).
وهذه النقاط إنما تذكر دلالة على أن الثنائية الفظة ما بين فكرة كبيرة لقابلية الخطأ والإطلاقية القاطعة للنظر ذاتي الإحالة للبراجماتية المفارقة (كما عند آبل) تظهر معدومة الكفاية حينما نشرع النظر إلى مختلف التطبيقات المعرفية (الإبستيمية) وثيقة الصلة وكيف أن مفهوم قابلية الخطأ يمكن، في حالات كهذه، أن يحلل على وجه معقول تماما. وفي حدود أن طريقة الفهم عينية الوجهة لذات معنى، فإنها، على ما هي عليه، تضرب في كلا الاتجاهين. فهي بتوكيدها على فرادة النظر القاطع للبراجماتية المفارقة، تشكك في ثنائية آبل، غير أنها في الوقت نفسه تشكك في قابلية الخطأ عند الفلاسفة من ذوي الميل الشكوكي، أكانوا من مقلدي بوبر، أو من أتباع ما بعد الحداثة المدافعين عن اللغة بوصفها مغرقة في الإبهام واجتماعية الرسوخ إلى حد أنها لا تسمح بأية مزاعم صلاحية كونية.
في جدل كهذا أفضل أن أحاجج لصالح طريقة عمل في الفلسفة “عينية الوجهة” وأشد حساسية تجاه ضروب وتفاوتات التطبيقات المفهومية المختلفة. وطريقة العمل هذه لها اشكالاتها خاصة للفضاء الواقع خارج قلب البراجماتية المفارقة (كما يستدل في الفقرة السابقة، إشارة إلى حالات اليقين المختلفة عن تلك الحالات البراجماتية المفارقة عند آبل) لكن هذه الطريقة المحترسة في التفلسف، لها أيضا اشكالاتها تجاه قلب البراجماتية المفارقة نفسها: يفترض آبل أن منهج “نقد المعنى” ذاتي المرجع القاطع في الجدل ليكشف عن ضرب فريد من الامتناع العقلي، وذاك الذي يبين على وجه نظري نوعا فريدا من الضرورة في سياق ما لا يمكن تجنبه على وجه قاطع.
ولكن كيف لنا أن نوقن أن ثمة ضربا من الامتناع العقلي واحدا في مختلف الحالات؟ مثلا إن لمن للممتنع عقليا، وعلى وجه مساو أن ننكر صلاحية القول “أنا هنا أزعم بأنني موجود” كما هو الأمر بالنسبة لإنكارنا القول “أنا هنا أزعم بأنك موجود” أو القول ؛أنا هنا أزعم بأن الإجماع لهو الهدف المثالي لأي جدل جدي«. هذه العينات موجودة عند آبل ولكن من دون نقاش مرض حول إمكانية الفوارق المعرفية بينها، وحيث من المفترض أن يؤدي الإنكار إلى الامتناع. وبالإشارة إلى الأقوال المستشهد بها، ثمة درجة مطلوبة من الوضوح النظري لكي نفهم أكثر (بل ومن الوارد أن نقبل) القول الأخير (أي ذاك القول المتعلق بالإجماع) عوضا عنه في الأول (أي عن وجود المتكلم نفسه). وليس من الثابت أن القولين الأول والثاني متماثلان معرفيا، لذلك فإنني أزعم أن في قلب البراجماتية المفارقة أصلا، والأقرب من ذلك إلى محيطها الفلسفي، يبدو أن ثمة تعددية في العينات والأفكار المختلفة للامتناع العقلي.
هذا الزعم لا يمثل نقدا حتميا للبراجماتية المفارقة، وإنما تحويلا لها تعددي الوجهة. وإنه لفي صنيع كهذا فإننا نبدي اهتماما أكبر ببعض الحجج المضادة الحاسمة، ليس فقط تلك الصادرة عن أتباع “ما بعد الحداثة”، من ذوي الاهتمام الأدبي، ولكن أيضا من فلاسفة عيني الوجهة من ذوي التدريب التحليلي. وإنه إذا ما كان الأمر كذلك فإن مقتربي التعددي لا يضعف، بل يقوي النقاط الأساسية في البراجماتية المفارقة في سياق زعمها بأنها حجة مضادة للشكوكية، ولكي تكون حجة في سبيل إمكانية الصلاحية الكونية، ليس فقط بمعنى الحقيقة ولكن أيضا بمعنى المعايير الأساسية للصلاحية والعدل. وإنه على هذا المنوال أجادل لصالح براجماتية مفارقة ولكن حساسة تجاه الفوارق والتفاوتات اللغوية والتي تحلل، بقدر من الاحتراس، تشكيلة من العينات. جملة القول أن مزاعم الصلاحية ملازمة الفعل، وحصرا مزاعم الصلاحية ملازمة الفعل الكلامي، واحتمال تحولها إلى تداخل خطابي محاولة لحل بعض المزاعم تبعا ل”القوة غير القسرية للحجة الأفضل”، والرؤية النظرية إلى شيء من الشروط المسبقة المعيارية والتأسيسية لضرب من الجدل الجدي، لهي جميعا محققة ولكن من خلال التشديد على القوة الملزمة لما يعتبر بالحجة الأفضل أو بالأحرى، الالتزام بأن تتجنب معرفيا الحجة الأدنى من مستوى الصلاح.
هذه التعددية و”التحسينية” الموجهة ضد ما هو أسوأ عوضا عن التطلع إلى ما هو أسمى (تبعا لأطروحة أولية ما هو سلبي) لا تنطوي، والحق يقال، على فكرة قوية وغنية لإجماع متقارب واتصال مثالين غير أنها تدافع عن معايير كونية الصلاحية وفي الوقت نفسه ذات جذور براجماتية، إلى ذلك فإنها تدافع عن احتمال العمليات الخطابية بوصفها كلا من عمليات تعل ممتبادلة وأيضا عمليات غرضها الإيضاح الجدلي وحلول ممكنة. أما فكرتها بالنسبة للنظر البراجماتي المفارق ذاتي الإحالة عيني التوجه وميال للتشكيلات وهذا النوع من نظر “نقدي المعنى” ليمتد أيضا أبعد من مجال الحجج البراجماتية، ذاتية الإحالة، وليضم تشكيلة عينات تستوي على حجج من الامتناع العقلي، كل منها يكشف عن شرط تأسيسي مسبق، إما لأجل نشاطات خاصة أو أفعال عامة.
هابرماس
وحيث أننا نلتمس تبريرا للقانون الدولي ينبغي علينا منذ البدء أن نقدم تقويما إيجابيا لهابرماس خاصة لجهة توسعه الشامل في نظرية القانون، جامعا بذلك النظر الفلسفي حول مزاعم الصلاحية المعيارية والاعتبارات المؤسسية إلى أداء النظام التشريعي في المجتمعات الحديثة. وفي صنيعه هذا فإنه يربط نفسه بمواقف رئيسية في النقاش الدائر حول نظرية القانون.
وكان هابرماس في طور مبكر من حياته الفكرية قد تعرض لمخاطر التدخل التشريعي في عالم الحياة، بما هو كيان المجتمع الثقافة والهوية، غير أنه اليوم يشدد على الدعم الإيجابي للحافز الأخلاقي الناجم عن دولة الدستور ونظامها التشريعي. مع ذلك فإن كتاباته المبكرة حول نظرية التحديث والاجتماع ما انفكت تتمتع بأهميتها السابقة كخلفية لأعماله اللاحقة حول إمكانية الالتزامات المعيارية في المجتمعات الحديثة، أي في سبيل معايير عدل وصلاحية كونية (وإن ليس لأسئلة القيمة التي ترى كأسئلة سياقية) يمكن القول على وجه التقريب أن هابرماس وآبل يحملان آراء متشابهة حول المسألة الأخيرة بيد أنه حينما يصل الأمر إلى التبرير المعياري للأخلاق وأيضا الشرعية، بما فيها الشرعية الدولية، ثمة فوارق جمة ما بين الاثنين.
على أن نظرية هابرماس تنطوي على اشكالية فلسفية في ما يخص اولا، بناء حجته الأساسية، أي ما يتصل بالعلاقة المتبادلة لمبدأ المخاطبة ومبدأ الكوننة. وثانيا، العلاقة التبادلية لهذه المبادئ ب”مبدأ الأخلاق” و”مبدأ الديمقراطية”، وثالثا، بما يخص التعيين الأبعد لشتى الحقوق الاجتماعية والشرعية. فضلا على أن ثمة إشكالية في مبدأ المخاطبة ومبدأ الكوننة حول التبرير الفلسفي للصلاحية المعيارية، وهي الإشكالية التي يواجهها آبل من خلال تقديم إجابة في سياق البراجماتية المفارقة. بيد أن الإجابة غير مقنعة بالنسبة هابرماس نظرا إلى نزعة الأمثلة التي تنزع إليها البراجماتية المفارقة ومزاعمها المتطرفة ذاتية الإحالة في التوصل إلى خلاصات تحقق المعايير الصالحة كونيا.
على أن هابرماس لا يبدو وكأنه يقدر إمكانية استخدام عيني الوجهة أوثق وحساس اللغة للحجج “نقدية المعنى” من الامتناع بما فيها التناقضات الذاتية الأدائية. وعوضا عن ذلك فإنه يعتمد على دعم مشترك من نظريات التحديث والاجتماع والقانون ومن ثنائيات مفهومية شأن الصلاحية والصدق أو المعيار والقيمة أو التبرير والتطبيق- وفي كل حالة فإن من المفترض أن يكون الأول كونيا في حين أن الآخر محكوم بسياقه. ومن المفترض أيضا أن تحول هذه الثنائيات دون الانزلاق نحو النسبية لا سيما النسبية التي تخص المعايير الأساسية للعدل والصلاح، وهي لتصاغ في صيغة مفاهيم عامة نسبيا تقدم تفسيرا من خلال النقاش ذي المواقف عالية المستوى عوضا عن التحليل الحذر للعينات والطريقة التي تستخدم فيها المفاهيم في التطبيقات النظرية المختلفة. لذلك أرى أن براجماتية مفارقة معدلة في صيغة أكثر تعددية وتحسنا يمكن أن تساهم بصورة أفضل لحل مسألة وقاية الكونية المعيارية عوضا عما يمكن الحصول عليه بواسطة هذه الثنائيات، وفي الوقت نفسه تجنب الحجج النقدية المثارة ضد المزاعم المتطرفة لموقف أبل.
هذه هي النقطة الرئيسية في تقويم آبل وهابرماس: طريقة أخرى في الاشتغال في الفلسفة أشد حساسية إلى تشكيلة التطبيقات المفهومية في النقاش، كما في عالم الحياة، له فائدته لكل من مقترب هابرماس وآبل. وهذا على أية حالة لا يعني بأن من المتوجب إطالة النظر في المواقف العامة وإنما أن طريقة في الاشتغال في الفلسفة أكثر تحليلية يجب أن يصار إلى نشرها في هذا الحقل النظري بشروط براجماتية مسبقة. وإنه ليمكن وصف افتراضي هذا، وكما سبق الإشارة، بأنه محاولة للجمع ما بين الفلسفة التحليلية والقارية (الأوروبية)، تحليل ذاتي النقد وعملي الوجهة للشروط البراجماتية المسبقة.
الرعية الأخلاقية والمناقش الأخلاقي
سأخلص بإضافة ملاحظات قليلة إلى مبدأ المخاطبة القائل: “أن معايير الفعل الصالحة لهي فقط التي يمكن لكل الأطراف المعنية المحتملة الاتفاق بشأنها باعتبارها مشاركة في المخاطبة الأخلاقية”.
غير أن من المحقق بأن هناك “أطرافا معينة” لا يمكنها المشاركة في أي مخاطبة عقلانية. هناك أولا، شتى الأسباب الملموسة التي قد تحول دون مشاركة هذا الشخص أو ذاك في هذا النقاش أو ذاك بما قد يكون لمصلحته من عواقب. وإنه نظرا إلى هذه الصعوبة يصاغ مبدأ المخاطبة بصيغة افتراضية (Zustimmen Konnten) أي “ما يمكن الاتفاق عليه”. بيد أن مصطلح Konnten لهو مصطلح غامض وملتبس طالما أن ثمة من الأطراف المعنية ما لا يمكنها المشاركة في نقاش عقلاني ليس فقط لأسباب ملموسة عارضة وإنما لأنها أصلا غير قادرة على فعل ذلك. إن الحالات الصعبة بالنسبة لأخلاق الطب الكيميائي معروفة للغاية. هذه الحالات لا تقتصر على القاصرين ممن لم يبلغوا مستوى النضج المتوخى في سبيل المشاركة الخطابية ولكنها تشمل أفرادا فقدوا القدرات الخلقية كأشخاص ولم يعد في وسعهم استعادتها ثانية بما يتيح لهم المشاركة في نقاش عقلاني، كذلك الأمر بالنسبة للمعاقين منذ الولادة.
ففي حالات كهذه ثمة “أطراف معنية” لا يمكنها المشاركة في نقاش عقلاني لأسباب شتى. وحيث أن الأمر كذلك فإن من المطلوب أن يكون ثمة ممثل مسؤول للدفاع عن مصالح هذه الفئات. وهذا يعني، مفهوميا، بأننا نحتاج إلى أن نميزما بين أولا، أولئك المعنيين، أي الرعايا من أصحاب الجسم الاحيائي القابل للأذى، ويمكن أن نسميهم رعايا أخلاقيين أو رعايا من أصحاب الموقف الأخلاقي. وثانيا، نحتاج إلى مشاركين محتملين في نقاشات عملية يمكن أن نسميهم بمناقشين أخلاقيين. وليس كل الرعايا الأخلاقيين مناقشين أخلاقيين، بيد أن من المتوجب أن يكون المناقشون رعايا أخلاقيين لكي يسعهم الانضواء في محور النقاش العملي.، ولهذه النقطة تبعاتها، سواء معرفيا أم في ما يتعلق بمسألة سعة مفهوم الرعية الأخلاقي (أي الطرف المعني).
معرفيا فإن هذه مهمة شاقة طالما أن نظرية المخاطبة لتتمثل في صيغة المشاركة الممكنة. ذلك أنه حتى في حالة إسقاط المصطلحين العويصين “إجماع” و”موقف الكلام المثالي”، تبقى مشكلة إمكانية مشاركة كافة الأطراف قائمة. وإن نمذجة نظرية المخاطبة على مفهوم للمشاركة الخطابية، للنقاش باعتباره تبادل حجج وأيضا كعملية تعلم متبادلة تتطلب اتخاذ دور حقيقي في سبيل هوية محسنة وتكون تفضيلي، إنها منمذجة على المشاركة هنا والآن بين المناقشين الأخلاقيين الذين هم أيضا رعايا أخلاقيون. أما بالنسبة للأجيال المقبلة والحالات الطبية العسيرة، فإن مشاركة خطابية من هذا النوع لهي مستحيلة من حيث المبدأ. على هذا فإن من المتوجب على ممثلين دفاعيين أن يعنوا فقط بمقاصد “أخلاق المخاطبة”، وهذا ما يعني أن من المتوجب على أصحاب الكفاءة أن يأخذوا قرارات مسؤولة في ما يتعلق بخير هؤلاء، من حيث كونهم رعايا أخلاقيين، سواء من حيث الفعل أو الإمكان- قرارات تتعلق بما يمكن أن يكون صالحا وجيدا لهم. وفي حدود أننا نعرف بأمر الحاجات الأساسية يبدو بأن من الأسهل بلوغ إجماع خطابي حول كيفية تجنب الأذى عوضا عن كيفية بلوغ السعادة. علاوة على ذلك، وفي حدود القيم المرتبطة بالنظم المفهومية، يمكن أن يكون هناك نقاش مستنير وقرار حول الكفاية النسبية وانعدام الكفاية للنظم المفهومية المختلفة في حالة ما. ويمكننا إلى الحد نفسه أن ندافع عن بعض قرارات القيمة التي يأخذها الممثلون المدافعون. وبهذا المعنى فإن درجة من “الأبوة” لا مناص منها، بل مرغوبة.
وفي حالات كهذه يجب أن نتحدث عن أبوة شرعية، وإن مبدأ المشاركة ليتحول إلى نقاش مستنير حول الحاجة إلى التأويل وتجنب الأذى للرعايا الأخلاقيين الذين لا يستطيعون أن يأخذوا دورا في النقاش المنشود.
أما بالنسبة لتوسيع مفهوم “الأطراف المعنية” بحيث تشمل الرعايا الأخلاقيين مما لا يسعهم أن يلعبوا دورا، يمكننا إحالة الأمر إلى النقاط التالية: إن من المطلوب أخذ أجيال المستقبل بالحسبان من وجهة معيارية طالما أنهم شخوص معنيون بعاقبة قراراتنا وأنشطتنا. لذا يتوجب حماية مصالح الأجيال المقبلة بواسطة ممثلين لهم مسؤولين. وثمة، من دون شك، تبعات عملية لهذه النقطة، سواء ما يتعلق بالقانون القومي، أم القانون الدولي، وأيضا بالنسبة لتضارب المصالح، خاصة في ما يتعلق بندرة المصادر البيئية (وهو أمر يتعلق بالأجيال المقبلة كما بالرعايا الأخلاقيين من غير البشر) وإنه لمن هذا المنظور فإن ثمة موضوعا هاما للقانون الدولي شأن ندرة، وضعف المصادر البيئية إضافة إلى موضوع شأن إمكانية التدخل المستقبلي للتقنية الإحيائية في الحيوية الإنسانية ما يترك أثرا على مسألة الهوية. إلى ذلك فهناك المسألة العويصة المتعلقة بكيفية رسم خط معياري التبرير ما بين البشر وغير البشر، خاصة حينما يكونون رعايا أخلاقيين، أي من ذوات الحس مما يمكن لقراراتنا وأفعالنا أن تلحق أذى بها. باختصار فإنه في تطبيق تحليل عيني الوجهة، فإننا نضطر إلى أن نقر بأنه أيا كانت القدرة أو الخصوصية التي قد نجدها مقنعة في سبيل إلحاق معياري لموقف أخلاقي (يتضمن حماية تمثيلية في نقاش عملي) سيكون هناك ناس ممن لا يرتقون إلى مستوى هذه المعايير، أو أن بعض الكائنات غير البشرية يمكنها الالتزام بهذه المعايير على وجه أفضل مما يسع بني البشر. وعلى أية حال، لا يبدو أن ثمة مسوغا لتمييز قاطع ما بين البشر وغير البشر حينما يصل الأمر إلى مسألة الموقف الإنساني ومن ثم مطلب التمثيل الخطابي. ولهذا النقطة الأخيرة تبعاتها المعيارية وأيضا الشرعية: فإذا لم يكن ثمة حد قاطع ما بين البشر وغير البشر، فإن خلاصة معقولة يمكن أن تكون موقفا شاملا، عوضا عن المواقف الاستبعادية الوجهة، بما يجيز ضم المخلوقات غير الإنسانية إلى ملكوت الرعايا الأخلاقيين. وهذا ما يعني بأن أجزاء مما كان من المعهود اعتباره بمثابة “طبيعة”، شأن الحيوانات من ذوات الحس، ينبغي أن تحمى خطابيا من قبل ممثلين لها.
وبذا فإنه يمكن التغلب على أخلاق المركزية الإنسانية لصالح أخلاق بيئية من سياق تدريجي يمتد ما بين البشر إلى ملكوت الكائنات من ذوات الحس جميعا. هذه التدريجية الأخلاقية لها من دون شك عواقبها البعيدة لكل من الأساس والامتداد المعياريين للقانون الدولي. وعلى العموم فإن هذا يعني بأن على نظرية المخاطبة الاتكال على حجج معقولة، وإن قابلة للخطأ، باسم كائنات أخرى من ذوات الحس، وهذا يعني بأن الطابع الانضوائي لنظرية المخاطبة ينبغي أن يتعرض لعملية تحسين تدريجية حساسة تجاه شتى العينات. وهذا الاقتراح يمثل، في رأيي، تحولا ضروريا لمقتربي هابرماس وآبل للصلاح المعياري، بما فيه العدل في صيغة تشريعية. وهذا الضم للرعايا الأخلاقيين الذين ليسوا ولا يمكن أن يكونوا مناقشين أخلاقيين لها تبعاتها الحيوية بالنسبة للقانون الدولي: إن مبدأ الحكم الذاتي عبر المشاركة السياسية والخطابية يجب أن يتحول بطريقة تجعله يشمل دفاعا شرعيا وخطابيا لكافة الأطراف القائمة، أي كل الرعايا الأخلاقيين، وأيضا لحماية البعض منهم ممن لا يسعهم المشاركة في نقاش عملي والانضواء في عمليات ديمقراطية، وذلك من خلال ممثلين لهم، وإلى حد أنه إذا ما كان هؤلاء الرعايا معزولين، فعلا أو بنيويا، فإننا نكون حيال انتهاك لشرعية القانون الدولي.
خلاصات
على خلفية هذا التقديم الموجز لمقترب كل من هابرماس وآبل لمسألة إمكانية تبرير فلسفي للمبادئ الملزمة كونيا، بما فيها القانون الدولي وفي سبيل عدل أساسي ما بين الأمم والأجيال، سأشدد بشكل خاص على الرغبة في طريقة عمل أشد تحليلية الوجهة، والتي برأيي ستقوي هذه المحاولة بوصفها تبريرا لمبادئ أساسية كونية على المستوى التشريعي والأخلاقي.
هذه المبادئ تملي، كالتزام أساسي في سبيل مجتمع دولي متحضر، أولوية العدل وليس القوة. وهو ما يعني أن استخدام القوة ينبغي أن يشرع بالتوافق مع هذه المبادئ مطبقة بحذر في مواقف ملموسة. وإن هذا المفهوم ليتطلب تعاونا خطابيا وبحثا عن نمط من المشيئة المعقولة تفضي إلى اتفاقات ومؤسسات دولية وتحاول أن تتجنب النزعة الإستفرادية، خاصة حينما يقوم الأمر على تفاوت غير معقول وتأويل مسرف في نزعته الأحادية. علاوة على ذلك، فإننا إذ نعيش في مجتمع حديث نوقن أن التقنية الحديثة وإن يسرت سبيل السوق المعولم فإنها أيضا تجعل الإرهاب الكوني أسهل. وإن لمن المتوجب، في مجتمع المخاطرة هذا، الأخذ بالحسبان العواقب المؤذية غير المقصودة بالقدر الذي يؤخذ به الأذى المقصود شأن خطر هجوم إرهابي أو تخريبي ينفذه نفر طائش أو مجموعة شاذة أيديولوجيا.
حيال خلفية هذه المبادئ الشرعية الأساسية، ومن خلال تفهم واقعي للمخاطر المحتسبة في مجتمعات حديثة تقوم على التقنية الحديثة، ينبغي أن نقوم بأفضل ما بوسعنا لكي نؤسس مؤسسات دولية كافية لتقليل الأفعال المؤذية، بما في ذلك النزاعات السياسية، وأيضا من أجل شروط محسنة لعدل كوني وعابر للأجيال. ونحن إذ نصنع ذلك فإننا نحتاج إلى أن نأخذ بعين الاعتبار شتى الآراء الأكاديمية والعلمية، ولكن من المهم في تأليف شتى هيئات الخبراء أن نتجنب الانحياز غير المبرر طالما أن سيطرة غير مبررة لضرب معين من الخبرة قد يلحق أذى بكل من عقلانية الصورة المقدمة وبإمكانية حصول الجماعات معدومة الامتيازات على فرصة مساوية من التمثيل الكافي والقول الملائم. وكما نعلم فإن المصلحة الاقتصادية والمنظور العسكري غالبا ما يعينان الموقف، ومن ثم، تقرران جدول الأعمال ووسيلة حل المشكلة على نحو ما هي مصورة في إطار هذه المصلحة وهذا المنظور. فلكي نتجنب انحيازا غير مرغوب أو معقول حول كيفية تأليف منظورات ونظم علمية أو أكاديمية قد يكون من المفيد تحسين كفاية الجمهور في “المعرفة العلمية” ومن ثم تحسين قدرته على التفكير في تأليف قائم لمنظورات نظامية. بهذا المعنى فإن من المطلوب القدرة على التفكير ما بين النظم (أي لعقلانية عابرة للعقلانيات المختلفة). فلكي ينشر العدل الكوني والحوار ما بين الثقافات، ثمة حاجة مساوية لعقلانية عابرة للقومية. لهذا الغرض بالذات ثمة درس يجب أن نتعلمه من نظرية الخطاب مشددين على الحاجة إلى الاتصال والاعتراف المتبادل في النقاش: هذا الاعتراف المتبادل لا يملي استبعاد النقد ما بين الثقافات وإنما استبعاد التكافؤ أثني المركزية ما بين الشخوص والشعوب، وبما يعني الاعتراف الأساسي بكل الشخوص والشعوب. وفي الوقت نفسه فإنه ييسر، بل يتطلب نقدا عادلا ومشرفا للأفعال والأفكار المنحازة أو غير الملائمة، أو الخاطئة تماما – نقدا شرعيا وأخلاقيا ومعرفيا. فمن دون إمكانية نقد متبادل، خطابي الأساس من هذا النوع، لا يمكن أن يكون هناك اعتراف حقيقي ولا عملية تعلم حقيقية ترتكز على التبادل الخطابي وأخذ الأدوار ما بين الأشخاص والشعوب.
في هذا السياق فإنه لمن المهم التفاعل ما بين نظرية المخاطبة باعتبارها تطبيقا اتصاليا والنظرية المعيارية للتحديث والاجتماع. ولكن في حالات عديدة يمكن أن يكون هناك توتر ملازم ما بين التقنية الحديثة وممارسات اجتماعية ذات صلة من جهة، ومواقف وبنى ما قبل حديثة، من جهة أخرى. وهذه، على ما يبدو، مشكلة أساسية في العديد من الدول الإسلامية. لكن هناك توترا مشابها في بلدان غربية، شأن الولايات المتحدة مثلا، وحيث البلاغة الدينية مقبولة سياسيا نظرا إلى الافتقار إلى التحديث الثقافي في سياق نظر ذاتي شكوكي النزعة في قضايا كهذه.
وحينما يصل الأمر إلى الحاجة إلى الحوار ما بين القوميات والثقافات، ينبغي علينا أن نأخذ بعين الحسبان تشكيلات أساسها القيمة وثقافية خالصة. أما على المستوى الاتصالي، فثمة حاجة إلى حوارات تنشر التفاهم المتبادل، وأيضا إلى نقاشات في سبيل حجج أفضل على مختلف المستويات. باختصار، ثمة حاجة إلى فهم معدل وليس فقط تبرير معدل. علاوة على ذلك، ينبغي أن نوقن أن هناك “حوارات كبيرة” وأيضا “حوارات صغيرة”، وثمة حاجة إلى إيضاح المنظور الشامل وإلى تقليد وأن نناقش إنجازات هذا التقليد وقيمه. غير أن ثمة حاجة أيضا إلى الإصغاء إلى تأويلات وتعليقات سياقية الحدود ملموسة تستند إلى خبرات مواقف ؛حياة العالم ؛ والخبرات الشخصية. وإن لمن المهم أن نتحدث مع ناس وليس فقط عنهم وعليهم. وإن لمن المهم أن نتعلم أن نصغي، خاصة إلى ما هو غير مألوف لدينا وغريب علينا. لذلك فإن اللغو قد يكون شيئا مهما، ذلك أن كلا من العجلات الكبير والصغيرة مطلوبة لنشر التفاهم المتبادل في المجتمع الدولي بمختلف أنماط المعنى والهويات والقيم.
خلاصة الكلام أن ثمة إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ معيارية أساسية وأيضا للقانون الدولي من أجل عدل كوني وعلى مر الأجيال. مثل هذا التبرير ينبغي أن يلحق بنظريات التحديث بما فيها النظر في الخبرة العملية والأكاديمية، وينبغي أن يلحق بالحوار ما بين الثقافات. في النهاية، يمكننا من هذا المنظور أن نستبين تحديات طارئة:
أولا، يتوجب علينا أن نبلور رؤية واقعية للجذور التقنية المشتركة للإرهاب.
ثانيا، إننا بحاجة إلى تجديد وتعزيز ذلك الضرب من نقد الدين الذي كان سبينوزا قد باشره في عصر الأنوار والذي يمكن أن يحيد الأصولية الدينية.
ثالثا، يتوجب علينا أن نؤيد إعادة التوزيع للمصادر النادرة، إعادة واقعية وعادلة، كونيا وعلى مر الأجيال، وأيضا من خلال اعتبار كاف لحاجات شتى ذوات الحس من غير البشر.
سمير اليوسف كاتب ومترجم من فلسطين يقيم في لندن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.