انقسام السودان الحديث الى دولتين ، لا شك انه يعود الى عنصرين هما ، عبقرية الانقاذ التي كانت تظن ان صداع مشكلة الجنوب سينتهي بمجرد تناول هذه الاسبرينة دون التمعن في اثارها السامة التي ستهيج قرحة بقية المشاكل اللاحقة لتعاطيها وبالتالي انفجار النزيف الذي يصعب تلافيه .. وعنصر انتهازية الحركة الشعبية التي كانت هي الأخرى تعتقد أن الثمرة قد تدلت عليها من غير عناء رميها بحجر ،دون أن تبتعد قليلا عنها فسقطت ثقيلة على رأسها لتسبب لها ارتجاجا في المخ ! الآن كلا الطرفين يتلمس المبرر الذى يبريء ذمته من وزر المسئؤلية التاريخية لتلك الفعلة الشنيعة ، ويحاول تعليقها على شماعة الارادة الشعبية الجنوبية التي انتهزت هي الأخرى وهذا حقها فرصة مبدأ تقرير المصير ، لتهرب به الى الامام ، عسى أن تجد مخرجا من طرفي نيفاشا ولو بعد حين، وقد عجز أى منهما من حسم معركة القتال في الجنوب لصالحه ، فخرجا منها ( واحد مهزوم والآخر غير منتصر ) ليركنا الى خيار ذلك السلام المشئؤم ! وهاهي النتيجة ترمي باثقالها على كاهل الوطن الجريح هنا وهناك قبل انقضاء العام الأول لانفلاقه! نعم ليس السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي ينقسم شعبا وأرضا. فكثير من الكيانات تفتت بعد أن تحاربت ثم هدأ سرها وتعايشت ولنا مثل في الاتحاد السوفيتي الذي تفرق ايد سبأ بعد أن كان امبراطوورية موازية للغرب مجتمعا ولحقت به منظومة اوربا الشرقية في مسلسل تشظي دراماتيكي دموي لم تطفيء جراحاته الا علاجات الكي ، وقبلهما تفككت الامبراطورية العثمانية، وكثيرة هي الكيانات التي ظل جرح انقسامها نازفا حتى بعد عقود طويلة من الانشطارولدينا نموذج الهند وباكستان ! ورغم تفاوت الحالات وظروفها السياسية والتاريخية والجغرافية ، الا أن ما يجمع بينها هو وجود العناصر العالقة التي تؤجج الصراع بينها بين الحين والأخر، فمثلما يظل عنصر الحدود قاسما مشتركا في اشعال فتيل الحروب فيها و يشكل مصدر الخطر الدائم على حالات التعايش المتقطعة ، فان تجاذب المصالح الاقتصادية لا يقل اهمية في خطورته على ذلك التعايش ، مضافا اليه العوامل الأثنية وتداخلها الاجتماعي و الحدودي! وهي مكونات مجتمعة تتوفر في الحالة الخاصة بالسودان المقسم شمالا وجنوبا ! وتظل الحقيقة التي لا فرار منها ان تباكي الشمال على نفطه المسكوب جنوبا لن يفيده دون التحرك لاتخاذ خطوات عقلانية بعيدة عن المزايدة بالخطب على شاكلة التي يطلقها الرئيس البشير وآخرها خطابه في القضارف بالأمس ، وينبغي كذلك بالمقابل الا يفرح جنوبيو الحركة ايضا ويكثرون من الضحك باعتبارهم شطارا قد ( مقلبوا ) شمال الانقاذ وأخذوا منه الحبوب مقابل التبن !فكلا الطرفين عليه أن يلتفت جيدا للحلول الاستراتيجية البعيدة المدى التي تخدم الدولتين وشعبيهما ، دون النظر عند ارنبة الأنوف والمداورة في الحلول أو المناورات التكتيكية المكشوفة التي تخدم النظامين الزائلين ، آجلا أو عاجلا شمالا وجنوبا ، فالدول الواعية القيادات تبني خططها للحاضر والمستقبل ولا تربطها بمصالح آنية وتتركها نهبا لتقلبات المزاج السياسي والمصالح الذاتية الضيقة ، هذا ان كانوا يعقلون! وكلا الطرفين مربوط مع الآخر رغم الانفصال ، بتشابكات التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة التي لا فكاك عنها ، وعليهما أن يجلسا الى طاولة المفاوضات لحسم كل الأمور العالقة لتجنيب الجسدين المنهكين خطر الحرب ثانية، فهما مسئؤلان تاريخيا وأخلاقيا أمام الله وشعبي البلدين عما لحق بهما من أذى ! ولئن كانت مشكلة الجنوب هي نتاج تراكمات لم تكن بداياتها في عهد الانقاذ والحركة الشعبية ، ولكنهما دون شك يتحملان الجانب الأكبر في مآلات الحالة ، لان العبرة في النهاية بالنتيجة ! وليكف الطرفان عن اشعال النيران فيما تبقي من أطراف ثوب هذا الوطن المهتريء شمالا وجنوبا ، ولسنا نملك الا الدعاء له بان يخلصه الله ممن تربصوا به ، ويعيد لحمته بان يسخر له ابناء الحلال ويولي عليه من يصلح حاله . قلناها مرارا وتكرارا ، وفي الاعادة افادة! والله المستعان .. وهو من وراء القصد. [email protected]