الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غرامشي..من نقد نخبوية المثقف إلى نقد نخبوية النص الديني..بقلم : حيدر علي
نشر في حريات يوم 15 - 02 - 2012


حيدر علي..
عندما نتكلم عن نقد نخبوية النص الديني عند غرامشي فهذا يحيلنا بالضرورة إلى مساْلة نقد النخبوية الثقافية بكل صورها وأشكالها التي اشتغل عليها النص الغرامشي، وهذا يعني أن مثل هذه الممارسة النقدية عند غرامشي عملت على استنطاق المسكوت عنه في خطابات النخبة والفلاسفة والسياسيون, والمسكوت عنه هنا هو تغييب وتهميش الثقافات اللانصية أي (الخارجة عن سلطة المكتوب) والمعتمدة على العقل الشفاهي والتداول الإيديولوجي في حياتها اليومية، مثل هذه الرؤية تعيد كتابة التاريخ بوصفه تاريخا للنخب السياسية والادلجة الثقافية التي عملت على كتابة التاريخ وفقا لرغبات السلطان، وحبا بالطبقات التقليدية التي تؤسس ديمومة لموروثهم التاريخي على مر الحقب، فتراهم هنا يستعينون بثقافة المركز (الثقافة العالمة) المتمحورة على النص الملَهوت (المكتوب) ضد ثقافة العوام الشعبية (اللانصية).
من هنا يبدأ الصراع الإيديولوجي بين المركز الذي يرفض ويحتقر كل ما يقع خارج مركزيته وبين الهامش الذي ينأى بعيدا عن أرثوذكسية المراكز، وعلى ما يبدوان هذا الانشطار المعرفي هو الذي أسس لتاريخ الصراعات الدموية والتكفيرية في كافة المذاهب الإسلامية (باعتماد معيار واحد، هو الدِّين)، سيُنعَتُ بالشَّعبي إذنْ كل ما لا يطابق ضوابط الإسلام الرَّسْمِي، أي كل ما يدخله للفقهاء في مجال إبليس، على حدّ تعبير الإمام الغزالي، مثلا، عندما يقول: “كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان(1)، أو ابن قيم الجوزية عندما يؤكد أن “كل حال خرج صاحبه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول فهو شيطاني كائنا ما كان”(2). وباختصار، فإن الشَّعبي في هذا المستوى هو فعل تسمية صادِرٍ عن رجُل الدِّين تُجاه كل ما يعتبره منحرفا عن العقيدة، أي تجاه كل ما ينتهك قانون الإسلام أو لا يذعن له، تجاه كل ما ينصت لصوت الرَّغبَة.
إن هذه الرَّقابة الدينية مازالت قائمة اليوم، لكنَّها تعزَّزَت برقابة أخرى يمكن نعتها ب”رقابة الحَداثَة” الصَّادرة عن مُدَبِّري السياسة اللغوية والمثقفين على السَّواء. فبخصوص هؤلاء، لاحظَ أحمد بوكوس أن: “المثقفين الوطنيين المتشبعين بالثقافة الكلاسيكية (…) يزدرون الفنون الشَّعبية باعتبارها فنونا “بدائية” (…) أما الأنتلجنتسيا المتنوِّرَة فتعتبرها تجليا لثقافة منحطَّة من شأنها أن تغلَّنا إلى اللاعقلانية والتَّقهقُر إلى الوراء”(3).
يبدو أن هذا النص إشكالي جدا، لأنه يتحرك في أكثر من فضاء وأكثر من نظام معرف، حيث أن الكاتب بعدما يشخص نخبوية النص الديني باعتبارها نتاج طبيعي لنخبوية رجال الدين الناطقين باسم السلطة، ينتقل بعد ذلك إلى نقد المثقف، والأنتيلليجنسيا لأنها ساهمت بل عملت على تهميش كل ماهو شعبي أو ديني شعبي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن, هل هناك علاقة جدلية بين (نخبوية) رجال الثقافة, ونخبوية رجال الدين؟
وهل أن عمل الالية المعرفية للمثقف هي نفسها لرجل الدين؟
وهل أن خطاب المثقف لا يقوم الا على استبعاد الخطابات الثقافية المغايرة لثقافته , كما هو الحال عليه في الخطاب الديني الذي يستبعد كل ما هوديني شعبي؟
يقول الكاتب صامولي شيلكه (ويفسر الازدواج المتناقض “للدين الشعبي”) لماذا لا يستعمل المصطلح في الخطاب الأكثر معارضة للممارسات الدينية “الشعبية”. وكلنا نعرف أن الإسلاميين يناهضون الدين الشعبي (أو الإسلام الشعبي كما يفضل المؤلفون الغربيون تسميته). فالإسلاميون المعاصرون يذهبون على أي حال إلى أنه لا وجود لشيء مثل الدين الشعبي. فهناك بدع ومنكرات وجهل وشرك وحتى كفر. ولكن لا وجود لمعتقدات شعبية أو دين شعبي.
ها نحن وصلنا إلى طرح سؤالنا الخطير على واقعنا، وأعني به، كيف يتمفصل الخطاب الديني بمكوناته الشعبية، والفولكلورية، والطقوسية بخطاب الهيمنة؟
وهل ما يسود الآن في الواقع هو (دين مطقسن)، أسطوري يتحرك بصورة الطقوس الشكلية، أم خطاب ديني نخبوي يتحرك بالعبادات الجوهرية؟..
باعتقادي أن أفضل من أجاب على هذه التساؤلات، بطريقة، أبستمولوجية، وموضوعية، هو الأستاذ عصام فوزي، حيث يقول عن هذا التمفصل:
“علينا بداية أن نفرق بين التعاطف الشعبي مع حاملي النص الديني، وبين حضور الدين في الخطاب الشعبي كأحد مكوناته فالتعاطف موقف يكون عادة مؤقتاً ومرهوناً بموازين للقوى السياسية والأيديولوجية تسمح للقوى الإسلامية بتغذية عنصر الهوية داخل الثقافة الشعبية وذلك “بإعطاء العدو الخارجي صورة العدو الديني”، لكن ذلك لا يعني أن الخطاب الشعبي قد أصبح مخترقاً بالنص الديني، أو أنه قد بدل هيكله ليتمحور حول العنصر الديني، فذلك التغيير في بنية الخطاب تستلزم تعدد العناصر التي يتمفصل فيها مع الخطاب النصي الديني، ولا نبالغ إذا قلنا أن الخطاب الشعبي حول الدين يتمايز تماماً عن الدين النصي وهي قضية خصها غرامشي في معرض نقده لكتاب بوخارين، المادية التاريخية: كتيب شعبي في علم الاجتماع الماركسي”، لكونه ينبني ضمنياً على افتراض أن الأنظمة الكبرى للفلسفة التقليدية، ودين زعماء الأكليريوس أي تصور العالم الخاص بالمفكرين والثقافة العالية تتعارض مع تطوير فلسفة أصلية للجماهير الشعبية، وفي المقابل يؤكد غرامشي أن تلك الأنظمة “غير معروفة لدى العامة، وليس لها تأثير مباشر على طريقتهم في التفكير والفعل”.
ويحدد نوعية تأثيرها بأنها سياسية خارجية، في تمييز واضح لم يكتمل للأسف بين آليات الهيمنة الخارجية والاختراق الداخلي للثقافة فيقول غرامشي:
“إن هذه الأنظمة تؤثر في الجماهير الشعبية كقوة سياسية خارجية، وكعنصر من قوة تماسك تمارسها الطبقات الحاكمة وعلى ذلك كعنصر إخضاع لهيمنة خارجية يحد ذلك من التفكير الأصيل للجماهير الشعبية باتجاه سلبي دون أن يكون لها ما للخميرة الحيوية من تأثير إيجابي على التحول الداخلي لما تفكر فيه الجماهير بشكل جنيني ومشوه حول العالم والحياة”.
إن أهمية هذا النص تكمن في إشارته إلى وجود نوعين من الهيمنة، هيمنة سلبية وغالباً ما ، تمنع الجماهير من إبراز الجوانب الأصيلة في تصورها عن العالم فلا تصبح الجماهير حاملة لتصورات، ومقولات الطبقات المسيطرة بشكل مباشر، وإنما تكون مكبلة خارجياً ومحاطة بالسلبية، والتواكل والعجز أي إن العناصر الايجابية التي لم يُشر غرامشي إلى أولياتها فهي تضع أكثر من احتمال حسب القوى الساعية للهيمنة كما تأخذ أكثر من شكل:-
طبقات مهيمنة رجعية:-
تفعيل العناصر السلبية والرجعية في الفكريات الشعبية بالتمفصل معها.
تحجيم العناصر التقدمية والايجابية.
تصدير مقولات متخاذلة إلى الخطاب الشعبي.
طبقات مهيمنة بديلة (تقدمية):-
تفعيل العناصر الايجابية.
تحجيم العناصر السلبية والرجعية.
تصدير مقولات نضالية إلى الخطاب الشعبي.
وإذا ما أخذنا بالتراتيبة التي يشير إليها غرامشي مراراً في تصنيفه لأنماط رؤية العالم لدى الطبقات الاجتماعية، والتي يقع أدناها قريباً من البنية التحتية، وفي حين يزداد التعقيد كلما اتجهنا صعوداً حتى نصل إلى الثقافة العالية والفلسفة والتخصص العلمي، إذا أخذنا بتلك التراتبية فإن الفولكلور أو الثقافة الشعبية تصبح من ثم أكثر تلك الأنماط تأثيراً بالتحولات المباشرة في البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج، لا يعني ذلك أن مرونتها وتحولاتها أعلى، لكنها تغذي عناصر (برجماتية)، وطبيعية موجودة لديها بالفعل، وهذا يعني انفتاحها الداخلي وليس كما يرى كثير من الباحثين أنها تتسم بالثبات والاستاتيكية إنها لا تصبح بنية مغلقة، وبقدر من الدراسة العلمية لعناصرها التي تتضخم يمكنها أن تصبح دالة في التغير الاجتماعي والاقتصادي(4).
لكن كيف تتشكل الازدواجية التي تخترق النص الديني وتقسمه إلى نص يخص الطبقة الفلاحية (البسيطة التصور)، ونص يخص الطبقة الرسمية؟
يقول غرامشي عن هذا الازدواج:
“كل دين حتى الكاثوليكية هو في الحقيقة عديد من الأديان المتميزة وغالباً المتناقضة، فهناك كاثوليكية للفلاحين، وواحدة للبرجوازية الصغيرة، وعمال المدن، وواحدة للنساء، وواحدة للمفكرين”(5).
يعلق الأستاذ فوزي على هذا النص بقوله:
لكن الكنيسة، والأديان الكبرى على العموم تستشعر الاحتياج كما يقول غرامشي:
“لوحدة مذهبية بين كل الجماهير صاحبة العقيدة، وتناضل لتأكيد أن الشرائح المثقفة لم تعد منفصلة عن الدنيا، وكانت الكنيسة الرومانية جادة للغاية في النضال من أجل منع التشكل “الرسمي” لدينين، احدهما (للمثقفين) والآخر (للأرواح البسيطة)”.
هناك تنوع كبير في موقف الديانات الكبرى في سعيها “للهيمنة” على الدين الشعبي، فالدين الإسلامي على سبيل المثال خاصة في شقه (السني) الذي يعتمد تمييزاً واضحاً بين العامة والخاصة، ويقوم على مدى الإلمام بالعقيدة، وكان لكتابات أبي حامد الغزالي الدور الأهم في ترسيخ ذلك التمييز في مؤلفه الرئيسي (إحياء علوم الدين) حيث تعني “الخاصة” عنده أولئك المتعمقين في معرفتهم الدينية، النخبة الدينية الموهوبة، أما العامة فتعني لديه البسطاء من الناس الذين لا يرون من الدين إلا وجهه الخارجي فقط والحفاظ على تلك المسافة كانت مهمة “المؤسسة الدينية” التي لم تحاول جرح المسافة لما يعنيه ذلك من تمييع الحدود الحصينة التي تمنح المتخصص الديني(6) موقعه الامتيازي في البناء الاجتماعي، وكان عنصر اللغة يعمق تلك المسافة ويجعل تأويل النص الديني مقصوراً على الصفوة(7)، بتحول اللغة إلى سياق ملغز، بعمق انفصاله يومياً عن الجماهير الشعبية (يشبه ذلك استخدام اللاتينية في النص الديني الكاثوليكي المعزول عن الجماهير). ولما كان من الضروري في هذا الوقت اختراق الخطاب الشعبي فقد بذلت محاولات مرهقة عبر حلول متنوعة لموازنة تلك المعادلة الصعبة، الحفاظ على ديمومة الانفصال واختراق الخطاب الشعبي. فكان ذلك باعثاً على تخليق ذلك المثقف الديني المتوسط الذي يمتلك آليات النفاذ ويستطيع تحويل الثقافة الدينية إلى لغة مبسطة.
عادة ما لا يستطيع الخطاب الديني النصي المتمفصل مع الخطاب الشعبي حول الدين إلا في نقاط محدودة لكن ينبغي الإشارة هنا إلى وجود تنويعات داخل تفسيرات الدين النصي تجعله اقرب أو ابعد عن الخطاب الشعبي، فالإسلام الشيعي يجد عدة نقاط التقاء وتمفصل مع الدين الشعبي مما يوسع قاعدته الجماهيرية.
أي أنه مهيمن فعلياً(8)، ولعل هذا يفسر نجاح الكوادر الدينية الشيعية والإيرانية في قيادة شعبها ضد نظام الشاه وذلك بتمفصل مع “المهداوية” الموجودة “في الفكريات الشعبية” فالشيعة المستندة إلى مذهب “الإمامة الاثني عشرية” تلتقي مع الفكرة المهدوية، والخطابان الشيعي والشعبي مفتوحان، فالخطاب الشيعي مفتوح لاجتهادات الأئمة واستنتاجاتهم الشخصية حيث يتملكون، نيابة عن الأمام الغائب – حق إصدار الفتاوى والفصل في المسائل الأساسية والقانونية في الشريعة بينما تغيب تلك المزية عن رجال الدين السُنة حيث أغلقت أبواب الاجتهاد أمامهم منذ القرن العاشر الميلادي مع استقرار المذاهب السنية الأربعة، ولا يستطيع علماء السنة تفسير المسائل الدينية وإصدار الفتاوى إلا على قاعدة القياس(9).
هنا يبرز غرامشي الفرق بين الخطابين بطريقة ابستمولوجية على قاعدة الهيمنة الوجدانية الشعورية، والعاطفية، التي تنجذب إلى الخطاب الديني، أو رجالات الخطاب الديني، لما يحملونه هؤلاء من “مخيال مقدس” في وجدان هؤلاء البسطاء، والمهمشين، الذين لا يفهمون من الدين النصي، إلا طقوسه، وممارساته الشكلية، التي تنسجم مع تاريخهم المليء بالأسى، والحرمان، والاغتراب، فتراهم أقرب إلى التدين الانفعالي، عن التدين العقلاني، النصي، وقد أشار الباحث والبروفسور المعروف على الكنز إلى هذه الثنائية بقوله:
“هناك إسلام شعبي، وإسلام أرثوذكسي، انطلاقاً من امتلاك الإسلام الشعبي لخصائص توفيقية ووظائف استرضائية، (أي هيمنية) وضعف علاقته بالتأويل النصي المكتوب، وتفتحه الأكثر بمقتضى تكيفه مع لغة الحياة العملية، بما يجعله الأقرب إلى الطبقات الشعبية، أما الإسلام الأرثوذكسي أو إسلام رجال الدين، فيتميز بانتشاره الواسع بين “الطبقات الوسطى”، ويختلف عن الأول لكونه يرتبط بالممارسة المعرفية للنصوص المقدسة”(10).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل أن خطاب التدين الشعبي ينتج آليات لمقاومة هيمنة الدين النصي؟
يقول عصام فوزي:
1- إذا كان للنص الديني المؤسسي (القرآن والحديث)، من فعالية فهي لا تتجاوز الحوار الصراعي بين التيارات التي تمتلك رؤية نظامية مفلسفة، والتي تعتمد النص معياراً للحقيقة، وتقيم من ثم علاقة تضمنية معه تزداد مصداقيتها بازدياد المساحة التي تفتحها للنص المؤسس في خطابها وإن اختلفتا في تأويله وتوظيفه، لكن النص المؤسس هذا تتناقض فعاليته وبالتالي وظيفته إذا ما انتقلنا إلى الذهنية والخطاب الشعبي الذي لا يصله النص إلا مهشماً.
بعد أن يمر بمراحل غربلة تصفية متعددة (سلطوية أو جهادية) وهنا يجب أن نأخذ في الاعتبار حقيقتين على درجة عالية من الأهمية: إن الرؤية الشعبية غير نظامية وغير مفلسفة، ومتشظية كما يقول غرامشي، لذا فإنها انتقائية في استيعابها للخطاب الديني النصي، وقادرة على تغيير موقعه داخلها حسب تغيير الشروط الاجتماعية، والاقتصادية، والأيديولوجية، بحيث يلعب أدواراً مختلفة تبعاً لاختلاف الشروط.
2. يمتلك الخطاب الشعبي حول الدين إمكانيات مراوغة عالية منعت اختراقه من قبل الخطاب الديني النصي حتى الآن، فهو:
ضد البدايات العلنية: إذ لا يحضر الديني في الخطاب الشعبي محاطاً بطقوس البداية المقررة وإذا كان إخضاع أي خطاب يبدأ بإلزامه بعلنية البداية، أو كما يقول “فوكو”، إن المؤسسة تحيط البدايات بهالة من الاهتمام والصمت وتفرض عليها أشكالا أضفى عليها طابع طقوس، كما لو كانت تريد إثارة الانتباه إليه من بعيد، نقول إذا كانت البداية نوعاً من الإخضاع فإن الدين الشعبي ينزلق إلى داخل خطابه دون أن يثير الانتباه فيأتي في سياق الحكي، المثل، الموال، الأغنية، وحتى النكتة وألعاب الأطفال ومن ثم يتحاشى أن يصنف كخطاب ديني ملتزم متمثل، أو مارق.
بغير ذات منتجة، أي بغير مؤلف يستند إليه “الخطاب” إن غياب المؤلف يصعب مهمة محاكمة الخطاب الشعبي حول الدين.
يتماشى مبدأ التعليق أي إعادة إنتاج النص الديني : يرفض الخطاب الشعبي أن يتضمن بأية صورة من الصور في الخطاب الديني النصي وإذا ما استحضره فأنه تجيء به في شكل يفقده قوته وسلطته المرجعية ويجرده من بهائه الديني وقدسيته.
استعداده الدائم لاختراق قائمة الممنوعات الدينية: يأتي النص الديني حاملاً لخريطة الواجب، والممنوع، والممكن، وعلى الرغم من الالتزام الظاهري من جانب كافة الطبقات الاجتماعية إلا أن الذهنية الشعبية تنفتح على شروط وجودها الاجتماعي الخاصة التي لا تستجيب بالكامل للقائمة الإلزامية المفروضة من أعلى، وتسهيل لا نظامية الخطاب الشعبي تلك المراوغة حيث يمكن أن يحضر المروق والتمرد في أقسام من الخطاب الشعبي.
3. لا يعني هذا أن الخطاب الشعبي بما فيه شقه الديني، عصي على الهيمنة، وإنما المقصود من كل ما ذكرته انه على استعداد للتمفصل مع خطابات تحتوي على تلك العناصر الطائفية، المستعدة للتمفصل والالتقاء، وهذا ما لم يحدث حتى الآن. فلقد فشلت أيديولوجيا التنوير الليبرالية الغربية في الهيمنة على الجماهير الشعبية، بل ولم يطرح الخطاب الليبرالي على نفسه تلك المهمة فهو خطاب راضي بنخبويته مكتفياً بها، كما فشل الخطاب الماركسي في تلك المهمة، بل كان هو ذاته خاضعاً للخطاب الليبرالي.
لم يعد ممكناً إلا أن ندخل في صلب ومضامين الخطاب الشعبي، وقد أشار غرامشي إلى هذه المسألة عندما قال:
يجب أن نأخذ الثقافة الشعبية بجد، ولن يكون ذلك متاحاً إلا إذا تخلص المثقفون من ذلك الافتراق الواضح في مساراتهم، والملاحظ حتى الآن، إن كل مجموعة منغلقة على ذاتها، كسياسيين وعلماء الاجتماع إذا ما جمعتهم الأزمة وطالتهم فإنما باعتبارهم فئة اجتماعية تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة لا أكثر، لكنها لم تدفعهم يوماً إلى الحوار ونقد الأزمة باستخدام شبكة مركبة من الأدوات العلمية التي في متناول أيديهم أدى إلى أن أزمة علاقاتهم “بالشعب” تطرح متجاورة لا متجادلة.
وكأن كل جانب منها منفصل وقائم بذاته، فالدراسات حول “الثقافة الشعبية” لم تخرج من الأروقة الأكاديمية في حين يطرح السياسيون قضاياً الديمقراطية والحريات وصعود الجماعات الأصولية، وكأن هذه لا تتعالق مع تلك على أي مستوى، وكأن الشعب الذي يدرسه الأكاديميون ليس هو نفسه الشعب المطروح عليه أن يكون فاعلاً في التغيير السياسي، وكأن القوى التقدمية ستحسم معركتها مع القوى الدينية الأصولية عبر الصراع المباشر معها، ودون احتياج لتدخل الجماهير الشعبية(11).
الهوامش
1. الغزالي، ج3، ص28.
2. ابن قيم الجوزية، 1975، ص266.
3. عبد الصمد الديالمي كاتب مغربي، http://aslimnet.free.fr/sui
4. فوزي، عصام، آليات الهيمنة في الخطاب الشعبي، ندوة القاهرة، ص248-249.
5. م. ن، ص251.
6. هذا أيضاً موجود في الخطاب العرفاني.
7. كما هو في الفقه.
8. كما نجد ذلك في كثير من الحركات الإسلامية التي تتركز في اغلب المناطق الشعبية، التي تعشش فيها الثقافة الشعبية.
9. م. ن، ص251-252.
10. ذياب، محمد حافظ، التدين الشعبي الهوية والذاكرة، مجلة الطريق البيروتية، العدد الخامس، 99، ص26.
11. فوزي، عصام، مصدر سابق ذكره، ص253-254-255.
12. هذا البحث هو جزء مستل من اطروحة ماجستير للباحث بعنوان (إشكالية المثقف عند غرامشي) من جامعة بغداد سنة 2005.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.