أسلوب صعب مقتضب تصويري وغنائي : كلفت مجلة (The Newyorker) أحد الكتّاب في أواخر صيف 2001 ليكتب تحقيقاً بيوغرافياً ونقدياً عن الشاعر بيلي كولينز عندما نُصِّبَ، أو عُيِّنَ حسب الإجراء الرسمي، شاعراً متوّجاً للولايات المتحدة. وكان كولينز في ذلك الوقت، ولا يزال، يتمتع بشعبية ونجومية لا يتمتع بها شاعر أميركي معاصر آخر. وكان أيضاً أول شاعر متوّج يخدم من عهد رئاسة بوش، وأكثر الشعراء الذين شغلوا هذا المنصب منذ إنشائه توزيعاً. ويقول جوشوا كلور، أول من أزاح النقاب عن هذه الحادثة… “وقد بُحثت الحقائق، ورُوجعت المصادر، وأجريت المقابلات. ثم اكتست اللحظة قتامة ولم يعد الوقت مناسباً لشاعر يدين بنجاحه وذيوع صيته لخفته ومن ثم عُلّق نشر التحقيق: كيف تُكتب ترجمة ذاتية لشخص، إذا كان هذا الشخص ليس له ظل؟ “وقد تغيّر الحال، وإن كان التغيير ليس كبيراً. ولم تعد الحرب وشائعات الحرب غير رؤيوية، اعتماداً على الذي يقوم بالتقييم، ولكن من المؤكد أن الوضع صعب”. وقد اختارت مكتبة الكونغرس الشاعرة لويز جلوك Gluck لتخلف بيلي كولينز كشاعرة الولاياتالمتحدة المتوّجة. وقد حرص كلور، الذي ساق قصة دراسة مجلة ذي نيويوركر مع كولينز التي لم تُنشر، على أن يشير إلى أن اختيار لويز جلوك في هذا الزمن الصعب والقاتم لا يعني أنها شاعرة أكثر صقلاً من كولينز، ولكنها مع ذلك أكثر ملاءمة للحظة. “فالتاريخ يأتي بالشعراء الذين يستحقهم، وبرغم أن جلوك ليست في جهامة الصحف اليومية الصادرة مؤخراً، وليست ميّالة للقتال بضراوة مثل إدارة بوش، فهي ليست أيضاً رفيقة قضاء وقت طيّب، “إن شعرها ليس غريباً على الصعوبة، وهو شعر زاخر بالظلال”. ولدت لويز جلوك سنة 1943 في نيويورك ونشأت في لونج أيلاند، وهي تعيش حالياً في بلينفيلد، بولاية يرمونت منذ عدة سنوات. وقد قامت بالتدريس، من هذه القاعدة، في عدة كليات وجامعات، من بينها كولومبيا، وجامعة أيوا، وكلية ويليامز. وقد صدرت مجموعتها الشعرية الأولى “المولود الأول” في 1968. وكان هذا الكتاب يعكس التأثر بشعر سيلفيا بلاث. وقد عالج صوراً من الأراضي الخراب وركز على حيوات مفقودة، وشخوص تتحرّك عبر دمار فيزيقي وعاطفي شديد. (لقد هيمن السم الذي حل مكان الهواء). بهذه الصورة استهلت جلوك مجموعتها في قصيدة “قطار شيكاغو”. وبرغم أن عدة قصائد من المجموعة تركز على مشاهد حياتية، فهي ترمي على نحو متسق إلى معنى أوسع ورمزي، كما في قصيدة “بصلة وحيدة” في طبق حساء ترى سابحة في الفضاء مثل أوفيليا، مطهوة بالشحم”. وقد لفتت جلوك الانتباه إليها مع صدور مجموعة “البيت المطل على الأهوار” (نيويورك” 1975) الذي حوّلت فيه دائرة الأسرة إلى فلك رمزي، بإشارات توراتية وإشارات أسطورية أخرى تدعم المستوى الحرفي للقصائد. ويتجلى أسلوب جلوك المميز: المقتضب، والصعب والتصويري والغنائي، كأقوى ما يكون في هذه المجموعة. ومن أفضل قصائد الكتاب، قصيدة “البركة” التي تبدأ بصورة أخاذة تحمل طابع الشاعرة المميز: “الليل يغطي البركة بجناحه”، وتتحوّل البركة إلى رمز للذاكرة، خزان جميع الأساطير، والآمال، والأحلام. وبعد أنه انتقلت إلى يرمونت، بدأت جلوك تعتمد بكثافة على التخيّل، كما في “شجرة البرقوق المزهرة”، حيث تقول في بيت يحمل بصمتها “في الربيع من أغصان شجرة البرقوق المزهرة السوداء/ يصدر الطائر الصداح رسالة بقائه الروتينية”. إن “رسالة البقاء”، يقول إيان هاملتون في (دليل أوكسفورد إلى شعر القرن العشرين) تُمزج بصورة متّسقة مع رسالة يأس أشد خشونة في شعر جلوك. وفي قصيدة “شخص يهبط السلم” (1980)، تعود الشاعرة من جديد إلى تيمات الحياة العائلية والموت، أو فقدان الآخرين، وتقدم متتالية جديدة ذات أثر لا يمحى، “الحديقة”، وهي تأمل بليغ في وحشة الانسان والموت في سياق أصول الشاعرة وعلاقات حبها. وفي مجموعتها الرابعة “انتصار أخيل” (نيويورك 1985)، تتناول القصائد قضايا معرفة وتوضيح إحساس الشاعرة بالعالم، حيث تنتهي القصيدة التي تحمل اسم الكتاب بأخيل حزيناً من أجل باتركلوس في خيمته “منحية الجزء الذي أحبه/ الجزء الذي كان فانياً”. ثم أصدرت مجموعة “أرارات” (نيويورك 1990)، و”الزنبقة البرية” (نيويورك 1992) التي حصلت بها على جائزة بوليتزر. وفي قصيدة “الزنبقة الفضية” تقول: بياض على بياض، ارتفع القمر فوق شجرة البتولا. وفي الانعقاف، تنقسم الشجرة، أوراق النرجسات الأولى، في ضوء القمر فضية مخضوضرة ناعمة. لقد قطعنا شوطاً بعيداً معاً نحو النهاية الآن فلم نعد نخشى النهاية. في هذه الليالي، لم أعد حتى متيقنة أني أعرف ماذا تعني النهاية. وأنت، وقد كنت مع رجل بعد إجهاشات البكاء الأولى، أليست البهجة، مثل الخوف، لا تصدر صوتاً؟ تقول هيلين ندلر، وهي من أكثر نقاد الشعر الأميركيين المعاصرين نفوذاً، في مقال عن كتاب “الزنبقة الفضية” (الروح تقول مطبعة جامعة هارارد 1995)… لويز جلوك شاعرة لها حضور قوي وأخاذ. وقد حققت قصائدها في سلسلة من الكتب التي صدرت خلال العشرين سنة الأخيرة التميّز غير العادي بألا تكون “اعترافية” أو “متثاقفة” بالمعنيين العاديين لهاتين الكلمتين، اللتين يعتقد في الغالب أنهما تمثلان معسكرين في حياة الشعر وعلى مدى زمن طويل، رفضت جلوك الأوتوبيوغرافي والاستطرادي، مفضلة عرضاً يسميه البعض أسطورياً، والبعض الآخر صوفياً. وتضيف ندلر… لقد كان الصوت في القصائد مسكوناً بالذات كلية، لكنه لم يكن مسكوناً بالذات بطريقة صحفية. لقد سرد حكايات، بالأحرى، عن رجل أنموذجي وامرأة في حديقة، عن دافني وأبوللو، عن زيارات حيوان هامة على نحو غامض. ووراء تلك القصص، مع ذلك، تحوّم سيكلوجية الشاعرة التي تتريث في القصائد، نصف مرئية. إن لغة جلوك أحيت إمكانات التأكيد العالي، تأكيد كأنه من مرجل ثلاثي القوائم، دلفي، وكلمات التأكيد، ولو أنها كانت متواضعة، وبسيطة وعادية، إلا أن نبرتها الكهنوتية غير الأرضية هي التي قد ميّزتها. فهي لم تكن صوت نبوءة اجتماعية، بل صوت نبوءة روحية، نبرة ليس لدى كثير من النساء الشجاعة لادعائها. وتطرقت هيلين ندلر، بروفسور الشعر بجامعة هارارد، إلى مجموعة لويز جلوك اللاحقة “أرارات” التي صدمتها لتخلّي الشاعرة عن الرمز من أجل التعامل مع “الحياة الحقيقية”، والتي وصفتها بصراحة لا تعرف الرحمة، كما لو كانت الأمانة قد تطلبت حقيقة عارية مقطّرة من تفكير سنوات. لقد كبحت جلوك جماح دراما وعيها الثاقب، وقيّدت موهبتها في التطوير الشعري. وكان واضحاً أن شيئاً من العقاب كان في الطريق. الآن، إذ عكست المسار، كتبت جلوك كتاباً رمزياً باذخاً للغاية، من بين جميع الأشياء، بزهور متكلمة. والكتاب في الحقيقة قصيدة طويلة، صممت كشعائر طقوسية، فالأزهار تتحدث إلى البستاني الذي يرعاها، الشاعرة، التي تنعى فقدان الشباب، والعاطفة الجياشة، والحياة الايروسية، تصلي لإله لا اسم له، والإله، يخاطب الشاعرة، بصوت لاذع. وهي بالنسبة لإلهها البستاني، مثل الزهور بالنسبة إلى شاعرتها البستانية، الزهور، في جمعيتها البيولوجية القوية، وجانبها المثير للشفقة، تتحدث إليها، أحياناً موبخة، بينما تتحدث متوسلة إلى إلهها. والإله له وجهة نظر رفيعة وساخرة في نفس الوقت، ويهاجم بصورة متكررة نعي الشاعرة لنفسها أو تمركزها الذاتي. وتقول ندلر هذه هي مخاطر جادة بالنسبة لقصيدة كتبت في أواخر القرن العشرين، لكن جلوك تربح الرهان. والقارئ البشري يوضع أيضاً في اختبار حالة متوسطة بين عالم حي نام والعالم الروحي الحاد، ويشارك في محنة الشاعرة. الحديقة وجلوك تعود هنا إلى متتالية مبكرة تسمى “الحديقة”، التي أعادت كتابة أسطورة عدن. وبينما تتقدّم “الزنبقة البرية” نرى أن عدن قد تداعت. وعكس مزاج الكتاب الاستهلالي اللا معنى المطلق للعيش بينما يستطيع المرء أن لا يفكر في شيء يتمناه. وتربط جلوك نفسها في قصائد الزهور هذه مع سلفيها الرئيسيين في استخدام الزهور كصور للروح، جورج، هربرت وإيملي ديكنسون. وفي الحرمان الروحي تشبه الروح مصباحاً كهربياً مخبأ تحت الأرض. وقد التقط مايكل شميدت في “حيوان الشعراء” (ينتيدج بوكس راندوم هاوس 1998) ملاحظة يندلر عن المتتاليات في شعر جلوك، وأوضحها بتحليل لمّاح: “إن كل نهاية لكتاب هي بالنسبة لها فعل تشخيصي واع، وقسم بإقلاع، تميّز فيه التيمات، والعادات والشواغل بمجموعتها التي انتهت منها في التو كتحديد لمهام العمل التالي. إنه نشوء واع ولكنه غير متعمد، يحدد الزمن في تغيّرات. إن القرّاء يسمعون عن خواص متتالية: توتر كتابها الأول العارم يتحرك نحو غنائية الكتاب الثاني المغزولة ببراعة. والأسماء في ذلك الكتاب تكتسب وزناً حميماً وتصبح أيقونات مجموعتها الثالثة، ثم ترقى إلى نطاق أسطوري أنموذجي في الكتاب الرابع. وربما كان كتابها الخامس “أرارات” أقل كتبها نجاحاً، ومكانه في المتتالية أقل رسوخاً. لكن القصائد مختلفة حيث إن قوة ذكاء الشاعرة دائمة. والصوت الجميل بتقشف الذي أصبح قرارها يتحدث عن حياة قضيت في وعي لا يتوانى”. أحمد مرسي/نيويورك – المستقبل – الاثنين 6 تشرين الأول