كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    أيهما تُفَضَّل، الأمن أم الحرية؟؟    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    شاهد بالصورة.. الطالب "ساتي" يعتذر ويُقبل رأس معلمه ويكسب تعاطف الآلاف    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    بعثه الأهلي شندي تغادر إلى مدينة دنقلا    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ الفلسفة والدين: جاك دريدا … محمد أندلسي
نشر في حريات يوم 08 - 03 - 2012

حسب جاك دريدا فإن أي تفكير اليوم في الدين إلا ويجب أن يتم في علاقته “بالشر الجذري"(الموت، الألم، التقنية,,,). إنّ شرط إمكان “الإيمان" هو “التقنية"، هو الشر الجذري بما هو إلغاء للمستقبل. لأنه لا مستقبل بدون إرث بدون أثر، لا مستقبل من دون شيء من “الذاكرة" وشيء من “الوعد بدون وعد".
كما أنه يستحيل في نظره الحديث عن الدين في استقلال عن اللسان والنص والكتابة المرتبطين بدورهم بالروابط الاجتماعية والسياسية والإثنية للأمة والشعب. ويزداد الأمر صعوبة حينما يتعلق بمقاربة مسألة “عودة الديني". فلا يمكن اختزال هذه العودة إلى ما يسمّى: الأصولية، أو التطرف، أو التعصب. كما لا يجب الخلط بين الدين وبين المذهب الديني. وعلى سبيل المثال لا يجب الخلط بين الإسلام والنزعة الإسلاموية L'islamisme التي تستعمل الإسلام كدين وتتحدث باسمه. وهنا تتجلّى “خطورة التسمية".
يضاف إلى ذلك، أن التفكير في الدين لا يجب أن يتم انطلاقا من موقع ديني كالمؤسسة الدينية، أو اعتقاد معيّن، كما لا يجب أن ينطلق من موقف مناهض للدين كالأنوار، أو الموقف العلمي، أو الموقف النقدي..إلخ. لكن مع ذلك لن يكون هذا التفكير محايدا ومجردا من أي إحالة، بل إنه ينطلق من تفضيل وميل واضحين لما نطلق عليه “النموذج الديمقراطي" بما هو نموذج مثالي قابل للتعميم على الصعيد الكوني، بما هو إطار يحرّر الباحث والمفكر من كل سلطة خارجية كالأرثدوكسية والوثوقية أو السلطة الدينية.
من هنا وجدنا دريدا يصرّ على تحرير مسألة “التفكير في الدين" من كل وثوقية وخاصة تلك التي تصرّ على ألا ترى في الدين إلا وهما أو خداعا ذاتيا. إن العودة إلى الدين اليوم لن تكون عودة إلى الميتافيزيقا، ولا إلى عقيدة كنيسة معينة، ولا إلى تنظيم ديني معيّن. فالحاجة إلى الدين في نظره يجب أن تربط بعدم قابلية “مسألة الموت" للفهم وللعقلنة، لا من طرف الفلسفة، ولا العلم، ولا الإيديولوجيا.
عودة الديني اليوم ليست، في نظر صاحب التفكيكية، عودة عادية أو محدودة في المكان، يشهد على ذلك عالميتها وشموليتها وصورها التي تظل مبتكرة وغير مسبوقة. إنها ليست مجرد عودة عادية لما هو ديني لأنها تشتمل في أحد بعديها على “نزعة تدميرية جذرية" لما هو ديني ودنيوي، مثل القانون الدولي، ومبادئ حقوق الإنسان، ولكن أيضا تدميرا للعيش المشترك، والتسامح الذي يوجد في أساس الدين، وللأماكن التي تأوي المقدس..إلخ.
لكن تنطوي هذه العودة أيضا في بعدها الآخر على نداء لتحرير “تجربة المقدس" من هيمنة الثيولوجيا والميتافيزيقا، كما تنطوي على نزعة تروم تحصين الدين من الداخل، عبر إشاعة روح التآخي على الصعيد الكوني، وتعمل على تحقيق التصالح بين الناس “أبناء نفس الإله"، بغضّ النظر عن الاختلافات الموجودة بين الأديان المختلفة، خصوصا إذا كان هؤلاء الإخوة ينتمون إلى “التراث التوحيدي" للديانات الإبراهيمية. ويرى دريدا أن هذه الحركة المسالمة التي تدعو للتضامن والتآخي يختلط فيها توجّهان يصعب الفصل بينهما. الأول هو البعد الناسوتي “لأفول المتعالي"، أي حركة الإيمان بحقوق الإنسان والدفاع عن الحق في الحياة الإنسانية. وفي المستوى الثاني هناك “عولمة" تريد أن تسود موظفة في ذلك خطابا دينيا قانونيا يعتبر اليوم هو لسان الغرب الأنغلو-أمريكي. وما يرومه هذا الخطاب هو جعل الدين في خدمة العلم التقني، أو جعل العلم التقني في خدمة الدين. فكلاهما أي العولمة والأصوليات الدينية يوظفان الشبكات العالمية للاتصال، وتقنيات الاتصال عن بعد.
استنادا إلى كتاب كانط “الدين في حدود العقل وحده" La religion dans les limites de la raison يقيم دريدا تمييزا واضحا بين:
إيمان تفكّري"، يتأسس على الفصل بين الإيمان والمعرفة، ويدعو المرء إلى التفكير فيما يجب فعله في المستقبل لنيل رضى الإله والظفر بتوبته. ويمكن أن نصيغ المبدأ الذي يقوم عليه هذا الإيمان في الصيغة التالية:"ليس من الضروري لأي كان أن يعلم ماذا فعل أو يفعل الله من أجل خلاصه، لكن عليه أن يعرف ماذا سيفعل من أجل أن يصبح جديرا بالعون الإلهي". ولما كان هذا الإيمان التفكّري لا يخضع لوحي تاريخي ولا يتقيد بأي عقيدة محددة، مما يجعله يتوافق مع “العقلانية الأخلاقية" كما حددها كانط في كتابه “نقد العقل العملي" فإنه يفضّل “لإرادة الخيرة"ويشجّعها فيما راء المعرفة.
و"إيمان وثوقي" يدّعي المعرفة ويجهل الفرق بين الإيمان والمعرفة. يقوم هذا الإيمان الوثوقي على ذكر الأفضال والنعم الإلهية التي سيقطفها المؤمن الملتزم بما تنصّ عليه العقيدة والذي يكيف تصرفه وعمله وفقا لما هو محدد سلفا. لهذا وجدنا بأن هذا الإيمان لا يحضّ على العمل والاجتهاد،ولا يحثّ الإنسان على السعي وراء ما هو أفضل وأكمل، بل يكتفي بتعليم الصلاة وغيرها من الفرائض الدينية الأخرى. فالدين هنا يصير مرادفا للعبادة، بينما الدين في “الإيمان التفكّري" يصير مرادفا للعمل الدؤوب من أجل السمو الأخلاقي والكرامة الإنسانية. لكن لهذا “الإيمان التفكري" عدة مضاعفات ونتائج، يركّز دريدا على نتيجتين ممكنتين ولكنهما لا تخلوان من مفارقة وهما:
- النتيجة الأولى تقول أن الالتزام بمضمون هذا “الإيمان التفكّري"، يجعل أساس الدين هي الأخلاق منظورا إليها من زاوية العقل وحده دون التقيد بمتطلبات العقيدة. وهذا يعني “أن التصرف بمقتضى الأخلاق يشترط بأن يعمل الإنسان ويتصرف في حياته كما لو كان الدين غير موجود، وكما لو كان الله غير آبه بخلاصه. إن أحد مضاعفات الأخذ بهذا “الإيمان التفكّري" – إن شئنا التعبير عنه بلغة نيتشوية – هو الإقرار بأفول المتعالي أو “موت الله". بيد أن هذه الصيغة لا تقول أن الله غير موجود، وإنما تقول بأن الله قد انسحب وتوارى، وأن مسؤولية ما يقع ويحدث في الكون هي مسؤولية الإنسان وحده[i]. فالأفول هنا يفيد الانسحابLe retrait والغروب Le crépuscule ولا يفيد اللاوجود أوالعدم[ii]. يقول دريدا: “متى أراد المسيحي أن يصبغ على أفعاله الصبغة الخلقية، فما عليه إلا أن يدير ظهره للإله ساعة عمله وفق مبدأ الإرادة الخيرة وأن يسلك كما لو أن الإله قد تخلى عنه". فالدين –في نظر دريدا- لا يستطيع أن ينهض برسالته الأخلاقية إلا إذا حثّ المؤمن على مكابدة أفول المتعالي وغياب الله في هذا العالم الذي يستفحل فيه الشر الجذري، وفي قلب هذا التاريخ الحافل بالأحداث الخارقة والعجيبة. أو ليس حدث 11 شتنبر أحد هذه الأحداث العجيبة والخارقة؟ ويرى دريدا بأن اليهودية والإسلام، على عكس المسيحية، يعتبران آخر ديانتين توحيديتين تقفان وبقوة في وجه كل ما يدل على “موت الإله" في سياق عملية التنصير التي يشهدها عالمنا. كما أنهما، وعلى عكس المسيحية، لا يقبلان القول بالتعدد في إطار الواحد، وهذا ما يجعلهما غريبتين عن الثقافة الإغريقية-المسيحية التي تطبع أوروبا اليوم.
- النتيجة الثانية وهي تسير في اتجاه مختلف عن الأولى وهي التي تقول بالطابع القبل-أخلاقي، والقبل-ديني للكائن المسؤول-الآثم-المدين، أو للشهادة الأصلية. بمعنى أنها تقر بوجود “تجربة للمقدس" سابقة على كل دين وكل عقلانية أخلاقية. وأن هذه التجربة لا يمكن استعادتها إذا لم يتم تحرير المقدّس من هيمنة الثيولوجيا والميتافيزيقا، أي من هيمنة ما يطلق عليه هايدغر بالطابع الأنطو-ثيولوجي للدين. وبلغة نيتشوية لا يمكن استعادة الدين الأصيل إلا إذا تم التفكير فيه خارج الأخلاق وخارج الثيولوجيا، أي خارج ثنائية الخير والشر، وثنائية الإيمان والكفر، وثنائية العالم وماوراء العالم.
في سياق هذا التمييز الكانطي بين الإيمان الأخلاقي والإيمان التعبّدي، يحدّد دريدا مصدرين للدين: الأول يمكن تسميته “بالمهدوية" كترجمة للمقابل الفرنسي méssianisme.وإذا كانت هذه الكلمة تفيد في الإنجيل، الإيمان بمجيء المسيح المخلص الذي سيحكم بالعدل والإنصاف لبؤساء الأرض،فيملأ الأرض عدلا بعد ما ملئت جورا، وينقد البشرية جمعاء. إلا أن دريدا يوظف هذا اللفظ الذي يستقيه من التراث الديني المسيحي واليهودي، لكي يستعمله بدلالة جديدة ومغايرة تفرغه من حمولته اللاهوتية السابقة. يستعمل دريدا هذا اللفظ للدلالة على تجربة إيمان أو اعتقاد عميقة وجذرية بدون معتقد أو عقيدة، وبدون وعد بالخلاص أو بالأرض الموعودة. إنه وعد بلا وعد محدّد، وانتظار بدون أفق انتظار. إنه نوع من الإيمان بدون دين، ونوع من الاعتقاد لا يستند إلى أي عقيدة. إنه بهذا المعنى نزوع نحو الآتي والمستقبل ولكنه مستقبل غير قابل للتوقع أو التنبؤ، بل هو مفاجئ ومباغث ومداهم في حدوثه. هذا النزوع نحو المستقبل ونحو ما هو آت قد يكون نزوع نحو ما هو أفضل، أو نحو ما هو أسوء خاصة في ظل عالم يجثم عليه الشر الجذري الذي يندر بكوارث ومآسي لا حدود لها، قد تحمل في طياتها الأمل فتؤدي إلى الفرجة، وقد تؤدي، على العكس من ذلك تماما إلى الموت.
المصدر الثاني للدين، حسب دريدا، يطلق عليه اسم “الكورا" Khora وهو لفظ استعاره دريدا من أفلاطون الذي استعمله لأول مرة في محاورته “طيماوس"، حيث يفيد في دلالته الأصلية “الوعاء الذي يعرض فيه عمل “الإله الصانع" “، في حين استعمله أفلاطون للدلالة على مكان ثالث سابق على التمييز بين عالم المثل وعالم الحس. فإذا كانت الموجودات تنقسم إلى قسمين موجودات أزلية ثابتة غير خاضعة للصيرورة، وموجودات محدثة خاضعة للصيرورة، فإنّ هناك حضورا ثالثا يتمثّل في الوعاء القادر على احتواء الأشياء التي توجد في حالة صيرورة. وواضح أن أفلاطون لم يستطع التفكير في مفهوم “الكورا" إلا بواسطة لغة مجازية وصور استعارية كالوعاء والأم والحضانة والرحم[iii]. أما دريدا فيستعمل هنا لفظ “الكورا" للدلالة على المسافة الفاصلة في الداخل، وللإشارة إلى “صحراء توجد في قلب الصحراء". إنها عبارة عن مكان يشكّل “بؤرة مقاومة" وصدّ أبديين للداخل المهيمن، ضد كل محاولة للتكييف والتطبيع التي تقوم بها الذاكرة الجماعية أو الثقافة السائدة أو السياسة أو التاريخ. إنها تعبير عن الآخر الذي لا ملامح له. وبحكم ذلك لا تستوعبه لا الذاكرة ولا الثقافة، إنه “صحراء داخل الصحراء"، أو “صحراء في قلب الصحراء"، أو “صحراء الذاكرة". هذا المكان الذي يفترض دريدا أنه منبع للدين، ولأي دين، يتسم بالتوتر والتأرجح بين قطبي الوحي والكشف، بين الحدث وافتراضية الحدث، بين نظام موحى به ونظام ما هو قابل للكشف. ويعتبر دريدا بأنّ هذا الطابع التوتري والبيني لهذا المكان، هو الذي يؤهله لكي يكون منبعا وفرصة لانبلاج “إيمان تفكّري" آخر، وظهور تسامح جديد.
هكذا إذن تبدو التجربة الدينية – في هذا التصور الدريدي- عبارة عن تجربة صحراء في قلب الصحراء، أي تجربة قوامها الحيرة، والتحفظ، وأخذ المسافة، والفصل، والتفكيك، على أن تفهم الصحراء هنا ليس بماهي تعبير عن التيه والعزلة والافتقار فقط، ولكن أيضا أن ينظر إليها بما هي أمل ووعد وترقّب.
أصل الدين إذن، هو انتظار وترقب يحدوهما أمل كبير في الفرج، ورغبة جامحة في العدل. ومما لاشك فيه أن الدلالات الاشتقاقية للفظ دين في اللغة اللاتينية تشير كلها إلى معاني الربط والرباط والإلزام. إنه يفيد نوعا من التعاقد بين الإنسان والإله أساسه الواجب والدّين Le devoir et La dette. إنه يفيد عملية الجمع وإعادة الجمع وتنظيمه كشكل من أشكال المقاومة للانفصال(بين الله والإنسان) ومواجهة الغيرية المطلقة.
إذا كان هايدغر يرجع أصل الدين إلى تجربتين هما: تجربة القداسة(الناجي، السالم) وتجربة الاعتقاد(الإيمان والتصديق)، وكان هو أكثر انفتاحا على التجربة الأولى التي عاينها عن قرب من خلال قصائد هولدرلين، في حين كان يبدي مقاومة شديدة للتجربة الثانية بما هي تقوم على التصديق الساذج الذي يلقي بالفرد في أحابيل السلطة[iv]. إلا أنّ دريدا يميّز في تجربة الاعتقاد بين شيئين، بين الاعتقاد الساذج الذي أدانه هايدغر، وبين صورة أخرى للاعتقاد بما هو اعتقاد وفي ومخلص لما يشكّل شرط الوجود مع الآخر، وشرط التوجّه أو إقامة علاقة مع الغير بصفة عامة. وهذا النوع الثاني من الاعتقاد هو الذي يكون مصدرا للوعد، للوعد الصادر عن الآخر المغاير.
ويتحدث دريدا عن تجربة أخرى يطلق عليها “تجربة الشهادة"- وهي مفهوم سابق على مفاهيم الثقافة والقانون، ويقوم على الجمع بين المنبعين اللذين حددهما هايدغر كمصدرين للدين، أي القداسة والاعتقاد. تجربة الشهادة إذن تمثّل نقطة التقاء المنبعين اللذين لهما صور كثيرة ومتعددة، وهذا ما يبرر، في نظر دريدا، ضرورة مساءلتها. ففي الشهادة يتم الوعد بقول الحقيقة فيماوراء كل نية أو إدراك. فحتى حين أكذب فأنا أتعهد بقول الحقيقة، وأطلب من الآخر أن يصدّق الآخر الذي هو أنا. تصديق الشهادة هنا يتم مثلما نصدّق بالمعجزة أو “الحكاية الخارقة للعادة".
تنتمي الشهادة الخالصة إذا ما وجدت إلى تجربة الإيمان والمعجزة. فبموجب اندغامها في كل علاقة اجتماعية، بما فيها العلاقة العادية، تصبح أساسية ولا غنى عنها لقيام العلم والفلسفة والدين.
توجد الشهادة بين المنبعين، عبر توحيد الاعتقاد والتصديق بالآخر، بتقديس ذلك الحضور-الغياب، أو بتقديس القانون، بما هو قانون الآخر. يستطيع هذا المنبع أن يتقسم بطرق متعددة:
أولها، الاختيار بين قداسة لا اعتقاد معها(نموذج هايدغر)، وإيمان بقداسة لا قدسية معها، وأنه نازع لكل طابع قدسي، حتى أنه يجعل من نزع الطابع السحري للعالم شرط القداسة الأصلية (علامة ذلك لفيناس في كتابه “من المقدس إلى القدسي").
هكذا في الفراغ والفاغر الذي خلّفه “انسحاب الله" Le retrait de Dieu ينبثق وعد بإمكانية قيام تفكير جديد في الدين. وهذه الإمكانية، هي في المنظور الدريدي، تتموضع خارج الطرح الأورثدوكسي التقليدي للدين، وأيضا خارج النزعة الإنسانية المنتصرة منذ الأنوار والمضادة للدين. لهذا لا يجب قراءة التفكيكية ك"هيرمينوطيقا لموت الله"، بل هي نقد جذري لنتائج النزعة الإنسانية الخاصة بالحداثة الغربية. إن هذا ما يجعل التفكيكية تتموضع خارج الثنائيات الثيولوجية والميتافيزيقية: كثنائية الإيمان والكفر، وثنائية الديني والدنيوي، والمقدس والمدنس..إلخ. إنها تروم، من خلال عملية التفكيك هذه، خلخلة كل إمكانية تسعى إلى استعادة الثيولوجيا في صورتها التقليدية، والإقرار بضياعها غير القابل للاسترجاع؛ ومن جهة أخرى التأكيد، عبر عملية الحداد هذه Le travail du deuil، على الوعد بثيولوجيا ممكنة.
المراجع:
[i]- قارن بين هذا التصور الذي يبلوره دريدا استنادا إلى كتاب كانط الآنف الذكر، وبين تصور المعتزلة لمسألة العدل الإلهي.
[ii]- “الدين في عالمنا"، ص19، مرجع سابق.
[iii]- أنظر هامش “الدين في عالمنا، ص25.
[iv]- في كتابه “الطرق الموصدة"، يؤكد هايدغر، على أن “السؤال هو تقوى الفكر"، وأنه “لا إيمان أو لا اعتقاد في الفكر". ويقصد هايدغر بالإيمان أو الاعتقاد، التصديق الساذج أو الوثوقية التي تؤدي إلى الإذعان لشهادة الحواس، وإلى إغماض العين فتقع في براثين السلطة وتدعن لخطابها بصورة دغمائية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.