محمد أندلسي.. مقدمة: يروم هذا المقال إبراز التعالق الموجود بين حدث “أفول المتعالي” –والذي يتمثّل في حلول العدمية وشمولها لمختلف مناحي الحضارة الغربية الحديثة المادية منها والفكرية- ودخول الحداثة الغربية في طور أزمة يبدو أنها على عكس مثيلاتها في التاريخ أزمة بنيوية عميقة تطال الأسس والأصول، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن المقال محاولة للدفاع عن الفرضية التالية: وهي أن العدمية ليست فحسب علة للمرض العضال الذي أصاب الغرب، بل هي أيضا وبالأحرى تشكّل في الوقت ذاته الفرصة ربما الوحيدة المتاحة للغرب للشفاء من مرضه، والخروج من مأزقه. هكذا فالعدمية بقدر ما تمثّل انحطاطا للحضارة الغربية، فهي أيضا وبنفس القوة والدرجة تمثّل الأفق الممكن لتصعيد الحداثة لأزمتها وتجاوز شروخاتها. إن التفكير في هذه الإشكالية، وصياغة فرضيتها بالكيفية التي أشرنا إليها، تطلّب منا القيام بمحاولة إعادة قراءة كل من فلسفة نيتشه وهيدغر- وهما من أهم الفلاسفة اللذان فكرا في إشكالية العدمية وأزمة الحداثة الغربية، وحاولا أن يبلورا بصددها طروحات وفرضيات تعتبر اليوم في الفلسفة المعاصرة وخاصة في إطار فلسفة “ما بعد الحداثة” من أهم الحلول المقترحة من حيث جدّتها وعمقها وأصالتها. بل يمكن القول مع”هابرماز” بأنها تمثّل المصادر الملهمة لكل التيارات الفكرية التي تروم اليوم تحرير إشكالية “نقد العقل”-وهي الإشكالية المحورية لفلسفة نيتشه وهيدغر حسب هابرماس من النموذج الأنواري الذي يعتبر ذاته حركة نقد ديالكتيكي في مقابل النقد ما بعد الحداثي الذي يعتبر نفسه نقدا جذريا للعقل. إن هذه القراءة ستمكّننا من تجاوز بعض الخلافات النظرية البنيوية الموجودة بينهما، باتجاه تأويل يسعى إلى التقريب بين الفيلسوفين خاصة فيما يتعلق بمفاهيم: العدمية، والقيمة،وأزمة الحداثة، وتجاوز الميتافيزيقا أو “ما بعد الحداثة” في الفلسفة. ولقد اقتضت منا عملية التأويل هذه القيام في مستوى أوّل، بنقد القراءة الهيدغرية لنيتشه والتي بموجبها تم تحرير فلسفة نيتشه من الصورة النسقية الدغمائية التي رسختها عنه القراءة السابقة . وفي مستوى ثان، إعادة قراءة هيدغر من خلال وعلى ضوء فلسفة نيتشه، مستلهمين في ذلك التأويل الذي انتهجه “فاتيمو” في مؤلفه “نهاية الحداثة”، وكذا القراءة التي اعتمدها “هابرماس” في كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة”. وهي محاولة جعلتنا نقف على كثير من نقاط التقاطع بين نيتشه وهيدغر، واعتبار فلسفة الثاني استمرارا بل استكمالا وتعميقا للمشروع الجنيالوجي النيتشوي في الفلسفة . 1- أفول المتعالي وحلول العدمية: أفول المتعالي هو العبارة التي أطلقها نيتشه على أعظم وأخطر حدث عرفه الغرب. وهو متزامن في نشأته مع دخول الحداثة الغربية في طورأزمة تعرف ب”أزمة الأسس”أو ب”داء العدمية المزمن”. ويعتبر نيتشه أول فيلسوف أدرك هذه الأزمة واستشرف مجيئها قبل حلولها. فهو يقول على لسان الرجل الأخرق الذي أعلن “أفول المتعالي”:”لقد حللت قبل الأوان، إذ لم يحن أواني بعد. وهذا الحدث الضخم الذي ما يزال يسري ويسافر، لم يبلغ آذان الناس بعد” . ولقد أذاع نيتشه سرّ خبر “أفول المتعالي” لأول مرة في الجزء الثالث من مؤلفه “العلم المرح”، حيث يقول على لسان الأخرق:”أين الإله ؟ أنا سأقول لكم ذلك !لقد قتلناه أنتم وأنا ! نحن كلنا قتلته ! لكن كيف فعلنا ذلك كله ؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا الإسفنجة لمحو كل هذا الأفق؟ ماذا فعلنا بفصلنا الأرض عن شمسها ؟ إلى أين تقودها حركاتها، حركاتنا ؟ أبعيدا عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر لا قرار له ؟(...) أما يزال هناك أعلى وأسفل ؟ ألسنا نتيه صوب عدم لانهائي ؟” . إن القول بأفول المتعالي ليس تعبيرا عن موقف إلحادي لأنه بمعناه النيتشوي لا يعبّر عن الوضع السلبي المتمثّل “في عدم الاعتقاد في الإله المسيحي”. كما أنه ليس عرضا من أعراض “الاختلال العقلي” لنيتشه. بل هو الصيغة التي تكثّف وتلخّص مصير تاريخ الغرب خلال الألفيتين الماضيتين . لهذا لا يمكن اختزاله في أفول المتعالي اللاهوتي، بل هو صيغة شاملة تفيد تدمير كل الأوهام والقيم العليا للثقافة الغربية التقليدية والحديثة. كما يعني نبذ الميتافيزيقا كعالم حق وكمنطق ثنائي القيم، وكشف الأقنعة عن العمق الأخلاقي للغرب الحديث. كما يعني أيضا إرادة تجاوز الذات والتعالي عليها. وهذا التعدد والتباين الدلالي الذي يكتسيه مفهوم “أفول المتعالي” داخل فلسفة نيتشه، يبين بأنه مفهوم لا يخلو من مفارقة وينطوي على كثير من المجازفة والمغامرة. فهو انحطاط وأفق، مرض ونقاهة، تيه وحرية، كارثة وفرصة. فهو بقدر ما ينطوي على اندحار رهيب، وفراغ قاتل، وليل موحش؛ يسمح في الوقت ذاته بولادة آمال كبرى، ويجعل باب الترقب مشرعا على جميع الاحتمالات. بهذا المعنى فإن “أفول المتعالي” إلغاء للحل الوسط واستحالة للموقف التوفيقي: فإما ربح تام أو خسارة كلّية. وبالنسبة لصاحب الجنيالوجيا، فإنه يفضي إلى بلورة رؤية أنطلوجية وتجربة وجودية تحدوهما رغبة قوية في الانفكاك من اللاهوت والميتافيزيقا. رؤية تريد أن تكون متحررة من الماوراء، ومخلصة لتجربة الهنا والآن بمعزل عن الخير والشر، وفيما وراء الصدق والكذب. يتعلق الأمر بتجربة محايثة للوجود، متحررة من ثنائيات الثقافة الغربية: كثنائيات المقدّس والمدنّس، الحلال والحرام، الروح والجسد، المعقول والمحسوس، الباطن والظاهر، العمق والسطح...ذلك لأن الجنيالوجي بحدسه الفائق، يدرك أنه وراء هذه الأقطاب المتعارضة والمتنابذة، توجد إرادة واحدة ارتكاسية في عمقها، هاجسها الأساسي تبخيس الحياة وتثمين عملية الهروب إلى الماوراء. إنها من حيث جذورها إرادة أفلاطونية-بما هي ميتافيزيقا للشعب- قصديتها الأساسية تسويغ القلق الناجم عن انقشاع الأوهام، عبر ادعاء طلب تحقيق الأمن والطمأنينة وراحة البال، و”الشعور بالرضى عن النفس”. يكتسي أيضا أفول المتعالي في فلسفة نيتشه وأيضا لدى هيدغر دلالة تجعله مرادفا للعدمية، لأنه يتحدد “كتيه نحو عدم مطلق لانهائي” . والعدم هنا يعني أفول عالم مافوق الحسي وفقدانه لسلطته السحرية والتجييشية. إن هذا الأفول هو بمثابة تحلل وتفكك للمعاني الكبرى والمثل العليا: كالخير، والحق، والسعادة، والتقدم، والرخاء... فكل هذه العناصر تفقد سلطتها أو قدرتها البنائية وتسقط في التبخيس والعدم. إذ لا يكفي للمرء أن يعلن انتماءه لعقيدة، أو انخراطه في ميتافيزيقا، أو تبنّيه لإيديولوجيا حتى ولو كانت ديمقراطية أو اشتراكية، لكي يكون خارج العدمية. والعكس صحيح أيضا، إذ ليس كل من يفكر في العدمية وفي ماهيتها عدمي بالضرورة. لكن من المشروع التساؤل مع نيتشه وهيدغر فيما إذا كانت العدمية لا تكتسي غير هذا المعنى السلبي. من هنا تطرح ضرورة تحديد مفهوم العدمية وإعادة تأويلها على ضوء فلسفتهما. لقد قلنا بأن العدمية ليست مجرد رأي أو مذهب من المذاهب المعروفة في تاريخ الفكر الغربي: مثل اليهودية والمسيحية، أو الأنوار، أو النزعة الانسانية والتاريخية...بل هي حركة تاريخية، وصيرورة تشتغل في التاريخ الغربي مند قرون. لكنها لم تنقشع أمام الوعي إلا مؤخرا وبالتحديد ابتداء من القرن19، بما هو قرن الوعي بالعدمية من حيث هي ماهية الحداثة الغربية وأزمتها، وأيضا بما هي فرصتها وأفقها. وهذا ما يوضّحه لنا طبيعة المشروع النيتشوي. فهذا المشروع يتحدد بمهمتين أساسيتين: مهمة البلوغ بمأزق الحداثة إلى حدودها القصوى، ومهمة تجاوزها نحو ما بعدها. المهمة الأولى تضفي على العصر طابعا تراجيديا بما هو عصر الحرب المعلنة على العدمية. ” إذ العدمية باستتارتها للتشاؤمية الأشد فتكا لتعمل في الوقت ذاته على انتقاء العنصر الأشد حيوية” . والمهمة الثانية تضفي عليه صفة التيه والنقاهة، من حيث أن “ما بعد الحداثة” هو عهد محاولة الشفاء من العدمية ومخلّفاتها الناجمة عن “أفول المتعالي” بيد أن الأهمية الكبرى والعميقة للعدمية لا تنحصر فحسب في تقريرها لمصير الحضارة الغربية ، إذ تتعدى بمفعولاتها العديدة الغرب، لتشمل الوجود البشري بصفة عامة. يتخذ “أفول المتعالي”-في فلسفة نيتشه- ثلاثة مظاهر هي على التوالي: أفول المتعالي اللاهوتي، وأفول المتعالي الأخلاقي، وأفول المتعالي الميتافيزيقي. يعتبر المتعالي اللاهوتي أحد العوامل التي عجّلت بحلول العدمية. فلقد أقام الدين للإنسان-في نظر نيتشه-عالما مواز للعالم الدنيوي، وجعل الإنسان يستند إلى هذا العالم ويستمد منه معناه. بل أكثر من ذلك، لقد أسقط على ذلك العالم كل الصفات التي كان يفتقر إليها: كالقوة، والقدرة، والكرامة، والعلم، والمعرفة، والحق، والخير...إلخ. لكن العصر الحديث سرعان ما أعلن “أفول المتعالي الديني”، مما جعل عالم القيم اللاهوتي ينقلب رأسا على عقب. ففقد الإنسان مركز ثقله، وصار لا يعلم إلى أي أمر يسلّم نفسه، ولا أين يتجه. لقد صار كائنا بدون هوية، أو بالأحرى أصبحت هويته هي التيه بعيدا عن المركز . وهكذا ما أن بدأ تأثير الدين في الغرب يتراجع حتى لاح الإنسان العدمي الذي يلقّبه نيتشه ب”الإنسان الأخير” . لكن لا يجب أن يفهم من هذا بأن العدمية مرتبطة بالإلحاد، أو بعدم الاعتقاد في وجود الله. فالمسيحية تحمل في ثناياها العدمية، لأنها تتمحور أساسا حول تبخيس الحياة وإنكارها[xiv]. وليست العدمية في معناها القوي سوى تبخيس قيمة الحياة الدنيا. فالمفاهيم الأساسية التي تقوم عليها المسيحية مثل الحياة الحقة، والآخرة، والأبدية، والسعادة، والمحبة، والتسامح، مفاهيم ظاهرها الامتلاء والغنى وباطنها الفراغ والفقر. وهناك تعالق قوي بين أفول القيم الدينية وأفول القيم الأخلاقية. لقد حاول الغرب الاستعاضة عن أفول اللاهوت الذي كان يمثّل سلطة مقدّسة، بالبحث عن سلطة أخرى تعوّضها. فوجد ضالته في سلطة الضمير والواجب الأخلاقي، الذي نصّبه مشرّعا لقيم أخلاقية تعويضية، لها قدرة على إصدار الأوامر وتحديد الغايات. وهو بعمله هذا اعتقد أنه أصبح بمنآى عن خطر العدمية الذي خلّفه أفول المقدّس الديني. لكن ما كان يخشاه هو ما وقع فيه بالذات. لأنه لم يكن يعلم أن البناء ينهار بانهيار الأساس الذي بني عليه. فالعالم عندما لم يعد له معنى، تهاوت الأخلاق بدورها بأفول فكرة المتعالي لأن كلاهما كان يسند الآخر. لقد صار الإنسان عدميا بسبب القيم التي جرّدها من ذاته وأصبغها على العالم والوجود باعتبارها قيما مقدّسة ومعان حقة. لكنه وبعد فوات الأوان، يكتشف زيف تلك القيم وكذب تلك المعاني. فلا يبقى له غير اتهام ذاته وإدانة الحياة من حوله. وهكذا فالإنسان الذي أسقط على العالم معنى أخلاقيا لحفظ بقائه وضمان استقراره، ينتهي به الأمر إلى الشك في أساس الأخلاق ذاتها. فما كان يعبّر في الأصل عن إرادة قوة وحفظ الحياة وعزاء ومسكّن ضد اليأس والإحباط والشعور بالعبث، ينتهي لفرط جموده ووهنه وهيمنة الطابع القطيعي عليه، إلى أن يتحوّل إلى قوة ارتكاسية مناهضة للحياة، ومعادية للوجود. بل أكثر من ذلك، لقد لعبت الأخلاق دور “إرادة قوة فاعلة”، إلى درجة أنها كانت توهم الضعيف بأنه قوي ، وتدفعه إلى طلب تسويته مع القوي. إلا أن هذه الأخلاق ذاتها جعلت القوة تنقلب ضدها، لأنها أماطت اللثام عن منشئها وأصلها وغايتها، فإذا بها بدت مجالا للكذب والافتراء والنفاق. فانقلب أساسها الخيّر شرا، والحق كذبا، والإيثار عجزا، والغيرية أنانية، والواجب إكراها وسلبا، “إذ بقدر ما نومن بالأخلاق ندين الوجود الذي يصير بذلك فاقدا لقيمته ومعناه”. وهذا ما جعل مآل الموجود الأخلاقي هو العدمية، لأن القيم الأخلاقية تدين الحياة وتناهض تطلعاتها واندفاعاتها. وبموازاة وعي الإنسان بماهية الحياة بما هي إرادة قوة توكيدية، بقدر ما يكتشف أن الأخلاق هي قناع لحماية الضعيف من العدمية عبر استيهام الشعور بالقيمة والقوة، وعبر إدماجه في نظام مثالي يتناقض وطبيعة نظام الحياة، ويعلّمه توسّل الضعف والاستكانة والخضوع، كحيل لحفظ البقاء. فبمجرد ما أن توارى الاعتقاد في المتعالي الأخلاقي، سقطت الأقنعة عن القوى الارتكاسية في الإنسان. ويعتبر المتعالي الميتافيزيقي مصدرا آخر للعدمية إلى جانب المتعالي اللاهوتي والأخلاقي. لقد عمد العقل الغربي أيضا- وفي سياق سباقه المحموم ضد الزمن لمحاصرة العدمية وملء الفراغ الذي خلّفه أفول المتعالي الديني والأخلاقي- إلى إنشاء عالم في أبهى صورة أخلاقية ومنطقية، حيث أضفى عليه صفة الحقيقة، ونفى عنه التناقض والكذب والزيف، وجعل هذا العالم الحق مصدرا للقيم. ولقد تبين له مع تقدّم الحداثة وصيرورتها، أن الصفات التي أضفاها عليه، كصفة الغائية والوحدة والوجود الحق، ما هي إلا مثل عليا زهدية، سرعان ما تداعت عند أول اختبار لها على أرض الواقع. فليست هناك غاية تتجه نحوها الكينونة. والعالم بحكم صيرورته وتعدده يفتقر إلى الوحدة. كما أنه لا حقيقة لكينونة سماتها الأساسية الظاهر والاحتجاب والوهم. وبسقوط هذه القيم سقط معها العالم الذي شيدته الميتافيزيقا، فصار عالما خاليا من المعنى وفاقدا للقيمة. ولقد كان أفول هذا المتعالي الميتافيزيقي أشبه بالضرورة المنطقية، لأن الحداثة اتخذت من العقل الإنساني مقياسا تقيس به الأشياء والعالم، وحينما استعصى عليه الانطباق عليها لشدة مقاومتها لمبادئه، انهار ذلك المقياس وأفل. يقول نيتشه:”لقد قسنا قيمة العالم بمقولات تنتمي إلى عالم خيالي خالص، مما أدى إلى نتيجة عكسية، فعوضا من تثمين العالم أصبح مبخسا، وذلك بعد أن ثبت عدم قابليتها للانطباق عليه” . لقد اكتشف الإنسان الحديث “أن العالم كما هو موجود لم يكن له أن يوجد، وأن العالم كما ينبغي أن يوجد ليس بموجود” ، ومن ثمة اكتشف أنه لا معنى لأن يحيا في هذا العالم، إذ كل شيء فيه باطل ولا وجود للحقيقة. وهكذا فكل محاولات الحداثة لملء الفراغ الذي خلّفه “أفول المتعالي” درءا لخطر العدمية الداهم، باءت بالفشل الذريع. وما محاولة الاستعاضة عن أفول المتعالي اللاهوتي عبر خلق سلطة مجردة “أكثر عدلا وإنصافا وحرية” على غرار السلطة العقلية (الأنوار)، أو السلطة الاجتماعية (الاشتراكية)، أو سلطة التاريخ المتجسّدة في الروح المطلقة (الهيجلية)، أو سلطة أخلاقية تتمثّل في تحقيق الرخاء والرفاهية الجماعية (البراغماتية)، إلا وتنطوي على العدمية وتشي بأن الإنسان الحديث قد فقد الأساس. وليست الحاجة إلى الميتافيزيقا بما هي تعبير عن الرغبة المتعطّشة لتملّك الأساس الصلب والأصل الثابت، إلا شهادة عن الفراغ والخواء وعن الحاجة إلى السند والدعم. أكثر من هذا إنها تعبير عن إرادة نافية هاجسها ليس الخلق والتجديد، وإنما السعي للحفاظ على المعتقدات والتعلق بالأوهام، وهو منزع يعبّر عن الوهن والاستكانة والخوف من الطارئ والمفاجئ. إنها علامة على إرادة تتوسّل الاحتماء، وتشي عن غياب الإرادة القوية . لكن لما كانت مجالات الحياة الحديثة بأكملها قد بنيت على تقويمات وتأويلات هذه الإرادة العدمية، فإنها أصبحت كلها نهبا للنزعة العدمية. ويمكن الوقوف على ذلك عبر مختلف مظاهر الثقافة وسيكولوجيا العصر. ففي مجال العلوم الطبيعية يسود الاعتقاد في الآلية والنزعة الميكانيكية وهي أبرز علامة علمية على العدمية. وفي المجال السياسي تهاوت المبادئ، وتزعزعت القناعات، وفقدت الشعارات براءتها، وعمّت الانتهازية وساد الكذب. وفي مجال التاريخ سادت النزعة التاريخية، وأصيب الوعي التاريخي بداء التخمة L'épigonisme. وفي ميدان الفن عمّت النزعة الرومانسية المتعبة والمنهكة. ولا غرابة أن ترافق هذا الاجتياح العدمي لمجالات الحياة الحديثة، علامات وإشارات وأحوال سيكلوجية دالة على مرض العصر: كالشعور بالرعب أمام انقشاع الأقنعة عن القيم، والإحساس بالفراغ والتصحّر، والمعاناة من الإنهاك والضجر، والإقبال المسرف على المسكّنات والمخدّرات، وتعلق الإنسان بالأمور التافهة المنعدمة للقيمة ، وسيادة النزعة الإلحادية بما هي أكبر مؤشّر على أفول المقدسّ . هكذا فأفول المتعالي لم يكن تحريرا للذات واستعادة للقيمة وامتلاء في المعنى، بل لقد كان بداية لشعور الغرب المتنامي بمركّب الذنب، بما هو أكبر جريمة يرتكبها الغرب الحديث . ولقد أدى هذا الشعور إلى تقوية القوى الارتكاسية في الحضارة الغربية وتمكينها من إخضاع القوى الفاعلة والهيمنة عليها. وهذا ما جعل النموذج الارتكاسي يصبح الملهم بل المحدّد الأساسي للفكر الغربي الحديث . إن أفول المتعالي وإلغاء المقدّس جعل الحضارة الغربية تتعرّض للتفكك والانحلال، هذا بالرغم من محاولاتها اليائسة لملء الفراغ الذي خلّفه ذلك الأفول، بقيم عليا تعويضية هي في أحسن الأحوال عبارة عن أوهام جديدة. ومن أهم تلك الأوهام وعلى رأسها نجد مبدأ الذاتية والعقلانية، والذي ليس في عمقه سوى تسويغ لعلاقات السلطة والقوة داخل المجتمعات الغربية. فلكي يستطيع الضعيف الإفلات من علاقات القوة هذه، يلجأ إلى حيلة تتمثّل في تأويل قوة خصمه باعتبارها عدوانية . حيث يضع خلف أفعاله إرادة وماهية، وبهذا ينشأ مفهوم الذات. فكل تفسير للأفعال والظواهر بواسطة القصدية والوعي، إلا ويمثّل آلية دفاعية للضعيف ضد القوي. وبالتالي فهو ينتهي إلى هدم نظام الأشياء الطبيعي، ويقيم مكانه نظاما اصطناعيا هو عالم الماهيات والمبادئ . وهكذا فالاعتقاد في الذات بما هي كيان محايد، وبما هي مجال لحرية الإرادة والاختيار، هو بمثابة وهم بواسطته تسعى الغريزة الضعيفة التي أصابها الوهن والتعب إلى تبرير ذلك العجز وتقديمه في صورة حرية واختيار إرادي. وليست الحداثة سوى انتصار للوعي، واستيلاب للطاقة الحيوية للإنسان التي أصبحت منقلبة ضد ذاتها. وبهذا قادت الحداثة الإنسان إلى العدمية عبر استنزاف كل طاقاته الحيوية الخلاقة، بحيث لم تبق فيه سوى على القوى الارتكاسية، وهذا هو المقصود بالانحطاط . تكتسي أزمة الحداثة أيضا في المنظور النيتشوي مظهرا آخر إلى جانب مظهر الذاتية أو “ميتافيزيقا الذاتية” كما يحلو لهيدغر تسميتها. يتمثّل ذلك في تماهي الحداثة مع التاريخ، أي مع نظام معين من العقلانية والحرية كانت إحدى أهم مضاعفاته تقليص فضاء العقل والحرية ذاتهما، وجعل الاختيارات محدودة في نطاق الدولة القومية . وهذا أدى إلى تقوية الشوفينية القومية، ونزعة التمركز الغربية لهذا وجدنا نيتشه ينتقد بقوة هذه الحداثة المتماهية مع النزعة القومية والمؤسسة على مبدأ المنفعة الخاصة، لأن ذلك من شأنه أن يجعل الوجود الفردي وحياة الإنسان مرتهنة بمصالح مؤسسات التنظيم الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن القول بأن هذا النقد الجذري للحداثة ، سيكتسب أهمية متزايدة تكاد تصير مهيمنة بموازاة استنزاف النزعة التاريخية لإمكاناتها، وفلسفة التقدم لمشروعيتها. وهذا ما يجليه التقويض الهيدغري للحداثة التقنية بما هي ميتافيزيقا. فليست التقنية-في نظر هيدغر- مجموعة من المخترعات والآلات التقنية، بل هي عبارة عن موقف وميتافيزيقا، إذ هي نمط لعلاقة الإنسان بالأشياء والكينونة. وما يميّز هذه العلاقة هو انقلابها ضد الإنسان. فإذا كانت التقنية القديمة جملة أدوات في يد الإنسان يستعملها ويوجّهها ويتحكم فيها، فإن التقنية الحديثة نظرا لهيلولة قدراتها، أخذت تبدو كشيء مستقل عنه وخارج قدرته في التحكم والتوجيه. إنها جملة من القدرات الضخمة والقوى الهائلة التي لا تخضع سوى لمنطقها الداخلي، وتتطور وفقا لحاجاتها هي لا وفقا لحاجات الإنسان ورغباته. فأصبحت قوى منفلتة من قبضته وارتدّت ضده. لقد أصبحت التقنية إكراها للطبيعة على أن تسلّم الطاقات الكامنة فيها، وأن تصير مجرد موضوع أو مخزون ومستودع. هذا الموقف من الطبيعة يتضمن خطوتين: خطوة التحريض النظري المتمثّل في إخضاع ظواهر الطبيعة لمعايير مفهومية ومنهجية ولمخططات قبلية تسمح بحسابها وقياس كمّياتها وإحصاء علاقاتها. وخطوة التحريض العملي تتمثل في إرغام الطبيعة على تسليم أسرارها وخيراتها وطاقاتها من أجل تحويلها إلى قوى وقدرات ومصنوعات. وهذه الخطوة الثانية تمكّن من الانتقال من مرحلة الموضوعية إلى مرحلة الجاهزية la disponibilité بما هي عصر هيمنة القيم التبادلية والاستهلاكية، حيث يتم تحويل كل شيء بما في ذلك الإنسان إلى مادة للاستهلاك والاستعمال. مادة لا تستمد قيمتها من ذاتها وإنما من خلال استعمالاتها والمنافع التي تدرّها. حيث صارت النجاعة والمردودية والقابلية للتبادل والاستعمال معايير أساسية لتقييم الأشياء. ولقد نتج عن هذا نوع من التسوية بين الأشياء والمجانسة المطلقة بينها، مما أدى إلى إلغاء الفوارق والاختلاف والخصوصيات الحميمية، حيث فقدت الفرادة والتميز حظوتهما، وأصبح كل شيء قابلا للاستعاضة والتعويض، وهذا هو معنى “صيرورة الوجود قيمة”. وهذه المعطيات تبين أن الحداثة/التقنية أصبحت خاضعة لنوع من “القدرية الذاتية” التي لا سلطة للإنسان عليها. لقد صار ما يحكمها هو التطور الذاتي المستمر، والاستزادة من القوة والقدرة وكأن إرادة القوة المتحكمة في التقنية والتي توجّهها كقدر داخلي ليست سوى إرادة الإرادة، أي إرادة قوة ليس لها من هدف سوى ذاتها. فالحداثة بما هي خضوع لقدر التقنية هي “مراكمة من أجل المراكمة، وإنتاج من أجل الإنتاج، وتخزين من أجل الاختزان، دون أن تكون المراكمة، والإنتاج، والتخزين استجابة لحاجات فعلية. إن التقنية تولّد بذاتها الحاجات التي ستمكّنها من تضخيم سيطرتها” . المراجع