الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفول المتعالي وأزمة الحداثة الغربية: العدمية وتجاوز الميتافيزيقا..بقلم :محمد أندلسي
نشر في حريات يوم 06 - 02 - 2012


محمد أندلسي..
2- العدمية وتجاوز الميتافيزيقا:
ليست مسألة العدمية مشكلة تاريخية. أي ليست واقعة تاريخية عادية على غرار الوقائع التاريخية الأخرى في تاريخ الإنسان، بل هي صارت اليوم مسألة مصيرية. وإذا كانت العدمية لازالت شغالة وفاعلة وراهنية، فإن هذا يمنع كل محاولة تريد تقديم الحصيلة النهائية والحصاد الكامل. لكن تبقى مسألة البحث والمساءلة والسعي لفهم إلى أي مدى وصلت العدمية ؟ وما هي الاختيارات التي تقودنا نحوها ؟ وما هي الحلول التي تدفعنا باتجاهها ؟ تبقى مسائل وتساؤلات مشروعة وواجبة. ويمكن أن نحدد موقفنا من العدمية، انطلاقا من الموقف الذي بلوره نيتشه في فلسفته والذي يطلق عليه عبارة “العدمية المكتملة” le nihilisme accompli [1]. وتمثّل هذه الشكل الرابع للعدمية في فلسفة نيتشه[2]. وهو شكل العدمية الذي يعتبره نيتشه إيجابيا وفاعلا، ولا يتردد الإعلان عن انتمائه إليه. فهو يقول عن نفسه بأنه بمثابة أكبر عدمي في أوروبا، إنه “الذي جرّب العدمية وعاشها، وذاق مرارتها، وأحسها واستشعرها في داخله، ومن حوله، ومن تحته، ومن فوقه”[3]. تحت مظهرها الإيجابي تؤكد هذه العدمية ليس ما هو معطى وسائدا، وليس مثالا أو نموذجا مفارقا (المثل الأعلى الزهدي )؛ ولكن مبدأ حيويا لتقدير القيم. أي إرادة قوة بما هي معيار جديد للتقويم والتأويل، وبما هي تيبولوجيا وسيميولوجيا تتعامل مع الخطابات والنصوص والظواهر كشبكات من الاستعارة والمجاز، أو كنسيج من العلامات والأعراض، أو كألاعيب من القوة والرغبة، أو كأفخاخ من الخدع والفجوات. ويرى نيتشه بأن العدمية حينما تدرك على هذا النحو، فإنها تكون قد عثرت على ماهيتها التوكيدية، فيصبح لها مفعولا تطهيريا يمكّنها من تصعيد كل المظاهر التي تجعلها غير مكتملة. وهي ثلاثة مظاهر أساسية: الذّحلle ressentiment والوعي الشقي la conscience malheureuse والمثل الأعلى الزهدي l'idéal ascétique [4]. بل إنّ العدمية حينما تصل إلى هذا المستوى من التحول والتصعيد يمكن أن تشكّل فضاءا جديدا للتفكير[5]، وإمكانا جديدا للحياة والوجود [6].
إن العدمية بهذا المعنى الإيجابي الجديد، تعتبر آخر فرصة تتاح للإنسان، لكنها لا تخلو من مجازفة. فهي تشير إلى الوضعية التي “يتدحرج فيها الإنسان خارج المركز”[7]. وهذا التعريف الجديد الذي يقدّمه نيتشه للعدمية، يجعلها تلتقي مع تعريف هيدغر لها، بما هي العملية التي من خلالها وفي نهايتها “لا يصير هناك شيء” بالنسبة للوجود[8]. لا يتعلق الأمر هنا بمسألة نسيان الوجود من قبل الإنسان –وهي المسألة المحددة للميتافيزيقا عند هيدغر-، إذ العدمية ليست مجرد تيه، وليست أحد مخلفات التيه، ليست مجرد كذبة أو وهم معرفي. فالمسألة تتجاوز الإنسان وليست محصورة في الجانب السيكولوجي أو السوسيولوجي. فإذا كان الإنسان يتيه خارج المركز في اتجاه اللامكان، فلأنه لم يعد هناك وجود أو مأوى للإنسان. وفي هذه الحالة تصبح العدمية حالة عامة للوجود ومحمولة عليه، وليست محصورة في الإنسان وحده. هكذا وفيما وراء الأسس النظرية المختلفة يلتقي نيتشه وهيدغر في تصورهما لمضمون العدمية وأنماط تجلياتها. للوهلة الأولى يبدوان مختلفان بل متباينان: فالعدمية لدى نيتشه يمكن أن تلخّص في “أفول المتعالي” أوفي “تبخيس القيم العليا”، بينما بالنسبة لهيدغر فالكائن ينعدم بتحوّله إلى قيمة[9]. في التصور الهيدغري يوجد ما وراء ممكن للعدمية وهو مرغوب فيه، بينما في التصور النيتشوي لا مناص من تحقيق العدمية واكتمالها، إذ السير بها إلى حدودها القصوى هو كل ما يمكن انتظاره وتوسّله. إن التموقع داخل المنظور النيتشوي، يقتضي إدراج تصور هيدغر- بما هو محطة أساسية- في إطار تاريخ حدث تحقق العدمية المكتملة. ولن تكون العدمية في هذه الحالة غير الفكر مافوق الميتافيزيقي la pensée ultra-métaphysique الذي يعمل هيدغر بدورهعلى تحقيقه. فما هي إذن الدلالة العميقة لهذا التقارب بين الدلالتين: أفول المتعالي واختزال الوجود إلى القيمة ؟. من وجهة نظر هيدغر تبدو العدمية بمثابة الادعاء غير المشروع بأن الكينونة فقدت ماهيتها كأساس، وصارت خاضعة لسلطة الذات بما هي المانحة للقيمة. فيصبح للوجود بموجب ذلك قيمة تبادلية. وهذا الفهم للعدمية يجعلها قريبة من معنى أفول المتعالي النيتشوي. فهذا المعنى الأخير يؤكد على أن الأفول موضوعه الأساسي هي القيم العليا المقدّسة وحدها، ولا يطال ذلك الأفول كل القيم. بمعنى أن الموجودات والكائنات لا تفتقد معانيها بصفة نهائية، وإنما بالأحرى تصبح معانيها متحرّرة من هيمنة القيم العليا بما هي المحددة، فتتحرّر طبيعة القيمة. ينجم عن هذا أن العدمية ليست سوى عملية صيرورة القيمة الاستعمالية قيمة تبادلية، وإحلال الثانية محل الأولى. ليست العدمية هي وقوع الوجود تحت سلطة الذات، ولكنها انحلال الوجود والموجودات في سيلان وجريان القيمة[10]. وهو السيلان الذي جعل الأشياء تفتقد قيمتها الأصلية، ومعانيها الكنهية، لتصير خالية من المعنى ومفتقرة إلى القيمة.
إذا حاولنا الآن-وبعد تحديدنا لموقف كل من نيتشه وهيدغر من العدمية وضرورة تجذيرها كأفق وحيد للخروج منها- أن نتساءل عن طبيعة الموقف الذي اتخذته الفلسفة المعاصرة من هذا الحدث ؟ وكيف واجهته ؟ فسنجد أن المشهد الفلسفي المعاصر يبدو ملتبسا: فالماركسية بمختلف تلويناتها النظرية، قد حلمت بإمكانية استرجاع القيمة الاستعمالية المستلبة، وذلك عبر خيار الممارسة السياسية. فالمجتمع الاشتراكي تتحدد هويته باعتباره المجتمع الذي يتحرر فيه الشغل من خصائصه المستلبة التي يجسّدها السوق الرأسمالي بقيمه التبادلية. بيد أن تحرير الشغل من الاستيلاب يمرّ –داخل الموقف الماركسي- عبر وسائط سياسية معقّدة تجعل من ذلك التحرر إشكالا لا يستطيع أن يتخلّص من الصورة المثالية للإنتاج الفني. وفي الحقيقة لقد ظلت نظرة الماركسية للممارسة الإنتاجية خاضعة لغواية وتوجيه النموذج الفني للممارسة. ويمكن للقارئ الوقوف على هذا بالرجوع إلى كتاب”الرأسمال”.
هناك أيضا الموقف الذي يدافع عما يسمّى بالعلوم الروحية ضد العلوم الطبيعية. حيث تسعى الأولى إلى الدفاع عن كل ما له قيمة استعمالية، ضد التيار الجارف للعلوم الطبيعية المتمثّل في تحويل القيم الإنسانية إلى قيم تبادلية.
ثم هناك الهيرمنوطيقا المنحدرة من هيدغر والتي تمتد إلى غادامير، تحاول أن تبلور تصوّرات تكاد تجعل من العدمية الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الفكر المعاصر للخروج من العدمية بما هي أزمة أسس [11].
وفي الفينومنولوجيا لا زالت تهيمن الحاجة إلى تجاوز القيمة التبادلية باتجاه القيمة الاستعمالية. ينطبق هذا على هوسرل كما ينطبق على هيدغر خاصة في مؤلفه “الوجود والزمن”. وبصفة عامة فالمشهد الفكري المعاصر مضطرب، إذ توجد به عناصر ثقافية كثيرة تعمل بلغة نيتشه على مقاومة اكتمال وتحقق العدمية. غير أنه إلى جانب ذلك وربما ضده، توجد محاولات تسير في الاتجاه الذي يعمل على تسريع تفكك العدمية التي وصلت في بعض قطاعات الثقافة إلى أوجها واكتمالها. وهذا الحدث هو ما يتطلب من الفكر الانتباه إلى الآفاق الممكنة التي تفتتحها “العدمية المكتملة”. فمن زاوية هذه العدمية، تبدو ثقافة القرن الحالي تشهد بداية انهيار المشاريع التي تروم التأصيل أو استعادة الأصولla réappropriation [12]. وهكذا فالمنظور القائم على ادعاء إعادة التملك والتأسيس-سواء اتخذ شكل الدفاع عن قطاع محرّر من القيمة التبادلية، أو شكل طموح إلى إعادة تأسيس الوجود الإنساني على أساس القيمة الاستعمالية-لم ينهار فحسب على مستوى الممارسة العملية(أفول التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي سابقا)، بل إن ذلك المنظور قد بدأ يفقد بشكل تدريجي دلالته المعيارية المثالية، تماما كما حدث للمتعالي مع نيتشه. لقد أفل ذلك المتعالي لأن المعرفة لم تعد في حاجة لكي تصعد إلى المبادئ الأولى والعلل النهائية. كما لم يعد الإنسان في حاجة إلى الاعتقاد في الخلود والخلاص. بل حتى لو افترضنا بأن المتعالي قد أفل باسم الحقيقة ذاتها التي سبق له أن رسخها كحقيقة نهائية ومطلقة، فمع أفول المتعالي فإن الحاجة إلى الحقيقة ذاتها لم يعد لها من معنى. وما ذلك إلا لأن شروط الحياة –في ظل التطور العلمي والتقني-أصبحت أقل اعتباطا وبالتالي أقل مرضا. ففي هذا التأكيد على سطحية القيم النهائية وتبخّر المعاني المؤسسة تتجذّر وتترسّخ “العدمية المكتملة”[13]. إذ انهيار المحكيات الكبرى les métarécits [14]وخسوف القيم المقدّسة ليس دعوة لإقامة ألواح قيم جديدة، إذ لا يتعلق الأمر بإعادة التملّك والتأسيس. لأن ما صار سطحيا ولا غيا هو فكرة الأساس ذاته.”فوراء كل كهف يوجد كهف آخر يثوي خلفه أعمق من سابقه، وتحت كل سطح يوجد عالم خفي أرحب وأغنى وأغرب، وتحت كل الأعماق هناك ما هو أعمق”[15]. التجربة التي تنفتح أمام “العدمي المكتمل”، ليست تجربة الاكتمال، أو الامتلاء، أو الانتصار، تلك التي تستلهم القيم التي أبخستها الميتافيزيقا، فتعتبرها قيما عليا. والحقيقة أن ردّ الفعل كان يتخذ باستمرار هذه الصورة. ف”أفول المتعالي” و”خسوف القيم العليا” كان يدفع إلى المطالبة بقيم “أكثر عدلا وصدقا”، مثل قيم الثقافات المهمّشة، أو الثقافات الشعبية، أو الفنون..وليست هذه القيم بمنجى عن المرض والميتافيزيقا. إن “العالم الذي صارت فيه الحقيقة خرافة”[16] يجب أن يكون فضاء لتجربة ليست أكثر مصداقية أو أصالة من تلك التي أقامتها الميتافيزيقا، وذلك لأن الأصالة أو المعاصرة وإعادة التملك تسقط بدورها مع سقوط المتعالي. وهكذا فأفول المتعالي وخسوف الدلالات الكبرى الأخلاقية والسياسية والدينية لا تشكّل لحظات كارثية وانحطاطية فحسب، بل يجب الالتفات إلى تحدياتها، والإصغاء إلى نداءاتها بما هي مؤشرات على إمكان تجربة إنسانية جديدة. ونحن نزعم بأن فلسفة كل من نيتشه وهيدغر تشكّل أوراشا لإنماء مثل هذه التجربة، وبلورة “سياسة جديدة للفلسفة” تتخذ عند الأول صورة “فلسفة الصباح”أو “فلسفة المستقبل”، وتتخذ عند الثاني صورة “فلسفة الامتنان” أو “البدو الجديد”[17].
إن أول فيلسوف أثار قضية “تجاوز” الميتافيزيقا بما هي تجسّد فكر الحداثة بامتياز، باتجاه فكر ينقلنا إلى “ما بعد الحداثة” uberwindung هو نيتشه وليس هيدغر. هذا بالرغم من أن نيتشه لم يستخدم مفهوم ما بعد الحداثة، إلا أن مضمونه نشأ في أحضان فلسفته، وبالضبط في المسافة الفاصلة بين “اعتبارات في غير أوانها”، و”إنسان مسرف في إنسانيته” وباقي المؤلفات اللاحقة. ونحن نعتقد بأن هذه المسافة تسجّل بداية انعطاف جذري في مسيرة نيتشه الفلسفية. ففي “الاعتبارات الثانية” المتعلقة بالتاريخ، حاول نيتشه ولأول مرة أن يبلور إشكالية الفكر الحديث المرهق بداء تخمة الوعي بالتاريخ في القرن 19، والذي كان يعيق تجديد شروط الفعل التاريخي، ويقف حائلا دون القدرة على إبداع أسلوب أصيل خاص بعصر الحداثة، ومتحرر من العودة الحنينية إلى الماضي. ولقد كان نيتشه في هذه الحقبة من التفكير يعتقد بأن الغرب يستطيع الخروج من ذلك المرض عبر الاستنجاد بقوى “ما فوق تاريخية”، واستلهام الروح الدينية الديونيزية والفنية خاصة الموسيقى الفاغنيرية. و”إنسان مسرف في إنسانيته” سيسجّل انعطافا جديدا في فكر نيتشه بما هو بداية تصفية الحساب مع فاغنير، والتخلي عن تطلّعاته التنويرية وعن الاعتقاد في القوة الإصلاحية للفن. هذا المؤلف إذن هو الذي سيغيّر بعمق موقف نيتشه من “المرض التاريخي للعصر” بما هو أهمّ مؤشّر على مأزق الحداثة الغربية. وإذا كان هذا التغير لن يعثر على صورته الواضحة والناضجة إلا في آخر حياته، في شذرات متأخرة، وفي رسالته المشهورة إلى صديقه “بوركارد” التي يعلن في أحد مقاطعها بأنه صار في عمقه “متماهيا مع كل أسماء التاريخ”[18]. إلا أنه ابتداء من”إنسان مسرف في إنسانيته” سيطرأ تغير على نظرة نيتشه إلى مرض العصر بما هو انحطاط للحداثة، حيث لن يستنجد بالقوى المفارقة للتاريخ، بل سيعمل على تفكيك الحداثة عبر تعميق وتجذير الميولات العدمية التي تخترقها. فإذا كانت الحداثة تتحدد كعصر التجاوز والتجديد، أي كعصر لا يتوقف عن التجديد، حيث كل شيء جديد ما أن يحلّ إلا ويشيخ ويجد نفسه متجاوزا من قبل جديد آخر، وذلك وفقا لحركة تتكرر بشكل غير قابل للاستنفاذ. حركة لا تني عن بعث اليأس في جدوى الفعل التاريخي الخلاق، لأنها تحيله إلى ضرورة وتفرضه كصيغة أحادية للحياة[19]. إذا كان هذا هو حدّ الحداثة، فإن هذا سيجعل من المستحيل الخروج من مأزق الحداثة عبر حركة التجاوز والتصحيح، وهو المسار الذي سار فيه فلاسفة التنوير واليسار الهيجلي[20]. جدّة موقف نيتشه تتمثّل في البحث عن مسلك آخر متميّز غير التجاوز الجدلي، وذلك عبر تعميق التحلل والدفع بشروخات الحداثة إلى حدودها القصوى. وهذه العملية التفكيكية اتخذت في “إنسان مسرف في إنسانيته” صورة “التحليل الكيماوي” للقيم العليا للحضارة الغربية وذلك بتفتيتها إلى عناصرها الأولية بعيدا عن أي محاولة تروم التصعيد أو التجاوز. إن متابعة إنجاز برنامج التحليل الكيماوي يؤدي إلى اكتشاف أن الحقيقة التي تمنح المشروعية لذلك التحليل تصبح بدورها قيمة منحلّة ومفكّكة. فالاعتقاد في تفوّق الحقيقة على اللاحقيقة فرض نفسه في ظل ظروف وشروط حيوية معينة- مثل الشعور بانعدام الأمن- لم تعد الآن موجودة. كما أنها تتأسس على الاقتناع بأن الإنسان يمكن له أن يعرف “الأشياء في ذاتها”. لكن التحليل الكيماوي لعملية المعرفة سيكشف بأن المعرفة ليست سوى سلسلة من الاستعارات، أي ليست سوى عملية استعارية تجعل ادعاء تملّك الحقيقة مجرّد ادعاء زائف وباطل. ذلك لأن الاستعارة بطبيعتها تنتقل من الشيء إلى الصورة الذهنية، ومن هذه إلى الكلمة التي تعبّر عن الحالة النفسية للفرد، ومنها إلى الكلمة المفروضة كصدق عبر الاصطلاحات الاجتماعية. وعبر هذا التحليل الكيماوي تتفكك الحقيقة بما هي مثل أعلى. ومع تفكك الحقيقة يلوح في الأفق إمكان الخروج من “مأزق الحداثة”. ذلك لأن عدم الاعتقاد في الحقيقة، يؤدي بالضرورة إلى تقويض فكرة الأساس والتأسيس. أي سيجعل من المستحيل الخروج من مأزق الحداثة عبر التجاوز النقدي، أي عبر نقد الأسس القديمة وبناء أسس جديدة. وهذه هي لحظة نشأة “ما بعد الحداثة” في فلسفة نيتشه. وهو حدث مثله مثل حدث “أفول المتعالي” لا زلنا لم ننته بعد من تقدير كل دلالاته وأبعاده. وأحد نتائجه الأولى ظهرت معالمه الأولى في “العلم المرح”، وتمثّل ذلك في فكرة “العود الأبدي للمثل”[21]. وهي فكرة تدلّ من بين ما تدلّ عليه، على نهاية عصر النفي الجدلي والتجاوز، أي نهاية عهد الوجود المفكّر فيه بمصطلح الجدّة والتجديد. بل إن تيتشه في شذرات متأخرة، يعتبر فكرة العود الأبدي هي ما به يتم تعميق العدمية والخروج منها في الوقت ذاته[22].إنه ليس بفكر عادي وإنما هو بمثابة “فكر الأفكار”. إنه الفكر الأكثر ثقلا ووزنا وقيمة، لهذا وجدناه يأتي في نهاية العدمية بما هو الشكل المسرف للعدمية المكتملة[23]. إنه بمثابة المعيار الجديد للتقويم، ليس للأشياء فحسب وإنما بالأحرى للإنسان. فقيمة الإنسان يتم اختبارها بمقدار القوة والحرية والحقيقة والسعادة التي يستطيعها[24]. تكتسي فكرة العود الأبدي لدى نيتشه ثلاثة أبعاد: البعد الأول أنطولوجي، إذ هي موجّهة ضد الغائية. فهي تضع موضع تساؤل التصور الميتافيزيقي للعالم حيث تسعى إلى تعريته من طابعه اللاهوتي والإنسي، وتأكيد طابعه الكاووسي كضرورة، وذلك عبر هجر فكرة القانون والاستقرار والدوام[25]. إنها تعني دمغ العالم بمسحة ديونيزية حيث سيصير كلّية تعود وإلى الأبد بشكل مختلف وذلك عبر عملية هدم وبناء لا تتوقف. ووظيفة العود الأبدي هي تمكين الإنسان من عشق الحياة وتوكيدها وهذا يتطلّب الكثير من الحب والتسامح والعدل[26].
لفكرة العود الأبدي أيضا بعدا أخلاقيا تنويريا لكن بدون أوهام الأنوار. إنه نوع من حبّ القدر ليس بماهو إكراه خارجي وإنما بما هو توكيد للحياة وقول نعم لضرورتها. فسؤال الأسئلة بالنسبة لنيتشه ليس هو السؤال الهيجلي، هل الإنسان يشعر بالرضى عن النفس؟ بل هو سؤال يتعلق بما إذا كان أصلا قادرا على أن يرضى عن أي شيء كيفما كان ؟ فإذا افترضنا أننا قلنا نعم للحظة واحدة، فإن هذه ال “نعم” ستكون شاملة لجميع اللحظات وللوجود بأسره. والقدر أو المصير هو الإسم الآخر لهذه الضرورة. والموقف الديونيزي ليس شيئا آخر غير حب القدر، أي الكاووس. إنه “الاعتقاد بأن الأشياء تقع بالشكل الذي يجب أن تقع به”. وهذا الاعتقاد يجعل العود الأبدي على نقيض الاعتقاد المسيحي، ويتضح ذلك من خلال طبيعة موقفهما من المعاناة: فهل المعاناة –داخل الكينونة- حجّة ضد الحياة (المسيحية) أم لصالحها ؟ إنها بالنسبة لصاحب الجنيالوجيا ما به ينبثق عهد جديد[27].
البعد الثالث للعود الأبدي هو بعد فلسفي يتعلق بمدى إمكان الفلسفة ؟ وكيف تكون الفلسفة ممكنة ؟ وما هو شكل هذه الإمكانية في المستقبل ؟ إن فكر العود الأبدي بما هو “فلسفة الصباح”، أو “فلسفة المستقبل”، أي بما هو الشكل الذي تتخذه الفلسفة في عصر العدمية، فهو مناوئ للنسقية وللمعيارية[28]، لأنه يلغي الحدود التي تقيمها الفلسفة بين الداخل والخارج، ويجعلها حدودا واهية. إنه عملية وصف الصيرورة والتقاط ماهيتها عبر تفكيك صور وعلامات الثقافة. لكن إنجاز هذه المهمة الفلسفية يمرّ عبر إدماج أغلاط الإنسان الأساسية التي يتشكّل منها تاريخ الميتافيزيقا. إن تحقيق الفلسفة بما هي اكتمال للعدمية و”تيه في أعماق الحياة”، يقتضي صيرورة التفكير “عودا أبديا للمثل”، أي يقتضي التفكير في الوجود والصيرورة معا وفي وحدتهما لتجاوز التيه أو الغلط المزدوج: تيه الجسد وتيه العقل. ففلسفة العود الأبدي لا تريد الصيرورة كسيلان مطلق فقط، بل تريد أن يعود ما يصير، أي تريد عودة الوجود الصائر، وهذه الإرادة هي أرقى أشكال إرادة القوة، لأنها تمثّل أقصى ما يمكن أن تريده الإرادة. إنه “إرادة الإرادة” ذاتها. وفي هذا اللقاء بين الصيرورة والوجود يتم صياغة الجواب لسؤال الأسئلة الهيدغري: ماهو معنى الوجود ؟ الوجود يوجد (بارمنيد)، والوجود يصير (هيراقليط). فالعود الأبدي كأرقى أشكال إرادة القوة يأتي متأخرا في نهاية العدمية ويعمل على تحقيقها في صيغة “قول نعم للصيرورة”، أي التفكير في الوجود بعد أفول المعنى والغاية، وتبخر فكرة الأصل والحقيقة. فالعود الأبدي بتعميقه للعدمية يشكّل جسرا نحو العصر التراجيدي، وبتحقيق هذا العصر ينفتح تاريخ جديد واعد[29]. فهل عصرنا يمتلك من الجرأة ما يكفيه للإقبال على هذه المجازفة وتحمّل تبعاتها ؟ ألم يحن بعد زمن “الإنسان الأعلى”؟ زمن”من تغدق روحه ذاتها، وإذ تفعل ذلك لا تريد عرفانا بالجميل، ولا تؤدي دينا une dette: لأنه يعطي دائما ولا يريد الاحتفاظ بذاته”[30].
وكيفما كانت الإشكاليات الميتافيزيقية التي يثيرها هذا المفهوم، فإن فكرة”العود الأبدي” تمتلك على الأقل عند نيتشه هذا المعنى الاصطفائي المتمثّل في كشف ماهية الحداثة بما هي عهد اختزال الكينونة إلى الشيء المتجدد[31]. فإذا كانت وظيفة الفكر تتحدد في الحداثة باعتبارها صعودا إلى الأساس، ومحاولة العثور عبر صوره المختلفة عن قيمة جديدة للوجود وعن معنى جديد للتاريخ. فإن تفكيك أساس الحقيقة وحقيقة الأساس أدّى إلى تجريد الحداثة من ادعائها التأسيسي، وإلى إبطال الميتافيزيقا بما هي حكاية مؤسّسة، أو بما هي عودة إلى الأصل ومحاولة إعادة تملّك الأصل. ولا شك أن مهمة جديدة تنتظر الفكر، ولقد أطلق عليها نيتشه في نهاية كتابه “إنسان مسرف في إنسانيته” “فلسفة الصباح”. وهي فلسفة توجّه الفكر ليس نحو الأصل أو الأساس، وليس نحو الغاية، ولكن نحو القريب أو المجاور la pensée de la proximité . إنه يتحدد أيضا كفكر للغلط أو التيهla pensée de l'erreur ou de l'errance . لكن ليس بمعنى الفكر الذي يفكّر في الكاذب أو اللاحقيقي، ولكن الفكر المنتبه إلى ما تصير إليه البناءات “الخاطئة” للميتافيزيقا والأخلاق والدين والفن، كنسيج للتيهان الذي يشكّل لوحده غنى الواقع وكينونته[32]. فما دام “العالم قد صار خرافة”-كما أعلن نيتشه في “أفول الأصنام”-، وتحللت معه حتى فكرة العالم الظاهر، فإن الأخطاء الميتافيزيقية هي تيه وتيهان، وصيرورة تشكيلات ذهنية تتتابع وتتلاحق وفقا لاستمرارية تاريخية، ولكن بدون أية علاقة مع أية حقيقة، أو أي أساس كيفما كان نوعه. هكذا يفقد التحليل الكيماوي للقيم العليا طابعه النقدي الإيديولوجي، إذ سيكف أن يكون “كشفا للأقنعة وفضحا للأوهام”démystification، أو نقدا للأخطاء، ليكتسب طابعه التفكيكي. حيث سيتم تناوله بما هو مصدر الغنى الذي يشكّل الإنسان، ويمنح الأهمية واللون والكينونة للعالم. وكما يقول نيتشه في كتابه “الشروق”: “إن فقدان الأصل لدلالته تتزايد بموازاة معرفته، وبهذا تكتسي الأشياء والظواهر المحيطةبنا وتلك الموجودة بداخلنا ألوانها وجمالها بشكل تدريجي، وينبثق طابعها الملغّز والغني بالدلالات، وهو ما كانتالبشرية الغابرة تعجز حتى أن تحلم به”[33]. وهذا يعني أن “فلسفة الصباح”- بما هي الوظيفة الجديدة للفكر بعد “أفول المتعالي”، أو بما هي “قضية الفكر” في عهد “ما بعد الحداثة”- ستواصل “التيه الميتافيزيقي” بما هو عملية تفكيك وتقويض، أكثر مما هو نقد وتجاوز. ولتحديد هذا الموقف الذي يصفه نيتشه بألفاظ “النقاهة” و”المزاج الجيد”، والذي يتمثّل جوهره في العودة الجنيالوجية إلى ماضي الميتافيزيقا ليس من أجل القبول بأخطائها، أو السعي لتجاوزها نقديا عبر النفي الجدلي، لأن مثل هذه العلاقة لا تعمل سوى على تكريسها وإدامتها. إن فهم هذا يقتضي الاستعانة بهيدغر واللجوء إلى مفهوم verwindung [34]. وهو مفهوم قليل الاستعمال من طرف هيدغر، وغالبا ما يستعمله في مقابل مفهوم Ge-stellالذي يفيد الاستخزان أو الاستصناع أو الاستعقال الذي هو بمثابة آلية النظام التقني في إكراه الظواهر وإخضاعها. فهذا المصطلح يساعدنا على فهم وتحديد مفهوم “فلسفة الصباح” النيتشوي، والذي حسب الفرضية التي نبلورها هنا يشكّل ماهية “ما بعد الحداثة” في الفلسفة. فمفهوم (الفيرويندونغ) يشير إلى نوع من التجاوز عبر التعميق والذي يحافظ في طياته على نوع من القبول. إنه من الناحية الاشتقاقية يفيد النقاهة التي يقتضيها الشفاء من المرض(داء العدمية). كما يفيد أيضا عملية إحداث الشرخ distorsion والاستسلام لما يترتب عن ذلك من ألم وضياع وفقدان. وهكذا فعصر سيطرة التقنية واجتياحها الشمولي للكينونة، لا يعبّر فحسب عن العصر الذي وصلت فيه الميتافيزيقا إلى أوجها واكتمالها وتحققها، ولكن أيضا هو العصر الذي يسمح أكثر من غيره بالانفكاك من قبضة التقنية بما هي ميتافيزيقا، أي بإقامة علاقة جديدة بين الكائن والكينونة ليس أساسها الاستصناع أو الاستخزان أو الادخار أو الاستهلاك، وإنما أساسها التمالك المشتركEreignis / co-propriation [35]. لكن إمكانية هذا الانفتاح باتجاه التمالك وفيما وراء الميتافيزيقا لا يتم عن طريق “التجاوز النقدي”، أو عبر فكرة “النفي الجدلي”. إذ لا ينفك المرء من الميتافيزيقا كما ينفك من رأي ما، فهي ليست بمثابة قميص يمكن خلعه والتخلص منه متى شاءت الإرادة، وإنما هي كمرض تبقى آثاره منطبعة على الجسد حتى بعد الشفاء منه. فالإنسان لا يستسلم لإكراهات التقنية بدون مقاومة، ولكنه من الممكن أن يحياها ويتعامل معها كفرصة وكإمكانية لتحوّل، ليس في الاتجاه الذي تقتضيه ماهية التقنية، ولكن في اتجاه آخر حتى وإن ظل مع ذلك مرتبطا بها[36]. وفي الحقيقة فإن هذا الفهم لتجاوز الميتافيزيقا- والذي يجعل هيدغر يقترب كثيرا من مفهوم نيتشه عن “فلسفة الصباح”- يشكّل انعطافا في فكر هيدغر. فإذا كان هيدغر في كتابه “الوجود والزمن” يحدّد مهمة الفكر في إعادة التفكير في معنى الوجود كتعويض وكتجاوز للنسيان الذي تعرّض له طوال تاريخ الميتافيزيقا. وكأن هذا النسيان هو بمثابة خطأ ارتكبته إرادة الإنسان، وبحكم ذلك يمكن تجاوزه عبر استدراك ذلك الخطأ وتصحيحه[37]. إلا أن فكر هيدغر- وابتداء من رسالته في النزعة الإنسانية سنة 1946- سيعرف انعطافا جديدا تمثّل في التأكيد على استحالة التفكير في “نسيان الوجود” المشكّل للميتافيزيقا باعتباره خطأ إنسانيا، بل لا يمكن التفكير فيه إلا باعتباره نوعا من الصيرورة القدرية المرتبطة بماهية الكينونة. فالميتافيزيقا من حيث أنها تنتمي إلينا وتشكّلنا، فهي ليست مجرد مصير يتحتم علينا تجاوزه، بل هي البنية العميقة للوجود، والنسيان المنكتب في ثنايا الكينونة، مادامت هذه الأخيرة لا تعطي ذاتها وبشكل كلّي في الحضور. فالصعود عبر تاريخ الميتافيزيقا والقيام بعملية استذكار للنسيان الذي يوجد في أساس نشأتها، من شأنه أن يعمل على تذكر الكينونة بما هي الشيء الذي ابتعد عنا ولم نعد على اتصال به. وبلغة نيتشوية يمكن أن نعبّر عن نفس الفكرة الهيدغرية بالقول، بأن الفكر الصاعد إلى ما يعتبر “الأساس الأول”، لا يفعل ذلك من أجل “تملّك الأصل”، وإنما من أجل السير في “مسالكه التائهة”، التي تشكّل غنى الكينونة الوحيد المعطى لنا. هكذا يصبح المسار الهيدغري قريبا إلى حد كبير من مسالك التيه النيتشوي، لأن المفعول العدمي الناجم عن تفكك مفاهيم الحقيقة والأساس لدى نيتشه، يجد ما يوازيه لدى هيدغر، في اكتشافه للطابع الاختزالي للكينونة بما هي قيمة، وفي رفضه التعامل مع الكينونة بما هي أساس للأشياء وللفكر. فهو يؤكد في محاضرته الاختتامية لمؤلفه ” الوجود والزمن” لسنة 1927، بأن عملية تهيئ الخروج خارج الميتافيزيقا، يقتضي التخلي عن مفهوم الكينونة باعتبارها أساسا”[38]. وهكذا فنحن بمعنى ما لا نتذكر الكينونة، وإنما لا نعمل سوى على إعادة التفكير في تاريخ التيه الميتافيزيقي الذي يشكّلنا ويشكّل الكينونة. وهذا الاستذكار أو التكرار للميتافيزيقا ليس دعوة لقبول الميتافيزيقا والاستسلام لها. فحينما تتم العودة إلى أفلاطون للتفكير من جديد في نظرية المثل، فليس الهدف من تلك العودة هو طرح السؤال المتعلق بما إذا كانت تلك النظرية صحيحة أم خاطئة، وإنما الهدف هو السعي لاستذكار البدو الأول المصيري الذي حضرت فيه نظرية المثل الأفلاطونية. ويعتقد هيدغر أن مفعول مثل هذا الموقف يكون تحريريا. ذلك لأن التعامل مع الطروحات والمواقف الميتافيزيقية باعتبارها “انوهابا”، أي كبث ونقل تاريخي مصيري، من شأنه أن يجرّد الادعاءات الميتافيزيقية من قوتها الاستدماجية. ومثل هذا الفهم تترتب عنه نزعة تاريخية نسبية، تقرّ بعدم وجود أي أساس أو حقيقة نهائية، وأنه لا وجود سوى لانفتاحات وانبلاجات تاريخية مرسلة وموجّهة من قبل المثل أو الشبيه [39] le mem. وتاريخ هذه الانفتاحات ليس هو تاريخ الأخطاء التي يتم تكذيبها استنادا إلى أساس أو حقيقة، وإنما هو تاريخ الكينونة ذاتها. فليس تاريخ الكينونة سوى التاريخ الذي ينقل ويرسل لنا الانفتاحات التاريخية المصيرية التي تشكّل بالنسبة لكل مجموعة بشرية تاريخية إمكانيتها الخاصة والأصيلة لولوج العالم[40]. وإذا كان الأمر كذلك، فمهمة “الفكر الآخر”، أو فكر”البدو الجديد” تكمن أساسا في تلقي تلك الرسائل، ومحاولة بلورة أجوبة لما تطرحه من تساؤلات واستفهامات، وكل ذلك يجب أن يتم في إطار تجربة أساسها “الامتنان” و”الشكر” و”التجاوز”. إذ السمة الأساسية للكينونة –لدى هيدغر- هي “الانوهاب والعطاء” le don . وعطاؤها يتمثل في إيجاد الفسحة والفتحة la clairière التي فيها يظهر الكائن ويتبدى[41]. فأفضل ما وهب للإنسان هو كينونته. لهذا يجب أن يكون شاكرا لهذا العطاء والوهب ومؤتمنا له. فهو بمعنى من المعاني راعي للكينونة le berger de l etre. لأن الأصل في الإنسان أنه كائن منطرح ومنقذف لا إلى العدم وإنما إلى حقيقة الكينونة حتى يلقاها ويسهر عليها ويحفظها ويرعاها، إذ كنه الإنسان أن يقيم الكينونة في ذاكرته فلا ينساها.
إن السمة الأساسية ل”ما بعد الحداثة” لدى كل من نيتشه وهيدغر، هي التجريب والاختبار، والسعي الدائم والمتواصل للانفكاك من ظلال الميتافيزيقا عبر استذكار تاريخها تارة[42]، وعبر إبداع قيم ومعاني جديدة مؤقتة تارة أخرى. وهذه السمة التجريبية، تتحدد عند نيتشه في العودة بالإنسان إلى درجة الصفر في الهوية، وتجريده من نوعه. إذ الإنسان هو الكائن الحيواني الذي لم يتحدد بعد نوعه. بل إن هويته قابلة لأن تصير متماهية مع كل أسماء التاريخ. فهي صيرورة منفتحة على جميع الاحتمالات، لهذا فمسؤولية مستقبله ومصيره ملقاة على عاتقه. وإذا كان التصور المسيحي قائم على “تأثيم الإنسان”عبر إدخال فكرة الخطيئة والعقاب إلى قلب الوجود الإنساني، فإن “ما بعد الحداثة” هو فضاء بداية عودة البراءة إلى الصيرورة، حيث يبدو الإنسان عاريا من كل خاصية ومتجرّدا من كل غائية وقصدية. وهذا هو أساس الفلسفة التجريبية التي تحدّث عنها نيتشه بما هي معادية للعدمية، وإرادتها ليست إنكارية، بل تقول نعم للحياة. إن هذا المنزع ما بعد الحداثي يقطع مع كل المحاولات الحداثية التي سعت إلى تجاوز العدمية ولكنها فشلت في ذلك. وهي فشلت في ذلك لأنها ظلت واقعة تحت نفس إشكالية العدمية، ألا وهي إشكالية الغائية أو الأساس. فالكيفية التي يطرح بها هذا الإشكال يشي بعادة قديمة أساسها افتراض وجود غاية مفروضة من الخارج من قبل سلطة عليا مفارقة للإنسان. وحتى حينما أبطلت الحداثة مفعول هذه السلطة، فإنها ظلت كما يقول نيتشه سجينة لظلالها، مثل الوعي، أو العقل، أو التاريخ. بل أكثر من هذا لقد حاولت الحداثة مضادة المثل الأعلى الزهدي الذي أصبح لاغيا، بمثل أخرى أشدّ استبدادا وعنفا: كالمثل الوضعي، والمثل الكلاّني، والمثل الديمقراطي، والمثل الاشتراكي... فلنأخذ المثالين الديمقراطي والاشتراكي على سبيل المثال لا الحصر: فالأول حاول أن يستعيض عن فكرة العناية الإلهية، بنظام أخلاقي يقوم بنفس الدور: يثيب ويجازي، يعاقب ويهذّب، ويقود إلى التوبة والخلاص. والثاني قام بمعارضة فكرة “خلود النفس”و”قيمة الشخص”، بحلّ دنيوي يتمثّل في إشاعة فكرة الحق والإخلاص والعدالة، بينما هو في عمقه يستنسخ فكرة المساواة المسيحية. بينما لا تروم “فلسفة المستقبل” التجريبية السير بالعالم نحو الأفضل وإدانة صورته الراهنة. بل هي تحمله على عاتقها على غرار حمل المسيح لخطايا البشرية، لكن بدون أي إحساس باليأس أو الذنب. وهذا ما تعكسه فلسفة العود الأبدي، إذ لا تعود غير الأشياء الطيبة، القوية، المقبلة بنهم وتعطّش على الحياة. وهذا هو معنى “براءة الصيرورة” من كل غائية وقيمة خلقية، أو ما يطلق عليه أيضا نيتشه “حبّ القدر” Amor fati. إن العهد ما بعد الحداثي يجمع ما بين الخلق والاختبار، أو التشريع والتجريب. وهذا الاقتران بين الأمرين اقتضاه “أفول المتعالي” واختفاء المعيار المطلق للقيم. ويلزم لذلك تعليم الإنسان أن المستقبل بين يديه، والعمل على إعداده بواسطة تجارب فردية وجماعية، ستمكّن من إنهاء حكم العبث والصدفة الذي يحمل إلى حد الآن إسم “التاريخ”. والمشجّع في هذا العمل، هو أن الإنسان بدأ يعي أنه لم يستنزف كل إمكاناته. المطلوب الآن هو القطع مع ظلال “المثل الأعلى الزهدي”، وفضح تواطؤات الإرادة مع القوى الارتكاسية[43]، ووضع شبكة من القيم المؤقتة التي لا تملك سمة الدوام والخلود، وإنما سمة التجريب والعبور. وليس التجريب ببدعة في تاريخ البشرية، بل لقد جرّبت دوما لكنها لم تكن لها الجرأة الكافية لتعلن عنها وتتحمّل مسؤوليتها. وإنما ميزة “ما بعد الحداثة” هي الوعي بهذه المسألة. لهذا كان “عهد تجريب واع”، وكيف يكون الأمر عكس ذلك والإنسان يحيا بين أنقاض عالم اجتاحته العدمية مثل اجتياح النار للهشيم. لكن العدمية نفسها أصبحت تحثّ الإنسان على تجاوزها. ولا يقوى الإنسان على هذه المهمة إلا عبر التربية والتهذيب والاصطفاء والتجاوز الذاتي. يتعلق الأمر بزراعة بذور إنسان جديد قادر على تجاوز أخطاء الماضي وتعثّراته وتردّده. وهذه العملية ينعتها نيتشه ب “السياسة الكبرى” تمييزا لها عن السياسة الصغرى التي كانت تنتهجها الحداثة والقائمة على النعرة الوطنية، والنزعة القومية، والتفوق العرقي. وهذه مهمة جسيمة ملقاة على عاتق الفكر والثقافة.
بيد أن “فلسفة الصباح” التجريبية ما كان لها أن تغيّر “سياسة الثقافة” لولا اتسامها بسمة خالفت بها الحداثة. وأقصد بذلك أفول مشروعية خطاب اللوغوس والأخلاق وفلسفة الذاتية والحضور. حيث أحلّت محلّ ذلك نمطا من الفكر أساسه كما يقول “دولوز” الشذرة والقصيدة. لقد قامت الميتافيزيقا على عدّة افتراضات يعتبرها نيتشه بمثابة أحكام مسبقة. لقد افترضت أولا أن الكون تحكمه غاية وهو يتجه لتحقيقها. وافترضت ثانيا أن لكل حدث كلّية أو نسقا يندرج فيه ويستمدّ منه وحدته. وثالثا أدانت الميتافيزيقا عالم الصيرورة واعتبرته نوعا من الوهم، واخترعت عالما آخر مفارقا عدّته هو العالم الحق. وهكذا تتشكّل الميتافيزيقا بما هي حكاية كبرى من ثلاثة مبادئ هي: الغائية والكلّية والحقيقة. لكن حدث العدمية أو “أفول المتعالي” أظهر أن لا مآل للصيرورة ولا غاية. كما اكتشف خلو الأشياء والكائنات من أي نظام أو وحدة. وتبيّن “أن العالم الحق إن هو إلا خرافة”. وعليه اكتشف أنه لا يمكن فهم طابع الوجود بتوسّل مفهوم الغاية، ولا بالاستناد إلى مفهوم الوحدة، ولا بالتعويل على مفهوم الحقيقة. فليس لمسار الكون قرار، ولا لتعدّد الحدث وحدة، ولا لوهم الوجود حقيقة. ولقد أدّى أفول هذه المحكيات الكبرى الثلاث إلى فقد العالم لقيمته. لهذا لا يجوز اتهام العالم ولا تأثيم الإنسان، بل يجب توجيه اللّوم كله للمقولات العقلية التي تم بها تأويل العالم، وهي مقولات الوحدة والحقيقة والغاية. فلم يعد العصر يسمح بقيام المثل العليا، أو المحكيات الكبرى، وإنما العصر هو عصر تفكك المثل، وتفتت المعاني، وتشظّي الحقيقة، بحيث صار المعنى معاني، والحقيقة حقائق، والواحد كثرة، والوحدة اختلافا. بل لقد صار العالم نصّا يقبل عدّة تأويلات، وصار وجوده وجودا تأويليا[44]. هكذا إذن يبدو عهد “ما بعد الحداثة-من زاوية فلسفة نيتشه- عهد تفتّت وتشظّي لا عهد تنسيق وتوليف، لأن النسقية بالنسبة له تنطوي على نوع من مخادعة الذات عبر وهم النظام، والوضوح، والمنهج، بما هي آليات لإنتاج الحقيقة، بينما سيكلوجية دعاة الأنساق تكشف عن المعاناة الناتجة عن الرهبة من اللايقين، والحاجة إلى الطمأنينة وراحة البال التي يمنحها البناء النسقي المعماري للحقيقة. لهذا حاول نيتشه وانسجاما مع روح عصر “ما بعد الحداثة”، أن يبلور سياسة جديدة للكتابة في الفلسفة تعمل على انعتاق الكتابة وتحرير الدال من تبعيته للمدلول. وهي المسألة التي ستحققها الجنيالوجيا ولأوّل مرة في تاريخ الفلسفة. يقول دريدا : “لقد كتب نيتشه ما كتبه ، كتب بأن الكتابة –وكتابته على الخصوص-ليست خاضعة للوغوس والحقيقة . وبأن هذا الإخضاع قد تم في مرحلة محدّدة “[45]. وهكذا فمع نيتشه سينبثق تصور جديد للكتابة ، من حيث أنه يمثّل حسب دريدا أول فيلسوف قام بتحرير الدال من تبعيته للمدلول ، ومن اشتقاقه من اللوغوس [46]. يتعلق الأمر هنا بكتابة/قراءة جديدة لا تميّز بين النص وكاتبه. قراءة فعالة تنتج النص اللامكتوب والذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرضا من أعراضه . إنها كتابة/قراءة تحاول أن تنتج العملية الفعلية للكتابة الميتافيزيقية ذاتها، والتي ليست هي عملية إظهار وتملّك المعنى الوحيد كما تريد الميتافيزيقا، وإنما عملية لتوليد الاستعاراتprocés de métaphorisation . ولا شك أن الكتابة الملائمة للمشروع الجنيالوجي –بما هو مشروع يروم تقويض الميتافيزيقا وسنّ سياسة جديدة للفلسفة تساؤلا، وتفكيرا، وتأويلا، وتقويما، وكتابة [47] – هي الكتابة الشذرية aphoristique أو المقطعية التي تنبذ الاستمرار والوصل . كتابة تقحم داخل النص زمان العود الأبدي بدلا من الزمن الخطي الميتافيزيقي. وهو زمن ينخر الحضور ذاته ويجعل الهوية مفعولا لاختلاف، والوحدة نتيجة لتعدد، والعمق فعلا لسطح [48]. كتابة تحاول أن تقضي على الوهم الأفلاطوني لمعرفة/ذاكرة، لتنظر إلى النسيان في قوته الفعالة. ولهذا فهي كتابة بدون ذات، لكنها غنية من حيث أنها لا تعطينا نفسها إلا فيما تحجبه عنا “وبالضبط فيما تحمله في طياتها من رخاوة، خلف مظهر أقوى الحقائق بداهة، في الصمت الذي يتخلل خطابها، والنقص الذي يعوز مفاهيمها، والبياض الذي يتسلل إلى سواد كتابتها الدقيقة” [49].
وفي الحقيقة فإن نيتشه يستعمل الشذرة بمعنى يناقض أصلها الاشتقاقي، إذ هي لا تتوخى التحديد المنطقي لما تتحدّث عنه، بقدر ما تسعى إلى اتخاذ المسافة الضرورية من المعاني والقيم التي تم تكريسها كحقائق، وإذا اقتضى الأمر فهي تخضعها إلى فحص نقدي جديد. فالشذرة تروم تحريك الفكر، وخلخلة يقينياته وعاداته، وتكسير المجرى العادي للأشياء. ولها قرابة مع التراجيديا إذ تشترك معها في هتك حرمة الخطاب[50]. كما تتسم الشذرة بطابع الذاتية والفردية لأنها موجهة أساسا ضد الإجماع القائم. ولأنها من جهة أخرى تحمل بصمات تجربة صاحبها، وتروي سيرته، وتعبّر عن معاناته في الوجود ومع الحقيقة. والشذرة تستمدّ فعاليتها من البلاغة والشعر أكثر مما هو منطقي وبرهاني. وهي تراكم الأسئلة وتثير الإشكاليات أكثر مما تقدّم الأجوبة وتبحث عن الحلول. وظيفتها الأساسية لا تتمثّل في إقامة التعالقات والتعميمات، بل في العمل على كشف وعزل مظاهر فريدة ومتميزة، أو هامشية وعابرة، من شأنها أن تلقي بضوء جديد على تساؤلات أخرى أكثر عمقا وأهمية[51]. وأخيرا وليس آخرا فالشذرة تحقق القطيعة مع الماضي ومع النسق، وموجّهة ضد السفالة والتفاهة، وتستمد قوّتها من تعدد المنظورات التي تسمح بها، وكذا من طبيعتها الترحالية والمتنقّلة. إنها كما يقول “دولوز” بمثابة آلة حربية وقوة رحالة يتعذّر تفكيك سننها من قبل القانون والعقد والمؤسسة[52]. وهذا ما يجعل منها كتابة ليست ب”كتاب”، أي ليس لها مدخل ومخرج، ومقدمة وخاتمة. وهذا ما يجعلها أشبه بالمتاهة لأنها كتابة بدون معالم، أو بدون ذات متعالية-على النمط الكانطي- تحيل إليها كمصدر أو كأساس. ولهذا فهي كالعنقاء تقبل موتها وفناءها وتهيئ الأرض لانبعاثها من جديد في هويات مختلفة وأسماء جديدة. إنها رمز لفكر متاهي يشتغل بهدوء وصبر، ويواجه العالم باعتباره لغزا، ويستغني عن المطلق كضامن للحقائق الأبدية. ولهذا فهو مجازفة بل ومخاطرة تتطلب من صاحبهاالكثير من الجرأة للسير في الطرق التائهة غير المسلوكة التي لم يطأها أي تفكير بعد ولم يتم استكشاف أراضيها البكر. يقول نيتشه: “إلى حد الآن فإن كل ما يمنح لونا للوجود ليس له تاريخ، لأنه أين سنعثر عن تاريخ للحب، للجشع، للرغبة، للضمير الأخلاقي، للرحمة للقساوة ؟(...)فهل نعرف المفاعيل الأخلاقية للأغذية؟ وهل هناك من فلسفة للتغذية ؟(...)فهذه القضايا تحتاج إلى محاولة واختبار، حيث جميع المغامرات والبطولات ممكنة”[53].
وفي الحقيقة فإن هذا الطابع البلّوري للكتابة النيتشوية والذي يسم النص الجنيالوجي بالتعدد يكتسي أكثر من دلالة: فهو من جهة يبيّن المقاومة التي يبديها الفكر النيتشوي لكل تقنين وتقعيد يسعى إلى ضبط ماهيته، أو تثبيت هويته، أو اعتقال حيويته. ومن جهة أخرى يشير إلى المناعة والحصانة الذاتية التي يتمتع بها ذلك الفكر نظرا لطبيعته الترحالية، ونظرا لكونه استطاع ابتكار أسلوب جديد في التفكير والكتابة يجعله غير قابل للتقنين، لأن سننه مستعصية على التفكيك. وهذا ما يجعلها تتحول إلى آلة حربية قادرة على اختراق آليات الضبط والمراقبة والمنع التي تمارسها سلطة الحقيقة على التفكير والكتابة، وذلك عن طريق التشويس على أجهزة الرقابة النظامية، والعمل على تمرير وتسريب عبر كتابة شذرية، مفاهيم ورموز واستعارات ملغّمة، وحدها القوى الجديدة هي القادرة على تفجيرها. ألم يصرّح نيتشه في أحد رسائله الأخيرة بأن حياته الفكرية كلها بمثابة ديناميت[54].
المراجع
[1] – Nietzsche (F),Le nihilisme européen, introduction et traduction par Angèle Kremer- Marietti, aph4 , p25, éditions Kimé, Paris 1997 .
[2]-تتخذ العدمية في فلسفة نيتشه أربعة أشكال و معان هي بمثابة أطوار وجسور تمر بها خلال تاريخها:
1- العدمية السالبة أو النافية le nihilisme négatif: وهي تقوم على إنكار الحياة والوجود، وتبخيس الجسد، وكبت الغريزة وحجب الرغبة، باسم قيم مطلقة ومثل عليا زهدية مفارقة، أي باسم تقويمات وتأويلات تقدّم ذاتها باعتبارها التقويم أوالتأويل الحق.
2- العدمية الارتكاسية le nihilisme réactif:وهي بمثابة رد فعل ضد العالم المفارق، وتبخيس للقيم المقدسة والمثل العليا، حيث ينفي العدمي وجود المتعالي، والخير المطلق، والحقيقة المجردة، أي كل أشكال التعالي والمفارقة. وكل هذا يتم باسم قيم ” إنسانية مسرفة في إنسانيتها “، حيث يتم إحلال الأخلاق محل الدين، وقيم المردودية والفائدة والتقدم والديمقراطية والعقلانية محل القيم والمثل العليا الزهدية. لكن استبدال قيم لاهوتية بقيم إنسانية لا يعني تغيّرا في جوهر العدمية. لأن الأمر يتعلق بنفس الحياة الارتكاسية وبنفس العبودية التي كانت قد انتصرت في ظل هيمنة القيم اللاهوتية. وهي حياة تواصل استمرارها في ظل سيادة القيم الإنسانوية. بل لربما تكون هذه العدمية الثانية قد توغلت بنا خطوة إضافية في صحراء العدمية. فنحن نتوهم بأن رؤيتنا أصبحت أكثر وضوحا مما مضى، ومعرفتنا أكثر إحاطة وتملّكا للواقع ؛ لكننا في الحقيقة لا نحتضن إلا ما تركته القيم العليا البائدة من بقايا القوى الارتكاسية وإرادة العدم.
3- العدمية السلبية le nihilisme passif وهي تقوم على تبخيس الحياة والوجود مفارقا كان أم محايثا. تعثر هذه العدمية على صورتها الواضحة في الصيغة التالية: ” العدمي هو المرء الذي حينما يكون أمام العالم كما هو موجود يحكم عليه بأنه لا ينبغي أن يوجد، وحينما يكون بصدد العالم كما ينبغي أن يكون يحكم عليه بأنه غير موجود “. ويرى دولوز بأن هذا المعنى الثالث للعدمية لن يفهم إلا إذا أدركنا كيف يتفرع عن المعنيين السابقين ويفترضهما في الوقت ذاته. ففي المعنيين الأول والثاني يتم تبخيس الحياة باسم قيم عليا لاهوتية تارة ووضعية إنسانوية تارة أخرى. أما في المعنى الثالث فالإنسان يبقى وحيدا في الحياة، مع حياة جرى تبخيسها، وهي تتواصل الآن في ظل عالم بدون هدف، وخال من القيم والمعاني. فمن قبل كان يتم معارضة الظاهر بالجوهر، والشر بالخير، وكان يجعل من الحياة ظاهرا، ومن الجسد شرا؛ أما الآن فيجري نفي الجوهر لكن مع الاحتفاظ بالظاهر. فالعدمي بهذا المعنى الأخير، هو ذلك الذي يرى أنه لا طائل ولا جدوى من أي شيء، والأفضل هو الخمود الهادئ، و”عدم الإرادة” أفضل من “إرادة العدم”. ويلقّب نيتشه هذا العدمي ” بالانسان الأخير” le dernier homme. وهو الذي أدرك زيف العالم المفارق وتحرر من إكراهه، ولكنه عاجز عن إبداع قيم جديدة فيعيش في العدم المحض. فهو يفهم “أفول المتعالي” بأنه دعوة إلى التنصّل من الأخلاق والواجب؛ وبأنه لم تعد هناك أية قاعدة تسير على هديها الحياة. إنه بعبارة واحدة، يخلط بين اللاأخلاقية l'immoralité واللاأخلاقl'immoralisme أما المعنى الرابع والأخير للعدمية، فهو الذي نتناوله هنا بالتحليل، ويلقّبه نيتشه تارة بالعدمية المكتملة، وتارة أخرى بالعدمية الانتشائية Le nihilisme extatique.
[3] – le nihilisme européen, aph3 , p29 , op.cit.
[4] – يعتبر دولوز بأن هذه المقولات الثلاث هي التي تشكّل التيبولوجيا النيتشوية وهي تمثّل بحق أحد الإكتشافات العظيمة لسيكلوجيته. وتجسّد هذه المقولات المراحل الأساسية لانتصار العدمية السالبة . ولا يتردد دولوز في اعتبار هذه المفاهيم بمثابة المقولات الكبرى للفكر الغربي على غرار مقولات الوجود والكوجيطو والعلية والغائية...إلخ. ويلقّبها نيتشه ب”الروح الإنكارية”، وهي تمثّل في نظره العنصر الجنيالوجي للثقافة الغربية الحديثة. وحسب دولوز فإن ما يستهدفه المشروع الجنيالوجي، هو إحداث قلب جذري في مبدأ الثقافة هذا، لخلخلة التفكير الغربي. يمكن الرجوع بصدد هذه المفاهيم إلى مؤلفي دولوز بالفرنسية: “نيتشه”و” نيتشه والفلسفة “، كما يمكن الرجوع إلى مؤلف نيتشه “جنيالوجيا الأخلاق ” .
[5]- la volonté de puissance , p14et15 ,op.cit .
[6] – le nihilisme européen , p25 , op.cit .
[7] – le Gai savoir, aph.341, op.cit.
[8] – la fin de la modernité, p23, op.cit.
[9] – ibid, p24.
[10]- ibid, p25.
[11] – ibid, p26.
[12] – ibid, p27.
[13] – ibid, p28.
[14] – Jean-François Lyotard, La condition postmoderne, p7 et p8, éditions de Minuit, 1979.
[15] – Nietzsche (F), par delà le bien et le mal, aph.289, 10-18, Paris, 1973.
[16] – Nietzsche (F), Le crépuscule des idoles,aph.5 et 6, p36 et 37, introduction d'Henri Albert, Denoel-Gonthier, 1899.
[17] – Heidegger, Nietzsche 1, p374, op.cit.
[18] – Nietzsche(F), Lettre à Jakob Burckardt, le 6 janvier 1889, in Dernières lettres, p151, préface de Jean-Michel Rey, éditions Rivages, 1989.
[19] – la fin de la modernité, p170, op.cit.
[20] – Le discours philosophique de la modernité, p105, op.cit.
[21] – مفهوم العود الأبدي: أحد أهم المفاهيم في الفلسفة النيتشوية. وهو يندرج ضمن الإلهام الصوفي أو الوحي الديني أكثر من اندراجه ضمن الحدس الفلسفي المفهومي. والاعتقاد فيه والعمل بمقتضياته وتعاليمه يتطلب من صاحبه-حسب نيتشه- الكثير من الجرأة والتهور. لهذا وجدنا نيتشه يستعمله كمعيار للتمييز بين النموذج الارتكاسي والنموذج الفاعل، أو بين الضعيف والقوي. فالقوي هو من يستطيع توكيد الطابع التراجيدي للوجود بدون ضغينة وبدون أوهام. وحسي كلوسوفسكي، فإن العود الأبدي على تفكيك الهويات الثابتة، ويجعل من المستحيل قيام “الذات” بالمعنى التقليدي- الميتافيزيقي للفظ. وحسب دولوز تقتضي فكرة العود الأبدي إقامة تعالق بين ثلاثة مفاهيم هي: أفول المتعالي، وإرادة القوة، والعود الأبدي. فمع أفول المتعالي وحلول العدمية، تفقد الذات ضامن وحدة هويتها ووجودها، فتتعرّض للتفكك والتشظي. وحينما يصير الأنا مفككا، سيضطر إلى أن ينفتح على جميع الأسماء والهويات، ويضطلع بجميع الأدوار. وليس العود الأبدي غير أفول المتعالي وتفكك الهوية الذاتية أو القومية. إنها لا تعني غير العودة المتكررة للأشياء ذاتها في اختلافها إلى الأبد. وهذا ما يجعل مفهوم العود الأبدي النيتشوي يتعارض جذريا مع التصور الغربي اليهودي-المسيحي للتاريخ. لأن الأبدية التي يستلزمها العود تقتضي تفكيك بنية الزمن بما هو خط متدرج في تصاعده، وخلخلة التفاضل القائم بين آناته الثلات، حيث يصبح الماضي والحاضر والمستقبل-على حد تعبير فاتيمو-مجرد كيفيات مختلفة لإدراك التاريخ والأبدية.
[22] – Emmanuel Cattin, sur l'aristocratie et la philosophie du retour,


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.