[email protected] العلمنة الإسلاموية: تناقض الواقع والايديولوجي:- كشفت هذه المفاكرة عن درجة عالية في علمنة فكر الإسلاميين وبالضرورة علمنة حياتهم وحياة المجتمع الذي يحاولون بناءه.فقد تكرر الحديث عن الانسنة(سيد الخطيب)ودولة المسلمين وليس دولة الإسلام(غازي صلاح الدين).وهل العلمنة تعني أكثر من فهم الأمور من خلال الناس العاديين؟وهذا ما تعنيه كلمة لائكي أو علماني حرفيا، فهي تعني الجمهرة من غير رجال الدين(الكهنوت).فالنخبة الدينية السودانية المعاصرة لكي تستحق صفة المعاصرة أو الحداثة،لابد أن تخضع لقدر من العلمنة والعولمة، وهما عمليتان أو سيرورتان متكاملتان يخدمان بعضهما بلا تناقضات.وفي كتاب(أوليفية روا) المتميز:عولمة الإسلام(بيروت،دار الساقي،2003)ينتقد الرأي السائد القائل بصلابة الهوية الإسلاموية ،فهي قد تعرضت لعملية علمنة كاسحة،اختصرها في أثر الغرب والعمولة والفردانية.والنخبة الدينية السودانية تعلمت وعاشت في الغرب،بل حمل بعضهم جوازات سفر دولة.وتمارس هذه النخبة علاقة فرويدية بامتياز مع الغرب أي حب/كراهية في نفس الوقت.ففي العلن تسب الغرب وتشيطنه،ولكنها تستبطن قيمه وتنبهر بمنجزاته. يروي(عبدالرحيم عمر محيي الدين)علي لسان أحد الإسلامويين القياديين:- ” قبل الهجرة الي بريطانيا كنت ترس في ماكينة الحركة الإسلامية بطريقة آلية نؤمر وننفذ لم تكن لنا كينونة ولا ذاتية ولا قدرا من الاستقلالية،فترة بريطانيا جعلتني انعتق،وخلقت عندي قدرا من الاستقلالية(…)بريطانيا تعني بالنسبة لي تحديد الاتجاه فكانت ثورة أو بركان او ثورة في حياتي”.(كتاب:الترابي والإنقاذ2009:540) ويكتمل الاعجاب والاغتراب الاسلاموي:-” اكتمل نضجي في امريكا(….)امريكا لم تخذلني وقد شعرت بالفارق الضخم بينها وبين بريطانيا ثقافة وسياسة ودينا وفكرا وحيوية وديناميكية تصيب الإنسان،لذلك تلاحظ كل من يزور أمريكا لمدة أو سنتين تلاحظ عليه بعض التغيير.”(ص6-547).ولك أيها القارئ أن تحسب كم من الإسلامويين زار أمريكا أكثر من سنة لتقيس درجة التغيير!وبالطبع المعيار الحقيقي لأثر العلمنة في الإسلامويين يظهر في نمط الحياة الاستهلاكي والترفي والتفاخري الذين يعيشونه حاليا منذ استيلائهم علي السلطة.فهم لا ينسون ابدا نصيبهم من الدنيا وبزيادة.وهذا أهم إنفصام في شخصية الإسلامويين السودانيين:يفكرون دينيا إسلاميا ويعيشون علمانيا وعولميا.وهذا السبب الحقيقي للجؤ للكذب والتبريرات فهي محاولات لردم الفجوة بين التفكير والسلوك. من أجل اثبات الأنسنة في تاريخ الدولة الإسلامية،يستنجد(الخطيب)بكتب الأدب وليس بمراجع الفقه والسيرة.يقول:-”كتب الأغاني والعقد الفريد والبيان والتبيين هي تتحدث عن أحوال الناس وفي دواوين الشعراء تجد مجتمع طريقة الحكم فيه لبرالية لحد كبير جداً وليس فقط بسبب عدم مقدرة الدولة في أن تطال الناس الذين يلجأون الى الأصقاع البعيدة ولكن داخل بغداد والحواضر وداخل المدينةالمنورة حتى في أيام الرسول (ص) أنا ما أتخيل أبدا أن الحياة الاجتماعية كانت بالصورة التي يريدها بعض الإسلاميين الآن وكان هناك تسامح وحرية تعبير على وجه الخصوص ولم يفكر أحد في حظر (الف ليلة وليلة ) وكان الناس يتغنون بأشعار الحسن بن هاني وابو تمام ولم يكن في ذلك المجتمع شكل من أشكال الاستبداد يمكن أن يشار إليه كنموذج”.ولكن هذا المجتمع الذي يصفه بالليبرالية،تعتبر عناصره المكونة من”حثالة” المجتمع.فالشخصيات التي تذكرها هذه الكتب،هم:من الخلعاء،والجواري،والمخنثين،وبقايا الاعاجم والرقيق أن من الهامشيين والمنبوذين.وهؤلاء المهمشون لايستدل بهم علي انفتاح المجتمع الإسلامي،بل العكس علي طبقية المجمتع.وليس صحيحا غياب الاستبداد،بل في هذا طمس للحقيقة.فقد توقفت الشوري منذ الخلافة الراشدة،كما أن كتب التاريخ حاشدة بقصص الرؤوس المعلقة علي أبواب الجوامع.وقد ظل الاستبداد هو النمط الغالب علي السلطة الإسلامية،ومن السهل تتبع وتوثيق ذلك،ليس في كتابات الجابري أو خليل عبدالكريم بل في تاريخ الخلفاء للسيوطي.ونجد كثيرا من مثل هذه القصص عن الخلفاء.وروى عن الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك:-” ولما قتل وقطع رأسه وجئ به يزيد الناقص نصبه علي رمح،فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد،فقال:بُعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر،ماجنا ،فاسقا،ولقد راودني عن نفسي”.(دار القلم،1986:285). يشير(الخطيب) الي أن الدولة الحديثة تحتكر وسائل العنف، و”هذا هو التغيير الأساسي الذي حدث.. بمعنى أن السلاح الآن يحتاج لترخيص بينما في السابق كل شخص له سيفه”.وهذا تبسيط مخل لتعريف الدولة الحديثة،فقد حظيت بشرعية احتكار العنف،وهذه الشرعية هي جوهر الدولة الحديثة.كما أن العنف ليس ماديا(السيف)فالقانون والسجن والإعلام والتعليم والدين كلها وسائل عنف للدولة. أما مساهمة(غازي صلاح الدين)فهي نص صريح في العلمانية بامتياز،حين يقول:-” .. واخيراً اريد أن اوضح من الضروري الاشارة إلى البعد الإنساني في الدولة الإسلامية والتي اسماه بعض الناس بالأنسنة وهذه مسألة مهمة جداً لأننا كما قلت المسلمين في عصر معين قد يسرقوا وقد يعتقلوا بصورة مختلفة جداً عن المسلمين في عصر ثان ومن الممكن جداً أن تؤتى التجربة من قبل الإنسان وليس من قبل النصوص ومن قبل الهياكل التنظيمية واحسن دليل على ذلك التجربة الماركسية وحقيقة قامت على فكرة تدفع بقضية العدالة بصورة ممتازة جداً ومنهجية وقدمت نموذج دولة مثالي. ومثلما كان يقول الناس إن دستور الاتحاد السوفيتي هو دستور مثالي واحسن دستور مكتوب ولكن التجربة في النهاية اخفقت من باب البشر وليس من باب النظر. وقد يقول الناس انها سقطت بالنظر ايضاً. ويقال إن اضعف ما بالماركسية انها لم تدرك الطبيعة البشرية وعجزت عن التعامل معها، فالطبيعة البشرية تحتاج لخيارات وعندما لا تعطيها خيارات تثور عليك والتجربة الغربية هي حقيقة تجربة خيارات… والجانب الانساني مهم جداً جداً وهو الذي يمنح (الصك) في النهاية للتجربة ناجحة ام غير ناجحة(…..) ومجموع مجتمع المسلمين وحتى لا ينفرد الاخوان المسلمون أو السلفيون أو اية جماعة اسلامية بحق التفسير الديني للنصوص وهي نقطة مركزية في الانتقادات الموجهة للاسلاميين ويجب أن ينتبهوا لها”. الأنسنة هي في حقيقتهاعملية العلمنة اليومية وهذه تختلف بالضرورة عن العلمانية في شكل الايديولوجيا أو نظام الحكم.واتفق مع الرأي القائل: قد تكون العلمانية (الايديولوجيا وليس عملية العلمنة الاجتماعية)لا تجد سندا شعبيا في التداول لأن دعاتها لم يدافعوا عنها ويقدمونها بطريقة مقنعة وسهلة للجماهير.وفي نفس الوقت نجح اعداؤها من الإسلامويين في تشويهها وشيطنتها وسط الناس العاديين بل حتي المتعلمين.ولكن العلمنة تعمل يوميا في حياتنا،بدءا من الاندماج في الاقتصاد العالمي، والمشاركة في المنظمات الدولية والحديث عن حقوق الانسان ومناقشة سيداو.ويشمل ذلك هذه الجلسة أمام اللاب وحتي الفرجة علي التلفزيون والامساك بالموبايل وطبخنا علي( تيفال) ولبس الجينز.كل هذه التفاصيل ليست لها ادني صلة بالدين ولا التراث ولا الأصل بل هي حياة قد تكون “مدنسة” ولكن يعيشها المسلمون ويندمجون فيها مثل غيرهم من البشر إن لم يكن أكثر. ويختم(غازي) علمانيته، واتركه يتحدث بلا تعليق:-” حقيقة أنا افضل أن الناس إذا أرادوا استخدام الدولة الإسلامية اصطلاحاً لا بأس، ولكن هي دولة المسلمين الذين تواضعوا في ذلك العهد المعين على أنها دولتهم وهذا يمنحنا مرونة كبيرة جداً للتفكير ويمنع الاحتكاك الذي يحصل في المصطلحات. لأنني ألاحظ الاحتكاك الذي يحدث بين الإسلاميين وغير الإسلاميين وحتى في حوش الإسلاميين أنفسهم يحدث حول مصطلحات أكثر من مضامين ولذلك افتكر أن هذه مسألة مهمة جداً(…). (رسالية) حقيقية في الإصطلاح اخذت بعدا مزعجا (شوية) لأنها ارتبطت عند الناس بالتطرف أو بمحاولة فرض الإسلام بالقوة أو بتصدير الثورة وغيرها ولكن هي كلمة لا عيب في مبدئها وأنا لا أرى مانعاً بين أن تكون الدولة وظيفية بمعناها الميكانيكي وأن تكون رسالية في نفس الوقت، والإشكالية هذه تحتاج لمعالجة اصطلاحية والأنسب أن نسميها دولة (تعاقدية) والتعاقدية تعطينا مرونة عالية جداً، لأن العقد شريعة المتعاقدين”. ولكن لابد ان نقدم – بقصد المقارنة- ما يراه أصحابه الفهم الاصولي والصادق –بدون مناورات وسفسطة- لرسالية الدولة.نقرأ في لحزب التحرير:مقدمة مشروع دستور الدولة الاسلامية ”ايها المسلمون لعل الله قد كتب لنا أن يكون بلدنا هذا نقطة ارتكاز لاعادة الدولة الاسلامية كما كانت دولة واحدة لجميع المسلمين ،وكتب لنا أن ننال فخر الاجيال وشرف اعلاء كلمة الله ،فقد آن الاوآن لظهور الاسلام مرة اخري فكريا سياسيا حضاريا ناهضا لانقاذ العالم مما تردي فيه من كفر وضلال،والله غالب علي امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون”. واخيرا،تساءل رئيس تحرير صحيفة (ايلاف) الاقتصادية د. خالد التجاني عن: لماذا الواقع مخالف بدرجة كبيرة للمثال في واقع تطبيق مشروع الحركات الإسلامية؟ وقال إن التاريخ الاسلامي ليس مضيئا خاصة في ادارة الدولة لأنها ارتبطت بكثير من الاستبداد وقال إن واقع الحركات الإسلامية انها حركات ماضوية وقال إن الإسلام دين انساني يطبقه بشر وطالب بضرورة أنسنة الخطاب الإسلامي. اشارك الأخ خالد التيجاني التساؤل شريطة أن يسحبه الاسلاموين في حالة الرغبة في حوار جاد ومراجعة موضوعية علي مجمل التاريخ الإسلامي منذ عهد الخلافة الراشدة.ويكون السؤال:لماذا فشل المسلمون خلال كل هذه العصور المختلفة عن تطبيق هذه المبادئ والنظريات الرائعة التي قال بها الإسلام؟ لأن النقاش والاختلاف في حقيقته ليس حول ماذا قال الإسلام ولكن ماذا فعل المسلمون؟ (نواصل)