نبيل على صالح إن “العلمنة المؤمنة" كفكرة وكمناخ فكري وسياسي يمكن أن تحظى بمقبولية ورضى في بيئتنا الثقافية والتاريخية الإسلامية.. وما نقصده من هذه الفكرة هو الفصل بين الدين كحالة في الفكر والإحساس والممارسة والكمال الروحي، وبين متدينيه.. أي إحداث نوع من التمايز العملي بين الدين من جهة وبين رجالاته من جهة ثانية، ولا نعني به مطلقاً فصل الدين عن الحياة والواقع، أو منع علماء الدين من ممارسة دورهم وواجبهم في بناء أوطانهم من موقعهم كمواطنين وأفراد فاعلين في بلدانهم. والقصد من ذلك هو جعل عمل الدولة العاملة على خدمة الفرد، والمشتغلة في اللحظي والآني والنسبوي، بمنأى عن التأثير المباشر لآراء وأفكار رجال الدين ممن يدّعون امتلاك سلطة روحية على الناس، وينصّبون أنفسهم ممثلين للطائفة أو المذهب أو الدين ككل، زاعمين أنفسهم كمرجعية وحيدة لفهم هذا الدين أو ذاك المذهب ووعيه وتفسيره. وهذا الفهم للعلمنة (العلمنة المؤمنة) سيفضي بالضرورة –كما نخمّن- إلى منع تحويل الدولة إلى دولة شمولية دينية تتماثل وتتماهي مع نظيرتها الدولة الشمولية غير الدينية التي هيمنت علينا على مدار عقود طويلة في عالمنا العربي، حيث كانت تقدس الزعيم السياسي أو غير السياسي وتضعه في موقع القلب من فكر وحركة الدولة التي يجب أن تدور وتلف كلها حوله، والتي تجبر الناس على الخضوع له، واتباع آرائه وأفكاره بدعوى أنها من الدين. من هنا ضرورة عدم زج الدين في الصراعات السياسية اللحظوية للدولة، وجعله بعيداً عن الأهواء واللعب والحيل السياسية، وإبقاءه –كما هو- مرجعية معنى حضارية عمومية للناس والأمة ككل، تمتلك القوة والزخم المعنوي الكبير للعمل والبناء والتحفيز الذاتي.. بما يحقق مصالح الناس ومقاصدهم العامة.. والإسلام كدين إنساني، لاشك أن له تشريعات مدنية تضع القوانين وتنظم أمور الناس على أساس من مصلحتهم وكرامتهم وسعادتهم وتأمين مستقبل زاهر لهم، لا فرق بين أديانهم ولغاتهم وعناصرهم.. وهذه هي التطبيقات الأولية لفكرة العلمنة المؤمنة. وتزداد الحاجة في اجتماعنا الديني الإسلامي لهذه الفكرة انطلاقاً من وجود خلفية نفسية سلبية لدى مجتمعاتنا تجاه مصطلح العلمنة كما هو مفهوم وسائد عندنا من حيث أنه يعني بالأساس “فصل الدين (أي الإسلام) عن الدولة"، وهو المعنى المرفوض عند غالبية المسلمين الذين يفهمون ذلك القول الملتبس باعتباره دعوة للإلحاد. وربما يكون لهذا المناخ السلبي القائم عن هذه الفكرة أو المصطلح ما يبرره، وهذا طبيعي فذلك المعنى نتج من تجربة أوروبا مع سلطة الكنيسة الروحية على الناس في القرون الوسطى، وهي التجربة التي لم يعشها المسلمون الذين يُفترض أن دينهم ليس فيه “رجال دين" يمارسون سلطة أخلاقية على الناس ويفرضون ذواتهم واسطة ضرورية بين المرء وربه. وبتعبير آخر فإن العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة ظهرت في أوروبا كثورة على تسلط رجال الدين، وليس لها أن تكون مقبولة عندنا حيث لا نحتاج ثورة على “رجال دين" يُفترض أن لا يكون لهم وجود، وإذا كان فإن سلطتهم غير مسلّم بها ولا داعي، من ثم، للثورة عليهم. ولا شك بأن لفكرة العلمنة المؤمنة قواعد وأسس وركائز في الوعي الديني الإسلامي، ولهذا فمن الممكن جداً أن تعطي للإسلاميين وجماهيرهم الواسعة، قوة الدفع والطاقة اللازمة لعملهم ونجاح حكمها السياسي (الديمقراطي التعددي التداولي) في داخل الاجتماع الديني والسياسي العربي الإسلامي خاصة بعد هذا النجاح الكبير الذي حققوه ويحققوه من خلال الانتخابات البرلمانية بعد أن نجحت الجماهير في كسر شوكة الحكام وتحطيم الاستبداد السياسي في ثلاثة بلدان عربية (والبقية على الطريق حتماً)، حيث أن الناس والمجتمعات التي رفضت عقائد وأيديولوجيات القومية والعلمنة المستبدة، ولم تنفتح على تجاربها في الحكم والإدارة، ولم تشارك بجدية مؤثرة في خطط التنمية التي طبقتها نخب الحكم السابق بقسوة وعنف وفوقية، نظراً لتعارضها مع النسيج التاريخي والتجربة الدينية للناس، وما يؤمنون به من أفكار وقناعات قائمة على أساس أن الدين الإسلامي هو منطلق العمل وقاعدة التفكير على مستوى الذات والموضوع، أي على المستوى الشخصي والعام والدولة باعتباره “دين ودولة"، وليس مجرد أطروحة معنوية وكمال نفسي ومسلك شخصي وخلاص فردي.. فما هو المقصد من مصطلح “العلمنة المؤمنة"؟ وهل هي بالفعل بديل “نفسي" وعملاني صالح وصحيح عند العرب والمسلمين، على عكس الطروحات السابقة التي رفضوها وواجهوها بل وحاربوها، باعتبار أنهم لا يزالون يشعرون بحساسية مضادة تجاه مصطلح العلمنة الوارد والمستورد من الغرب كما يزعمون؟! بداية لابد من الإقرار بأن النزعات السلطوية التي قامت وتقوم في عالمنا العربي والإسلامي ليست ظاهرة جديدة، إذ أنه ومنذ فجر الخلافة الإسلامية تحول الدين –على أيدي بعض الساسة والفقهاء والزعامات التاريخية المعروفة- إلى “ملك عضوض" وراثي، ارتكز على قاعدة القهر والغلبة والتسلط على العباد والبلاد، وكان معاوية بن أبي سفيان رائد هذا الخط السياسي والديني المنحرف في هذا المجال، حيث أنه عمد إلى سن قانون أو سنة تاريخية لا يزال يعمل بها حتى الآن وهي توريث الحكم السياسي وقيادة الأمة لأولاده من نسله.. وهذا ما شهدناه في بعض دولنا العربية المعاصرة، في ظل غياب تام وكامل لأي حراك أو دور أو فعالية أو مشاركة للناس والمجتمعات في اختيار حكامهم وطبيعة النظام السياسي الذي يؤمنون به لحكمهم ونظم أمورهم المختلفة، أي في ظل غياب للمشاركة الواعية المبنية على رغبة وقناعة ورضى الناس بالنظم السياسية التي تقوم بأمر الحكم وإدارة الشؤون العامة وتدبير مصالح الناس.. وهذه الحالة النفسية الإيجابية والعلاقة الحميمية الكائنة بين الناس وبين تاريخهم وتراثهم الفكري لا بد من تقديرها وأخذها بعين الاعتبار في أي مشروع للحكم الصالح في بلداننا العربية والإسلامية، وقد كان لعدم احترامها أو إهمالها وحتى محاربتها من قبل نظم الحكم القومية المستبدة السابقة من أهم أسباب ضياع وتفتت وانقسام وتخلف هذه الأمة، فلم تتمكن تلك النظم –التي ما زال بعضها يمارس الحكم البائس في نهاياته غير السعيدة!- من تحقيق أي تطور حقيقي لمجتمعاتها، بل وفشلت حتى في تحقيق أهدافها هي قبل أهداف وتطلعات الشارع الذي حكمته، فلا هي حققت وحدة العرب وأعادت ما سمي بأمجاد العرب التليدة، ولا هي أعطت الحرية لمواطنيها بل أنتجت أسوأ أنواع القمع والاستبداد والدولة الأمنية التسلطية، ولا هي حققت عدالة اجتماعية بل كرست الفساد والدمار الاقتصادي وحكم المافيات والتشبيح الاقتصادي الطفيلي التي أفضت إلى نقل الثروات وتهريب الأموال إلى بنوك أعدائها الذين تدعي ممانعتهم ومحاربتهم.. وبتعبير آخر كان للفشل الذريع الذي لحق بمجمل الأيديولوجيا الحداثية القومية والاشتراكية الجوفاء في بناء الدول وتنمية مجتمعاتها، وفقدانها لأية مصداقية عملية بعد أن ذاق الناس مرارة حكمها فرفضوها ولم يتعاملوا معها بسبب ديكتاتوريتها وفساد نخبها والتناقض البائن الصارخ بين فكرها النظري وواقعها الممارس، كان لذلك الأمر الأثر البالغ في استمرار الحالة التقهقرية الارتكاسية العامة التي أصابت هذه الأمة، حيث يكفينا نظرة فكرية بسيطة لنرى هذه الحالة المزرية والميؤوس منها التي وصلت إليها تلك الأحزاب والتيارات الممثلة للأفكار القومية واليسارية كحزب البعث وأحزاب اليسار وغيرها ممن يرتبط معها هنا وهناك.. إذاً، حجر الأساس ولب الموضوع هنا هو ضرورة النظر إلى حجم المشكلة على الأرض، حيث أنه لا بديل عن إصلاح الحاضر العربي حتى ولو نجحت فيه ثورات الإصلاح العربي الراهنة، لأنه نجاح جزئي يحتاج لعملية نقدية للجوهر الفكري.. ولكن بدوره الحاضر العربي لن ينصلح من دون إصلاح الماضي المسيطر علينا حالياً وربما مستقبلاً، خصوصاً بعد هذا الصعود السياسي للتيارات الإسلامية التي تريد الجماهير العربية إعادتها للساحة بعد فشل تجارب الحكم السابق كما ذكرنا، وبعد خلو الساحة تقريباً إلا من هذه الأحزاب الإسلامية التي تخاطب تاريخ وهوية ومشاعر الناس الدينية المغروسة في عمق وعيهم والتزاماتهم الفكرية، وتلامس قناعاتهم وعقائدهم الإيمانية.. ويبدو أن هذه الجماهير ستعطي الآن فرصة العمل السياسي لهذه التيارات انطلاقاً من صناديق الاقتراع، وستحكم تلك التيارات ساحتنا السياسية والاجتماعية لفترة، والناس هي التي ستقرر مستقبلها صعوداً أم هبوطاً، وسنرى لاحقاً مدى قناعة وإيمان تلك الأحزاب الدينية بفكرة الديمقراطية التي جاءت بها إلى سدة الحكم.. وبالطبع نحن نتمنى لتلك التيارات كل النجاح في تجربتها السياسية الأولى التي تثبت من خلالها أنها الأكثر قوة وتجذراً بين الفئات والطبقات الشعبية، ونعتقد أن استمرارية نجاحها –بعد سنوات القمع والعنف والإقصاء والتهميش الذي لحق بها وبقيادتها في الداخل والخارج- يكمن في مدى تحقيقها للدولة العادلة الخادمة لمجتمعاتها وجماهيرها كافة، وأن يكون نجاحها قائماً من خلال الأرقام والوقائع والإحصائيات والحسابات الحقيقية.. وليس بالكلام الأيديولوجي الفارغ عن خدمة الناس والتغني بشعارات الماضي والعظيم.. فهذا كلام لم يعد ينفع، في عالم صغير جداً يرى الناس فيه كل الدول والمجتمعات المتقدمة، ويقارنون وضعهم بوضع تلك الدول، وبالتالي سيسألون دوماً عن أسباب تخلفهم، وعدم تحقيق حكوماتهم لمتطلبات التنمية والتطور. طبعاً لن يتمكن هؤلاء القادمين الجدد إلى سدة الحكم السياسي العربي من الحكم بقناعات وأفكار الماضي.. مع أن الزمن والتاريخ الماضي -الذي هو مستودع العناصر الروحية والمادية لأية أمة- سيبقى حاضراً وفاعلاً بقوة في عالمنا العربي والإسلامي، وبخاصة في جوانبه الدينية. من هنا، لا بد من العودة لهذا التراث الكبير بحجمه المادي والروحي، وإعادة درسه والتنقيب فيه وقراءاته في ضوء تجاربنا وتطوراتنا الراهنة عربياً وكونياً. وهذه العودة لا تعني أن ننساق وراء القديم وهي لا تعني مطلقاً أن نستعيد التاريخ المنقضي تكرارياً واجترارياً كما نقول دائماً، وإنما هي عودة نقدية لواؤها العقل والتفكير الحر “ما حكم به العقل، حكم به الشرع"، ومصباحها الواقع والتطورات الكبيرة الهائلة في الزمان والمكان. أي أنها عودة عقلانية صرفة تعني رؤية التراث الماضي، في ما هو، وفي جميع أحواله، لكي نعرف كيف ننفصل لنغادر ونفارق، وكيف نتصل لنتفاعل ونتعاون. ولعل اشتداد أزمات العرب حالياً –خاصة بعد نجاح هذه الثورات أو الانتفاضات في بعض البلدان، والسعي لإقامة نظم حديثة مغايرة للنظم المتكلسة السابقة- وزيادة وطأتها وقسوتها على مجتمعاتنا اليوم قد ساهم بفعالية كبيرة في إعادة طرح أسئلة الإصلاح والتغيير والحرية والحوار، وأن “إصلاح الحال-إصلاح الذات الدينية والمعرفية الثقافية" هو المدخل الضروري والقاعدة الأساسية والأصل لإصلاح الفرع. لأن صلاح البدن من صلاح النفس و"الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وما نشهده في لحظتنا الراهنة من انقسامات وتفرق وتشتت وتوترات فكرية وعملية –ومنها على سبيل المثال مرض التعصب والتطرف الديني الأعمى- يعود أساساً لجذور معرفية لاهوتية عقائدية، قبل أن يكون لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها. المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org * كاتب سوري