قبيل دخول قوات الدكتور خليل ابراهيم الى امدرمان ،كان الإعلام الرسمى يتحدث عن انتواء الأول دخول الخرطوم فاتحا . وبعد تلك الحادثه المثيره للخيال ، جرت محاولات عديدة لاستكناه دوافع تراخى االحكومة أو الحزب الحاكم عن التصدى لهذه القوات المغيرة قبل وصولها مشارف المدينة. ولعل المحاولات التحليلية أنصبت في مجملها على المفهوم الكلاسيكي لسياسة التهديد والحماية ، كالتى تنتهجها الولاياتالمتحدةالأمريكية في دول الخليج العربي. وذلك باستدراج العدو المفترض الي المناطق الحساسة ، ثم التصدي لها في مشهد لا يترك للمدنيين مجالا سوى التعاطف مع من يبدون مدافعين عنهم وحامين لهم من عسف القوات المغيرة. أذكر أنني كنت في ذالك اليوم ، من صيف 2009 في مدينة بحري . وقبل فراغي من عملي أعلنت حالة الطوارئ ، فهرعت إلي مدينة امدرمان حيث أسكن ولكن الجسر المؤدي الي امدرمان كان مغلقا ، والسيارات متكدسة علي جنبتى الجسر ، ورنين الهواتف يزحم الآفاق ، في محاولات نجح بعضهم بالاتصال بذويهم وأحبائهم للاطمئنان على بعضهم البعض .. وأنا في حيرتى تلك ، أتصل بى صديقي كمال جرجس ، وهو قبطى نصرانى يسكن قريبا من الجسر المغلق ، يسالنى عما يجرى ، ظنّا منه أن اهتمامى بالشأن العام يجعلنى قادرا على تفسير ما يجري . وعندما عرف أنني عالق على مدخل الجسر ، وغير قادر على دخول امدرمان ، عرض علىّ قضاء الليلة معه حتى ينجلي الموقف. فآويت إليه ، فأطعمني من جوع و آمنني من خوف .. و في تلك الليلة ، أفلح زوج أختي في الاتصال بي ليطمئن أنني في مكان آمن ، بعيدا عن مدى النيران المحتملة ، فمازحته كعادتي في الدخول معه في مناكفات محمودة ، وهو الإسلامي المعتدل ، فسالته : ما حكم النصراني الذي يجير مسلما تعرضت حياته للخطر جرّاء تبادل ، إخوانه في الدين ، النيران القاتلة؟؟ وتلك هي القضية الأولى التي حضرت في عنوان هذا المقال.. و في حقيقة الأمر، لمّا آلت الخلافة إلي إبي بكر الصدّيق، بدأت الخلافات تطلّ برأسها حول الطريقة التي تنتقل بها السلطة بين المسلمين ، والمدة التي تفصل بين الانتقال والانتقال . ولكن شخصية أبي بكرالصدّيق و حليفه الأكبر عمر بن الخطاب ، طغتا على هذه الخلافات بتجسيدهما لقيم العدل والحق.. فلم يكن الشيخان إلّا قيمتان تمشيان بين الناس أناء الليل وأطراف النهار. فأستحالا بذلك معنى مغناطيسيا في قلب المتصل السياسي والاجتماعي ، تدوزنت على مساره وقع أقدام القرن السابع الميلادي في جزيرة العرب.. فقد كان الشيخان شديدى النزاهة و الإثرة . وهاتان صفتان مستلتان استلالا من ماضي الشيخين . إذ لم تكن الدعوة الإسلامية الجديدة إعادة لصياغة إنسان القرن السابع الميلادي بقدر ماكانت امتدادا لفضائل ومعاني كانت راسخة في سفوح متصلِه السياسي والاجتماعي ، وذات حضور محفوظ في اشعارهم . ولمّا تجسدت هذه المعاني والفضائل في شخصية الشيخين ، أحدثت تنغيما في وعورة الاختلاف الناجم عن اختلاف الرؤى حول كيفية إدارة شئون المجتمع ، وبالتالي تلطيف تلك الخلافات وجعلها محتملة. وهكذا ترجم لسان الحال تمكين و رسوخ الشيخين . إذن هكذا جاء التمكين بالفضائل و المعاني وليس بالقصور والمباني!! ولما غاب الصدّيق والفاروق ، أنفجرت الخلافات في وجه مجتمع القرن السابع الميلادي تعبيرا عن غياب فكرة تداول السلطة المقبولة و أيلولة الحكم و استمراريته. ولكن ما هو مفهوم الخلاف – أي خلاف – ؟؟ إنه – ببساطة – رؤى مختلفة لحدث غير مختلف.. بعبارة أخرى ، إنه رؤى عديدة لحدث واحد . ولما كانت هذه المعادلة البسيطة تحتوي على معطيين إثنين ، لم ينتج العقل البشري سوى طريقتين إثنتين للتعامل معها.. فأما الطريقة الثانية ، فهي إلغاء جميع الرؤى و استبقاء رؤية واحدة للتعامل مع الحدث الواحد ، تحتوي متصله السياسي والاجتماعي برمته . ولما كانت الرؤى لا تفنى ولا تستخلص من عدم ، ترسبت بذورها في سفوح المتصل السياسي والاجتماعي ، وما أن تغذت بالمعرفة المناسبة و واتتها الظروف ، بحثت عن موطئ قدم ، فإن لم تجده تمددت وأحدثت تشققا في متصلها السياسي والاجتماعي ، فتتفكك القاعدة وتنهار القمة وهو ما بات يعرف بتمزق النسيج الاجتماعي والسياسي . وهذه الطريقة الثانية هي التي تسود في دول العالم الثالث . و في حقيقة الأمر، لم تستأهل دول العالم الثالث هذا اللقب إلا لسيادة هذه الخصيصة على متصلها السياسي والاجتماعي. وأما الطريقة الأولى ، فهي اعتبار أن هذه الرؤى – أي الاختلاف – ليست سوى تصورات محتملة من تصاوير الحياة يمكن أن تكون صحيحة في لحظة ما وبالتالي تستأهل حضورا ممتدا على أفق المتصل السياسي والاجتماعي ، يلمع ويخبو بقدر قدرته على تلبية حاجات المجتمع المعني ، وهي الطريقة المتبعة في دول الغرب . إذن ما الديموقراطية إلا الحضور الممكن للرؤى الممكنة الانوجاد في أفق المجتمع المعني .. إذن، ليس هناك لغز!! فالأمر جد بسيط : حضور ممكن لرؤى محتملة يعني السلام ، وحضور صعب لرؤى محتملة يعني الحرب ، وكان الله يحب المحسنين .. وأما القضية الثانية التي حضرت في عنوان هذا المقال ، فهي ما يسمى بمشكلة دارفور. وهو توصيف غير صحيح ومضلل في آن .. وهو التوصيف الذي يصر عليه الحزب الحاكم ، وذلك لأنه يتهرب من رؤية الصورة الكلية ، لأنها تفرض عليه طرح رؤيته للأمر، وهي رؤية لا وجود لها كما أشرنا في مقال سابق. وفي حقيقة الأمر، ما مشكلة دارفور إلا الوجه الدارفوري لمشكلة السودان . تماما ، مثلما أن مشكلة الجنوب هي الوجه الجنوبي ، وكاجبار هي الوجه الكاجباري ، والمناصير هي الوجه المناصيري ، والفساد هو الوجه الفسادي ، وفتاة الديم هي الوجه الفتاة ديمي ، لمشكلة السودان .. فكل أولئك مرايا موضوعة في زوايا متعددة لتعكس صورة وجه واحد : مشكلة السودان ، وهي غياب فلسفة للحكم وإدارة شئون هذا المجتمع الواحد الكثير .. ومما يثير الدهشة إلى حد الصعقة ، أن هذا الأمر أصبح واضحا لكل إنسان بعدت أو قربت صلته بالسودان. فعلى سبيل المثال ، حينما طلبت الحكومة السودانية من اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة ثابو امبيكي ، أن تساعدها في حل مشكلة دار فور، عكفت هذه اللجنة على الأمر وقدمت تقريرها الذي نشرته معظم الصحف ، وضمنته مقترحاتها للحل. والجدير بالذكر، أن كل مقترحاتها صحيحة او في حكم الصحيحة ، وذلك لأنها توصلت للتوصيف الصحيح لما يسمى مشكلة دارفور .. حيث جاء في تقريرها الضافي ، أنها مشكلة السودان في دارفور وليست مشكلة دارفور في السودان!! وهنا أستشاطت الحكومة وحزبها الحاكم غضبا وأعلنت على لسان مسؤول ملف دارفور ، امين حسن عمر ، أنها لن تقبل لكل من هب ودب التدخل في شؤونها الداخلية !! وفي حقيقة الامر ظلت القضيتان موضوع هذا المقال ملازمتين للوطن السودان منذ ميلاده الحديث منتصف القرن الماضي . وجرت عدة محاولات لمعالجة هذا الشأن بعضها جاد وبعضها عبثي وأصابت نجاحا و إخفاقا بقدر جديتها وعبثيتها ، وذلك لأنها حاولت إصلاح الخلل في توزيع الثروة والسلطة دون معالجة الخلل في العقل الذي أنتجها.. تحدثنا عن هذا العقل السائد عموما والحاكم عموما في وقت سابق ، ولكن ما يهمنا هنا ، إن الثروة والسلطة ليست سوى الطرف الغليظ أو البارز للعقل السائد عموما والحاكم خصوصا ، الذي بدوره ليس سوى الطرف الرفيع أو الكامن للثروة و السلطة . إذن لإصلاح الخلل المريع في توزيع الثروة والسلطة ، يجب الاشتغال على ركائز العقل السائد عموما والحاكم خصوصا ، وذلك لإحداث الخلخلة المطلوبة في هذا العقل ، لترتخي قبضته على رقبة المتصل السياسي والاجتماعي ، فيتنفس الأخير الصعداء ، وتتنفس معه بذور رؤى الحياة المنسية ، وتطلق الفن والجمال من سفوحها كما تنطلق العطور من أكباد الزهور فتستحيل القمة شبيهة بقاعدتها ، فنورها من نورها ورائحتها من رائحتها فلا غربة ولا اغتراب!! ولما كانت ركائز العقل هي المنظومة المعرفية التي تتمحور حول المعتقد الذي بدوره يتمفصل حول هايتك الركائز، تكون خلخلتها بخلخلة المعتقد ، والمعتقد هو ما يقعد في العقل بصرف النظر عن صحته أو عدم صحته ، وكذلك بصرف النظر عن التزام مدعيه به أو عدم التزامهم به .. وما خلخلة المعتقد إلّا حشر مفهوم مغاير له يحمل ذات الصفات وذات الأسماء كمرحلة أولية لا يصح المضيئ قدما نحوالتعيير إلّا بها. إذن خلخلة المعتقد لا تتم إلّا بالمنازعة في مرجعيته . ولعله ذات السبب الذي جعلنا في مقال سابق ، وفي هذا المقال ، نقترح دخول الصادق المهدي في الحكومة حتى ينجز هذه المهمة بحرفة عالية ، وهي المنازعة الممتدة حول مرجعية المعتقد - إقرأ المرجعية الدينية هنا – وذلك بانتاج المفاهيم المغايرة إن لم نقل المضادة من ذات قماشة المعتقد . ومن هنا تنطلق الهزّات الارتجاجية في رحلتها السرمدية من سفوح العقل السائد عموما والحاكم خصوصا إلى كافة تجلياته في رؤى الحياة . وتجرف في طريقها ما درج البعض على تسميته ثوابت ، حتى تصل هذه الموجات المحتشدة إلى الطرف الغليظ أو البارز الذي وردت الإشارة إليه وهوالثروة والسلطة .. وبذلك يتهيأ الفضاء الوطني لميلاد بيئة التفكير الجديدة أو ما يعرف بالنيو ميلو..