تحدثنا في المقال الماضي حول أهم ملامح القرار الذي أجازه مجلس السلم والأمن الأفريقي في 24 أبريل، وهي خارطة الطريق من سبعة أعمدة، والجدول الزمني بتواقيت ليومين وأسبوع وأسبوعين وثلاثة أشهر، ثم التقرير الشهري والإحالة لمجلس الأمن. وحالما صدر القرار عكفت عليه الولاياتالمتحدة وخلال ال48 ساعة المضروبة لاستجابة الطرفين قدمت مندوبة أمريكا في مجلس الأمن السفيرة سوزان رايس مشروع قرار لحل النزاع بين السودانين. التزم المشروع الأمريكي بما ورد في القرار الأفريقي التزاما شبه مطلق حتى من ناحية التوقيتات: 48 ساعة للتعبير عن الالتزام، أسبوع لتفعيل آليات أمن الحدود، أسبوعين لاستئناف التفاوض، ثلاثة أشهر لنهايته، مع إضافة شهر رابع يقدم فيه فريق التنفيذ الأفريقي تقريره للأمين العام للأمم المتحدة ويعكف الأخير على متابعة الأمر وتقديم تقريره لمجلس الأمن. ومن ناحية موضوعية أضاف مشروع القرار نقاطا من قبيل التشديد، أهمهما ربما اثنتان: تغيير صيغة القرار الأفريقي الذي طالب بموافقة الخرطوم على المقترح الثلاثي بالسماح لوصول الإغاثات لمحتاجيها في جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى النص أن مجلس الأمن (يقرر ان يقبل السودان بالمقترح الثلاثي) (الفقرة 4 من مشروع القرار). والتغيير المهم الثاني هو إضافة الفقرة 9 ونصها أن مجلس الأمن (يعبر عن عزمه في استعراض امتثال السودان وجنوب السودان مع المقررات المتضمنة في هذا القرار ويعرب عن تصميمه ، في حالة عدم امتثال احد الطرفين او كلاهما، اتخاذ مزيد من الإجراءات الاضافية بموجب المادة 41 من الميثاق.) وهي المادة الواردة في الفصل السابع، والمعنية بالعقوبات في ميثاق الأممالمتحدة. استجابة كل من الخرطوموجوبا لهذا المشروع تظهر بجلاء أن الأولى اعتبرته ضدها، والثانية اعتبرته في صالحها. وفي المسافة من تقديم مشروع القرار في يوم 26 أبريل وحتى إجازته في 2 مايو حدثت تدخلات على المشروع يبدو أن الجانب الروسي لعب فيها دورا هاما، وأدخلت فقرات في القرار النهائي بحيث صارت “المديدة” ساخنة على الطرفين معا، وفي النهاية خففت الخرطوم من حدة رفضها الرسمي لتدخل مجلس الأمن لدى تقديم المشروع، حتى قال بعض المتنفذين في وزارة الخارجية إن قرار مجلس الأمن أفضل من القرار الأفريقي الذي رحبوا به منذ البداية، شارحا بأن قرار مجلس الأمن يعطي الأولوية للملفات الأمنية، وهي الملفات التي تراها الخرطوم البداية الوحيدة المقبولة لأي تفاوض. وبرأينا أن القرار لا يضيف ما يبعث على الاطمئنان فهو فقط وجه سياطا على جوبا مثلما كانت على الخرطوم، وصحيح إنه خفف من القوة المستحقة للفقرة حول الاستجابة للمقترح الثلاثي، إلا أن هذا التخفيف يزيد من أوار إنزعاج الرأي العام العالمي مما يعانيه المدنيون في مناطق النزاع ويلهب ظهر الخرطوم بسياط معنوية أشد. الاستجابة الأولى للخرطوم لمشروع القرار الأمريكي كان بالاعتراض على بعض النقاط. وفي 27 أبريل قدم مندوب السودان الدائم لدي الأممالمتحدة السفير دفع الحاج علي عثمان خطابا رسميا تضمن عددا من التعديلات، إذ اعترض على الجدول الزماني باعتبار أنه (قصير للغاية وغير عملي، وبالتالي هناك حاجة لتمديد الإطار الزمني.) وطالبت الرسالة بتغيير الفقرة الرابعة من مشروع القرار حول المقترح الثلاثي من “يقرر” الي “يدعو”. وطالبت الرسالة كذلك بإلغاء الفقرة التاسعة الملوحة باتخاذ تدابير وفق المادة 41 من ميثاق الأممالمتحدة، وذلك لأنها (تحمل تهديدات واضحة للحكومة السودانية في حالة عدم قبولها بتنفيذ القرار حال صدوره) بحسب ما جاء في الأخبار. في المقابل يبدو أن جوبا كانت أكثر سعادة بمشروع القرار، ففي 29 أبريل رفعت مندوبة جنوب السودان لدى مجلس الأمن الدولي، السفيرة أقنيس أدليون أوريفا خطابا إلى رئيس مجلس الأمن الدولي بشأن المشروع وقالت إنهم (شاكرون) للمشروع ويجدون العديد من نصوصه متسقة مع ما اقترحته حكومة جنوب السودان للأمم المتحدة ولمجلس السلم والأمن الأفريقي مؤخرا وانعكس في بيانه بتاريخ 24 أبريل، وطالبت بتقوية القرار وضبط نصوصه عبر العديد من المقترحات، منها إضافة للفقرة رقم 11 من الديباجة بضرورة الإشارة ضمن الحديث عن حل سياسي ومتفاوض عليه أنه “يتضمن كل الأحزاب السودانية المعنية”، مشيرة للدور الذي يمكن لجنوب السودان أن يلعبه في الوصول لحل متفاوض عليه فيما يخص المنطقتين (جنوبي كردفان والنيل الأزرق). وفيما يخص الفقرة الثانية التي تنص على استئناف المفاوضات تحت رعاية فريق الاتحاد الأفريقي التنفيذي رفيع المستوى رحبت الرسالة بذلك مع إضافة (ومع مساندة رئيس الإيقاد) وهذا يعكس بالطبع مطالبة الجنوب المستمرة بضرورة توسيع فريق أمبيكي إيقاديا. وأشارت الرسالة إلى الفقرة الثامنة المتعلقة بأبيي ودور اليونيسفا (قوة الأممالمتحدة الأمنية المؤقتة الخاصة بأبيي) معبرة عن نية حكومتها إجراء تقييم لصلاحيات اليونيسفا متسائلة حول حول مدى مناسبة عدد قوات يونيسفا للقيام بالوظائف المقررة وإمكانية حفظ الأمن في كامل الحدود، منادية بالإسراع بإبرام اتفاقية طال انتظارها حول وضعية القوات مما سوف يسهل عمل اليونيسفا. هذا بالإضافة لملاحظات أخرى حول ضرورة الإشارة بالاسم للاتفاقية الإطارية المبرمة حول قضايا المواطنة وقضايا رعايا الدولة الأخرى والمسائل المتصلة بها، وكذلك الإشارة بالاسم لدى ذكر ملف الحدود للاتفاقية المبرمة في مارس 2012م. وإذا كنا ذكرنا هنا ما أضافه المشروع الأمريكي للقرار الأفريقي، وأشرنا لأهم ملاحظات الدولتين على لسان مندوبيهما، تتبقى لنا ملاحظة أهم التعديلات التي جرت على المشروع الأمريكي في القرار النهائي رقم 2046، أهم تلك التعديلات هي: إضافات للديباجة: رفض تغيير حدود الدول بالقوة- إدانة القصف الجوي الذي تقوم به القوات السودانية المسلحة (المشروع كان فيه ترحيب بوقف القصف الجوي) والمطالبة بالوقف الفوري للقصف الجوي، تخصيص المنشآت النفطية لدى الحديث عن إدانة تدمير البنية التحتية الاقتصادية. والدعوة لجهد نزيه لتقصي الحقائق لتقييم الخسائر والأضرار الاقتصادية والإنسانية، بما يتضمن خسائر المنشآت النفطية والبنية التحتية الرئيسية الأخرى في هجليج وحولها، تسمية الاتفاقية الإطارية حول مواطني الدولة الأخرى والقضايا ذات الصلة. تعديل صياغة الفقرة الرابعة الخاصة بالمقترح الثلاثي لتكون أن المجلس: (يحث بشدة كل من السودان والحركة الشعبية قطاع الشمال على قبول المقترح الثلاثي). هذا القرار صدر بالإجماع، وقد استغرب البعض ذلك بينما ولولت الخرطوم في البداية من المشروع الأمريكي وقالت: على جثتي، ولوحت بكروتها الروسية والصينية، ولكن الناظر للدور الذي قامت به روسيا فيما يبدو (لأن الصين محرجة من اتخاذ موقف صريح معاد لجنوب السودان ونفطها في جيبه) يجده مقتصرا بالأساس في صب سياط على الجنوب، مع انتصار بسيط كما رأينا في تغيير صياغة الفقرة الرابعة. وفي بيان مجلس الأمن الذي رافق القرار جاء أن ممثلة الولاياتالمتحدة حذرت من الحرب بين البلدين، وأن معظم المتحدثين عبروا عن تأييدهم القوي لفريق الاتحاد الأفريقي الذي يرأسه ثابو أمبيكي، و(في حين أن معظم المتحدثين وجهوا لوما للطرفين على قدم المساواة على أعمال العنف الاخيرة، إلا أن البعض نادى، بما في ذلك ممثل الاتحاد الروسي، بانتباه أكبر لاحتلال جنوب السودان لهجليج، حاثا على القيام بتقييم للضرر واتخاذ غير ذلك من الإجراءات) كما ورد في بيان المجلس الصادر في 2 مايو. كان القرار الأفريقي كما قلنا (خاطف لونين)، وكان المشروع الأمريكي يميل لكفة جنوب السودان بسياط مضافة على الخرطوم، بينما القرار النهائي أضاف سياطا على جوبا فصار الوضع بلغة الكرة (تعادل، درون). وليس هناك من داع للحديث عن نقاط لصالح هذا الطرف أو ذاك فقد صارا متعادلان في الإدانة والاستهداف بالعقوبات. هذا ليس وضعا للحديث عن نصر لدبلوماسية، ولا غبطة من إعادة الأهمية للقضايا الأمنية، إنه وضع لمسابقة الزمن للبحث عن حلول حقيقية تتمثل في وحدة وطنية جامعة تتناسى كل شيء إلا الوطن وتتجه للأخوة في الجنوب مذكرة إياهم بأيام خوال كنا فيها في خندق واحد، بل لا زلنا على ضفتي حدود واحدة يعيش أهلها متداخلين بشكل حيوي لا يمكن فصله، إذا استطاع الحاكمون أن يخرجوا من جبة (الوطني) إلى جبة (الوطن) ربما سابقنا المقصلة، وإلا، فالوطني سوف يجر الوطن لما كنا طويلا عنه نحيد، لا قدر الله لهذا الوطن الحبيب أن يفنى، لا قدر الله. وليبق ما بيننا