بوصول برنامج شيوخ الغفلة الذي أسموه “حضاري” لخواتيمه الفاجعة التي تتجلى آثارها في الدمار الذي شمل كافة مناحي الحياة، فاقتصاد الوطن في حالة يرثى له من الانهيار، والضائقة المعيشية والمالية وصلت حدّ إعلان وزير المالية أمام البرلمان جهرًا إفلاس الدولة، أما الأزمة السياسية فتنذرُ بتفكك الدولة وتشرذمها، بعدما سدّت سياسات النظام الخرقاء منافذ الحلول السلمية، وأجْبرت العديدَ من القوى المعارضة لحمل السلاح، وتجيش الجماهير في سبيل رفع المظالم التي تراكمت، وطلب الحقوق المهدرة المهضومة، وليست الأزمة الاجتماعية بأقل حدة من السابقتين؛ حيث نجد ظهور ونمو ظواهر وأمراض مجتمعية لم يعهدْها من قبل إنسان السودان المحافظ المتكافل، من انفلات أخلاقي تعبر عنه تفشي الرذيلة في المجتمع، وانتشار تعاطي المخدرات بأنواعها وسط شريحة الشباب من الجنسين في حرمات دور العلم من مدارس وجامعات، والتي غدت مخرجاتها من الفاقد التربوي والأخلاقي تفوق بمراحل مخرجاتها من الكوادر المهنية المؤهلة. فقد اجتاح إعصار الفشل كل الدروب، وادْلهم ليل الخطوب على البلد، وبات سؤال الوجود من العدم معلقا في فراغ الاحتمالات يتراقصُ في العقل الجمعي متأرجحًا كبندول الساعة بين فرضيتين: أن يكون الوطن أو لا يكون، أن يظل ما تبقى منه موحدا كما كان أو يتلاشى ويذوب، وذلك بفعل هوس شيوخ الغفلة وسياسات الأنبياء الكذبة الممعنة في الإقصاء والشوفينية التي أوصلت الوطن لقعر الهاوية، فقبض إنسانُ السودان الريحَ، وواجه الإخفاقَ ولمس بيده انعكاساتِ كل ذلك الدمار على وجدان الأمة، ووحدة التراب في المنعطف الأخير المفضي للنهايات البائسة المشرعة على احتمالين لا ثالث لهما؛ إما القضاء على الداء العضال في جسد الأمة بالبتر الثوري، أو انتظار “الغرغرينة” لتعيث فسادًا في الأرض وتقضي على ما تبقى من جسد قد أوهنته سنون “الإنقاذ” العجاف. فلم يعد الانتظار والصبر بعد كل الذي جرى يجدي، ولا التقاعس والخنوع منجي، فالكارثة إن لم يتم اليوم تداركها ومحاصرة آثارها بإيقاف تدحرج كرة اللهب، سيحترق الجميع بنارها، فكل أسرة وبيت؛ بل كل فرد قد أصبح في عين العاصفة، وليس أمام الشعب وطلائعه الثورية من سبيل سوى اقتحام أهوال الفعل الثوري للانعتاق من قيد نظامِ أدمنَ الفشلَ والكذبَ، وأضاعَ هيبةَ الدولةِ ووحدةَ البلاد، ومارسَ البغي والعدوانَ على العباد. فوجب بذلك شرعًا منافحته واجتثاث دابره حتى لا نبوءُ بذنبنا وذنبِ الأجيالِ القادمةِ . فواقع الوطن اليوم يفرض على جميع أهله ترك خلافاتهم الحزبية واختلافاتهم الفكرية جانبًا، والتوحد حول هدف واحدٍ ألا وهو إزالة النظام المستبد الفاسد، وإيقاف مد شره، ليتثنى المحافظة على ما تبقى من الوطن من التشرذم والانهيار، بالاتفاق والالتزام الجاد وبدون مناورات أو مماحكات سياسية رعناء على برنامج حد أدنى، ينجز الهدفَ الرئيس المتمثل في إسقاط النظام، ومحاسبةِ سدنته ورموزه، ومن ثمَّ الانطلاق قُدُمًا لمعالجة أزمات البلاد الشائكة، وترتيب الأولويات مع مراعاة الأهم فالمهم، ووضع المصالح الوطنية العليا دائمًا فوق كل اعتبار لتجاوز الكبوة والخروج من عنق الزجاجة. إن إيقاف الخلاف السياسي وتناطح البرامج الحزبية في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، وتخطي سؤال “البديل” الغبي الذي عطل مد الفعل الثوري، وأمد النظام المتهالك بزمن إضافي غير مستحق، على حساب معاناة الشعب وآلامه، يعتبرُ واجبًا مقدمًا، وأولية وطنية ملحة، وليكن المنطلقُ إلى هذا الإحساس النبيل شعورَ كل فرد من أبناء هذه الأمة بان “البديل” في وحدة العقل الجمعي للشعب، والتفافه حول برنامج ثوري يهدفُ لحل قضايا الوطن المصيرية، انطلاقًا من إيمانٍ عميقٍ بوحدة المصير المشترك لكافة مكونات المجتمع، ولا شك في أن محصلة تجاربنا الثورية والسياسية السابقة تعتبر دليلاً سياسيًا كافيًا لإنارة الطريق، ومنع تكرار الأخطاء التي أسهمت في إجهاض مشروع صيغة الهوية الوطنية، وبرامج التقدم والتنمية ونهضة الأمة. إن اللحظة التاريخية الراهنة تفرض علينا إعادة تعريف “الأنا الوطنية” كمنطلق لانتشال الأجيال القادمة من متاهة الهوية الوطنية الرمادية، التي أصابت الأمة السودانية بشلل الأطفال، وجعلت منها أمة كسيحة، تضرب في صحراء التيه بلا هدًى، مشروخة الإحساس بالعزة والكرامة، موزعة الانتماء بين عرب وزنج. ولإنجاز هذه المهمة المعقدة التي يتوقف عليها مصير ومستقبل الوطن، نحتاج لوضع سياسي انتقالي معافى، يشارك فيه الجميع بلا استثناء ولا يقصى أو يعزل منه أحدٌ، كما نحتاج لشحذ الفكر ونشر الوعي؛ لهدم جدران العزل المعنوي بين مكونات المجتمع، وتكسير الهوة التي عمقها النظام الحالي بسياساته الرعناء المتوحشة، وفي هذا السياق تبرز الحاجة الماسة لوجود قامات وطنية مخلصة ومتجردة، تقدِّم أطروحات عقلانية خلاقة ومبدعة، تحفزُ المجتمعَ وتدفعه لاعتناقها، فتزوده بطاقة الفعل الايجابي، وتدفع في شرايينه دماءً ذكيةً، وتزود رئتيه بهواء نقي يمنحه القدرة والطاقة على تجاوز الأزمة الوطنية، والوصول لمرافئ الاستقرار والأمان، والانطلاق نحو بناء دولة المواطنة المدينة الديمقراطية، ومجتمع الكفاية والعدل حلم كل مواطنٍ سودانيٍّ شريفٍ. تيسير حسن إدريس 20/06/2012م