بين وهاد مكة صعد رجل ذات يوم على تل الصفا ونادى بصوت جهور قوي بالدعوة إلى إقامة مجتمع العدل والحرية والمساواة والمحبة. كان الجهل والظلم والغدر والعصبية والعناد يبتلع في جوفه الكئيب هذه المنطقة بل إن العالم كله كان غارقا في غياهب الظلم والبغي والطغيان . بدأ هذا الرجل دعوته وحيدا بلا حول ولا قوة مستمدا مقدرة الثبات والصمود لعظم المهمة من يقينه العميق بالمعين الصافي لمبدأه السماوي الرفيع. خلال ثلاث وعشرون عاما في مسيرة إعلاء راية الحق والعدل تخللتها معارك التصدي لقوى الشر ومؤامرات أعداء العدالة وبين خيانة الأقارب والأباعد وضيق الموارد والإمكانات في كثير من الأحيان استطاع المصطفى الكريم إرساء كيان دولة العدل والحرية والعزة واستطاع أن يؤسس في القلوب أرفع المعاني لهذا الدين حكاما ورعية بالتسامي المنهجي ورعا وزهدا وتقوى بصورة ما استطاع الزمان أن يدانيها مرة أخرى. لا وجه للمقارنة بقيام دولة الإسلام الأولى وعمر دولة الإنقاذ وهي تعد لمهرجان الاحتفاء بعيدها الثالث والعشرون إلا ذات الفترة الزمنية، ولا وجه للمقارنة إلا من خلال ذات المعين والمنهج في الدعوة لدولة الدين والقيم. احتشدت على سدة الحكم لدولة الإنقاذ قطعان الرويبضة يقود زمامها الجهل وضآلة الأحلام ودنو الهمم وخسة الطباع يتصدرهم رئيس اترعت لغاديده نشوة الفرح والغبطة حتى أعوجت ساقاه وهو يتراقص طربا مبهورا بأصابع السبابة المرفوعة أمامه نحو السماء من الدهماء والنساء مصحوبة بضجيج التكبير الفج شعارا للغوغائية وإحفاق الحجة، ذات الشعار الذي تشربته الأفئدة ورددته الألسن في صدر الإسلام استشعارا عميق الدلالة لقدر وعزة المولى جل وعلا والسيوف المشرعة نحو السماء مضرجة بدماء الطغاة والمتجبرين أعداء الخير والعدالة. جاء الحصاد خلال ثلاثة وعشرون عاما عن اشلاء وطن مقطع الأوصال وقد أعاد إليه حكم الإنقاذ روح القبلية والجهوية والتكتلات .علا صوت الرصاص و فاحت رائحة الموت. أقفرت الحقول و أغلقت المصانع وأطل شبح الجوع ولم يعد للسواعد الفتية ملاذا من الانضمام لجحافل أمن النظام إلا بيع الدمى واللبان وأمشاط الشعر على قارعة الطريق. تسول الكرام وغوت الحرائر وانتحر العفاف وذبحت الفضيلة. هاجر أكثر من ثمانية ملايين عن وطنهم الحبيب وتاه مليونا سوداني في الصحراء يحلمون بكسرة خبز وجرعة ماء. ناء كاهل كل عين تطرف في السودان اليوم بدين دولي مستحق تجاوز العشرة ملايين جنيه. حين تآمر الإنقاذيون على سرقة المال العام واستباحوا بيع أرض الوطن للأغراب بثمن بخس كانوا فيه من الزاهدين أودعوا المال المسروق في خزانات وأرصدة خارج الوطن الحزين وأقاموا به الدور والقصور في بلاد النضار والترف والنعمة بعيدا عن القارة السوداء. فيا لكرنفال الفرح وحصاد الهشيم.