مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحوال المحارب القديم وسمر الفتنة : الإسلاميون .. أزمة الرؤية والقيادة ( قراءة نقدية)
نشر في حريات يوم 03 - 09 - 2012


قراءة نقدية في كتاب
للكاتب: عبد الغني أحمد إدريس
د. فضل الله احمد عبد الله
توطئة أولي:
واحدة من أقوى المنحوتات الفكرية المركزية في مسألة الكتابة التي تبتغي سبلاً أخري غير الكائنة أورد شيخ النقاد العرب “عبد الكريم برشيد” في قوله: “أما الذين ساروا – ويسيرون- علي الطريق نفسه، وبالسرعة نفسها والإيقاع نفسه، فهم الذين وصلوا – ويصلون دائماً – إلى المحطات نفسها، المعروفة والمألوفة”… ويرى “برشيد” أن من يريد أن يصل إلى محطات جديدة، محطات تكون مختلفة ومغايرة، بالضرورة أن يكون منجزه الإبداعي مؤسساً على رؤية تصادمية، فالكتابة لابد أن تصطدم بلائحة طويلة وعريضة من الممنوعات والمحظورات. والكاتب في حاجة إلى أن يكون صدامياً
فالكتابة هي كتابة ما لم يكتب، وتقديم ما لم يقدم، بالدخول في الفضاءات البكر، الجديدة والمتجددة. فالمشهد الفكري الإبداعي لا يمكن أن يؤثثه الصمت والخوف والقناعة بالموجود، ويعشش فيه المسكوت عنه، وتنتصب داخله علامات المنع وكثير من صور النفاق الاجتماعي والتقية السياسية.
الجرأة، شرط كل إبداع مشاغب ومشاكس وصدامي. بهذا الشرط ينهض الشاب السوداني والصحفي الإسلامي والمجاهد “عبد الغني أحمد إدريس” بمؤلف جديد موسوم باسم “الإسلاميون.. أزمة الرؤية والقيادة”.
وعبد الغني أحمد إدريس لمن لا يعرفون شخصيته “محارب قديم” وهو أحد أكثر أبناء جيله من الإسلاميين امتلاكاً لغريزة توليد الأسئلة وطرحها بصوت مسموع مجسداً معني أو قول “كونفيشيوس”: “لا أملك شيئاً لمن لا يطرح الأسئلة”.
فقد عُرف “عبد الغني” دائماً بأنه في حالة شغف دائم بغريزة الفوز بالمجهول، أو غير مكتفٍ بالمعلوم.
والكتاب نفسه في تقدير الناقد أنه يماثل شخصية المؤلف الذي تميز وسط أقرانه بجرأته على “التجريب” أي محاولة الخروج عن مدارات الوعي العام، إلى مدارات الحفر والبحث والمعرفة الجديدة، وتدمير القناعات القديمة وتحدي الواقع.
وعلي أية حال يمكن القول بأن، عبد الغني أحمد إدريس حالة من حالات هذا الجيل، مولود السبعينيات، وبمختلف مذاهبهم الفكرية وانتماءاتهم، نهضوا بارزين علناً بمواهب جرأة الخروج من حالة الجبر إلى الاختيار، ومن أحادية الرؤيا إلى المتعدد، ومن “وهم” الكائن إلى استشراف الجديد.
* توطئة ثانية:
“أحوال المحارب القديم” و “سمر الفتنة” هما روايتا الروائي السوداني الشاهق النبيل الإنجاز”الحسن البكري” من أكثر أدباء السودان، امتلاكا لإسرار الكتابة السردية الروائية، ولعبها الفني… وفق تقنيات علم وفنون الرواية. وقد نال جائزة “الطيب صالح” للإبداع الروائي دورة 2003 عن روايته ” أحوال المحارب القديم”…
لقد تعمدت اقتباس ذلك العنوان منه وأعني “أحوال المحارب القديم وسمر الفتنة” وأنا اكتب هذا المقال.. إذ يجد المرء دلالة أو إشارة رامزة بما يمثله الكاتب عبد الغني أحمد إدريس “المحارب القديم” في ألوية وكتائب الحركة الإسلامية، كنتاج طبيعي وإفراز لمسامرات أو أسمار الإسلاميين بعد ازدياد مساحات فتنة شهوة السلطة.
فالعنوان المقتبس من الروائي السوداني الكبير “الحسن البكري” “أحوال المحارب القديم” و “سمر الفتنة” وهو محاولة التطلع إلي توليد “سميائيات” خاصة بالناقد ترد النسق إلي حركية الفعل المراد، وأرجوا أن أكون قد وضعت “العلامة” القادرة على توليد المعنى، وأن لا يكون ذلك إدعاءاً طائشاً.
التشكيل البصري ودلالات الاسم:
في علم النقد وفنونه، ينهض معنى في غاية الأهمية، في سياق هذا المقال الذي يعمل علي كشف دلالات النص المكون في منظومة متعددة من “الثيمات” والتي نعني بها مجموع النصوص التي تحفز المتن وتحيط به، وأولى “ثيمات” الكتاب هو “الغلاف” باعتبار أنه “الثيمة” الأولى التي يدخل من خلالها القاري إلي عوالم “النص” بهذا يجد الناقد ضرورة تأمل محمولات التشكيل البصري في الكتاب والذي يتشكل برسم اسم الكتاب البارز: “الإسلاميون.. أزمة الرؤية والقيادة” ويَعْلُو تلك الجملة خط آخر للعنوان “الدعوة للديمقراطية والإصلاح السياسي في السودان” وتلتمع في العمق خلفية تسند الخط المرسوم صورة “ألواح” بمحمولات ودلالات “الخلوة القرآنية”، وصور لعدد من المجاهدين، وتنتصب تشكيلات المدافع والبنادق. في تكوين تم تشكيله كمكون يؤسس “ميكانيزمات” التطور الابستيملوجي للخطاب الكلي لاستراتيجيات الكتاب.
وعلى هذا الأساس نفسه يمكن النظر إلى دلالات الاسم بوصفه الشارة العلامية الكبرى التي تقع في فضاء المحفزات الدافعة لعملية تلقي “النص”.
بهذا يجد الناقد أن اسم الكتاب”الإسلاميون… أزمة الرؤية والقيادة” يمكن القول بأنه جاء يؤسس المرجعية الابستيمولوجية أو ينشأ العقد بينه والمتلقي في مساق الرسالة أو الخطاب المرسل.
والعقد هو التحكم الذي يشير إلى المرحلة الأولى، الذي يقوم به المرسل إلي إرسال كيفيات الرغبة أو إلزام المتلقي في استمرارية عمليات تلقي الرسالة حتى تحقيق الهدف.
“الإسلاميون.. أزمة الرؤية والقيادة” في تقديري جملة لا تتصالح مع أي شكل من أشكال الالتباسات، ولا تتحمل التأويل البعيد.. إلا أنها ومن منظورات أخرى تحمل رؤى وأسئلة الناس، وترفض إغراءات السلطة ونعيمها الأرضي ورضاها.
جاء الكاتب بعنوان في تقدير الناقد ليقوم بوظيفة الوشاية والبوح بالأهداف الكلية لمشروعه وإستراتيجية الكتاب. الداعي إلى حرية التفكير وإعادة التفكير والدخول بالتفكير في “اللامفكر فيه”- حسب عبد الكريم برشيد.
وعليه، يمكن القول بأن التشكيل البصري، بدلالاته الكلية كما برز في غلاف الكتاب، استطاع أن يحقق أهدافه في تحفيز المتلقي لعملية التلقي التفاعلي مع “النص” في تصوراته وأسئلته في مسألة الحركة الإسلامية السودانية وانزلاقها في الأوحال أثناء التطبيق العملي للحكم وإدارة الدولة.
حتى أن الأمر في هذه الأيام أصبح موضع “سمر” تجمعات أغلب الإسلاميين وبأجيالهم المختلفة، أينما التقوا آناء الليل وأطراف النهار.
التقديم والحضور الفاعل للكلمة:
لابد من الإقرار والاعتراف أولاً بأن من الأشياء الأكثر تحريضاً – ولن أكون مبالغاً – وتحفيزاً ودفعاً لكتابة هذا المقال النقدي هو مقدم الكتاب الدكتور أحمد محمد البدوي الذي قام بتقديم الكتاب داخلاً عليه من باب لحمه الحي، فكان ضوءاً يلمع عند نقطة البدء متخذاً طرقاً شتى للكتابة العلمية، الفلسفية، التاريخية، الأخلاقية… جاعلاً من التقديم حالة من النشاط الفكري الذي يشير إلى أن ثمة معنى للحياة، ويُذكّر أبناء هذا الجيل أن هذه البلاد تستحق أن نكتب عنها لنكشف ونعرف بإرادتنا كيف وصلنا إلى هذا الدرك الهائل من الارتباك والضياع، لا بل هذا الدرك من البؤس السائد اليوم في المشهد السوداني.
وشرع أحمد محمد البدوي نوافذ متعددة من كتابات الإسلاميين في نقد تجربة الحركة الإسلامية، وهي في السلطة وأبرزها مشاركة الدكتور التجاني عبد القادر التي نشرها في كتاب – حسب أحمد محمد البدوي- وهو بالضرورة ينتمي إلى الجيل الذي أتته المناصب والمكاسب والمناقب منقادة، ومتعددة ومتنوعة، بالوزارات مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيمانهم من السفارات والاستشارات والولايات والمسؤوليات والسيارات والعمارات، وبقي هو بعيداً منها وكان تاريخه يشفع له، حين كانت الوجاهة قبضاً على الجمر وسيراً علي الشوك والزجاج المسنون بأقدام حافية مثل هبة 1973م.
بيد أنه من الناحية الأكاديمية البحتة – الحديث لأحمد محمد البدوي – في مجال “التوجه الإسلامي” المنحصر في أفقه السياسي المحدود، لا جدال في أنه أميز أقرانه أولئك مجتمعين، ثقافة وفكراً، وأكاد لولا خوف الزلل أقول رزانة وورعاً وأهلية لأن يتبوأ ما يستحق من مسؤوليات عليا.
ويضيف في حديثه عن د. التجاني عبد القادر قائلاً: وضح من كتابه بروز نبرة السخرية، السخرية التي تخفي وراءها بزتها الصارمة المازحة، فيضاً من المرارة والإشفاق والأسف، ولكن نهج الكتاب أكاديمي موضوعي التناول، وهو أخطر ما كتب عن الحركة وهي في السلطة من جانب أحد وجوهها المشرفة، وواجهاتها المضيئة.
ومضى المقدم في تقديمه لكتاب “الإسلاميون… أزمة الرؤية والقيادة” في عملية خلق موازي للكتاب نفسه وهو يعبر ببلاغة عن مشاعر يتقاسمها المشفقين على تجربة الحركة الإسلامية في الحكم، وهي مشاعر رصدها من أحوال المحاربين القُدّامى والمجاهدين. وهي مشاعر في تقديري حاضرة في الأشياء والأشخاص والمواقف.
إنه الجيل الذي وهب أخصب سنوات عمره وأعظم أيامه في الحروب والمعارك رغبة في الوصول إلى محطات جديدة، محطات مختلفة ومغايرة، وأشواق غنوا بها:
“أماماً، أماماً جنود الفداء
صفوا الكتائب ليوم النداء”
وأماني دعوا إليها، وفكرة دافعوا عنها، وكاتب المقال هذا نفسه من الراصدين لتلك المشاعر وقتذاك “صوتاً وصورة” في ساحات الفداء.. وشاهدٌ على عبد الغني أحمد إدريس كاتب الكتاب موضوع مقالتنا هذه… وهو كما أفاد د. أحمد محمد البدوي قائلاً: “هذا الكتاب ألفه فتى من الجيل الحفيد، حدث ميلاده في أيام مايو النميري، فهو لم يشهد جبهة الميثاق وأيامها وصراعها المحتدم داخلها وخارجها على مستوى القيادة، وأدرك نميري رضيعاً وطفلاً، هو من جيل حركة 30 يونيو 1989 قضى معظم سنوات حياته في أتونها طالباً ومقاتلاً حمل السلاح باسم الجهاد في جنوب السودان حين كان فلذة في صميم قلب السودان، ولم يؤول إلى جمهورية موز مستقلة بعد، ثم عمل بالصحافة والإعلام، جاء إلى الإعلام من ساحات الفداء في الغابة بدلاً من صحف الحائط، تحت الأشجار الوارفة فمن “آخر لحظة” تخرج كل الكادر الإعلامي لحكومة الحركة منذ 1989م.
إنه يتكلم من داخل الحوش ولكنه هنا لا ينحصر في الترابي والبشير ونظامهما أو نظاميهما، إن كان التوأم السياسي قد انقسم قسمين، ولكن روح “فريع الياسمين” واحدة، فكيف بها مقسمة قسمين، إنه بعرض متراحب، يضع يده في النسيج الحي لمحنة البلد كله، والبلد هو شعبه البائس المغلوب على أمره. ولا يجد المرء، إلا وأن يشاطر د. أحمد محمد البدوي الرأي تماماً، في ما يتعلق في إشاراته المترجمة للكاتب عبد الغني أحمد إدريس، الذي أعرفه، بحكم الصحبة والرفقة في مسالك الجهاد والمجاهدة، ومداراتها، ومسالكها الشائكة في عدد غير قليل من المتحركات القتالية في جنوب السودان. فهو – حسب البدوي – يريد إنقاذ السودان، ما تبقى من شعبه ومن أرضه التي فقدت وزنها الأسطوري “لمليون ميل مربع”.
وما يخلص إليه المرء، هو أن د. أحمد محمد البدوي، استطاع ومن خلال “اللغة” أن يُكسب القارئ أفكاراً مفصلية فلم يكن التقديم موضوعاً جامداً، أو شيئاً يسبح خارج سياق الزمان، بل كان عبارة عن محطات أو علامات تحيل القارئ إلى منظومة من الأشياء “تأريخاً ووصفاً وتحليلاً” بلغة ينثرها ويحولها إلى دلالات ومعاني قصدية، مجازية، تبطن أكثر مما تفصح، وتلمح أكثر مما تصرح إلا أنها تخترق الأشياء ذاتها، ولا تلف حولها.
عندما تقفز الحقيقة إلى العيون:
“إن أكبر مفخرة كانت تحسب للمؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية، هو هذا الجيل الذي قامت بتربيته وإخراجه من بين فرث ودم في فترة الثلاثة وعشرين عاماً الماضية، ولكنها مثله مثل إنجازات أخرى كثيرة، يجري تبديدها واستهلاكها في ما لا نفع فيه، إن الأزمة الحالية المستفحلة التي يعاني منها الحزب تكمن في مكوني القيادة والرؤية، ودون فك طلاسم هذين المكونين وإجراء عملية تحليل عميق لهما، لن يجدي التحامي حول الحمى أو الالتفاف حول العبارات المنمقة”. بهذا البيان العميق المعنى يبني الكاتب “عبد الغني أحمد إدريس” مستهلاً إستراتيجية “النص” بحثاً عن الحقيقة، في دعوة للمغايرة والتجديد وإعادة التأسيس.
وهي إستراتيجية تبدأ بالكشف عن ميكانيزمات الخطاب في تشكيل المعنى، أو إجراءاته في إنتاج الحقيقة فهو يشكل بداية إستراتيجية الخروج من المملوكية إلى الحرية، التحرر من سلطة “التابو” وكسر جرّتها.
يدخل الكتاب منذ البداية إلى منطقة ظلت بمنأى عن التفكير قائلاً:
“يجب أن نُذكّر أن التاريخ يصنعه بشر، وهم خلق من لحم ودم، وليس في مقدورهم، مهما تسامت هاماتهم صناعة المعجزات أو الخوارق، بل يجتهدون إلى ما تستطيعه طاقاتهم ويحتمله وسعهم، ذلك قصارى أمرهم كأفراد، ولكن أين المجتمع، أين الجماعة، أين الأمة؟
يجب أن يكون واضحاً أن الدافع لهذه الكتابة هو النية الصادقة في استكمال دور جندي آمن بفكر الإنقاذ وأطروحتها في عهد بداوتها الأولى قبل أن تدخل عليها عوائد الدهر وتنجرف إلى ما نسعى إلى الدعوى إلى إصلاحه، فهو رسالة إلى رفقائي وزملائي الشباب، الذين كانت هتافاتهم داوية تقض الثريا ولا تهاب أو تخشى في الحق لومة لائم، يفعلون ذلك من منطق إيماني عقدي محجته “الدين النصيحة، لله ولرسوله ولعامة المؤمنين وأئمتهم” وليس في الدين من حرج، ومبتغاهم “إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت وما توفيقي إلا بالله” لذلك وجب عندهم إلزام كل إنسان طائره في عنقه.
بهذا نحن إزاء نمط من التفكير يزحزح الإشكالية من مطرحها بجعل علاقة المرء بفكره هي موضع النقد – حسب علي حرب – في كتابه “الممنوع والممتنع” أي بتفكيك العوائق الذاتية للفكر، كما تتمثل في عادات الذهن وأبنية العقل وأجهزة الفهم أو قوالب المعرفة”.
فالنقد عند “علي حرب” تمارس على جهتين: اختراق الممنوع، أي ما يُمنع من قبل السلطات المفروضة من الخارج، لفضح علاقات القوى وآليات السيطرة، واقتحام الممتنع، أي ما يستعصى على الفهم داخل الفكر نفسه، للكشف عما تمارسه المقولات على الموجودات من التسلط والاستبعاد أو الاختزال. بذلك يُتاح مجال أوسع لفهم ما يحدث، إما بهتك حجاب أو فتح مغلق أو فلق ممكن من الممكنات”.
وهذا ما يراه “عبد الغني أحمد إدريس” نفسه بقوله: “إن النقد والتمحيص بالصوت العالي يقوي هذه المؤسسات ولا يضعفها كما يتوهم بعضنا، فأولاً: لا يوجد شيء اسمه داخلي بحت، طالما أن الحزب يسيطر بهذه الطريقة على الدولة بكل مفاصلها وأدواتها وعلى المجتمع بكل مؤسساته وأجهزته، يصبح حق النقد والتحدث ملك عام لكل من يقوى عليه ويمتلك ناصيته من علم ودراية، شريطة ألا يُذيع سراً استودع عنده، أو يشيع أمراً يستفيد منه العدو المتربص” ثم يقول: “إن من حقنا أن نتكلم دون خشية من قطع عنق أو رزق، ومن واجب القيادة أن تستمع إلينا، وتناقشنا دون خيلاء أو كبرياء أو انحياز لطرف هي تراه الحق بقلبها ولا يصدقها عقلها أو تسعفها فيه الأدلة”.
إن هذا الاستهلال من أهم سماته اتساع مساحات العقلنة في أفكار الكاتب، والتنوع الكلامي المتصل موضوعياً بطبيعة منهج الكتاب الذي أكسب تنوعه الكلامي واللغوي، منظومة فنية مرتكزاً على تباين الأصوات. “والتنوع الكلامي”، أقصد به تنوع في مستويات التعبير وأشكاله، ولا أعني تنوعاً بين لغات عدّة.
وظاهرة الأصوات وتنوعها في هذا الاستهلال هو سعي جاد إلى مكامن الحقيقة: ربما يثير هذا الكتاب – حسب الكاتب – أو بعض المعلومات الواردة فيه شيئاً من الجدل أو الغبار، فقديماً قيل إن الحقيقة جاءت إلى الناس عارية فأنكروها وتأبّوا عليها ولما تسترت وعادت قبلوا بها.
وعليه أذهب ذات مذهب الكاتب أن الحقيقة – حسب عبد الكريم برشيد – في كل وجوهها لا يمكن أن تكون إلا قوية وعنيفة ومرعبة. إن الحقيقة هي التي فقأت عيني “أوديب” وقتلت “جوكاستا”.
إن الحقيقة تقفز إلى العيون – كما يقول الفرنسيون – وبذلك كان العمى جزاء أغلب العرّافين، و”تريزياس” هو أحدهم أو أولهم وهو عنوانهم الذي يدل عليهم.
الإنقاذ.. منازلة الموت وشهوة الحياة:
عندما بزغ فجر الإنقاذ في 30 يونيو 1989، وهي يومئذ كقمر يتوضأ بالنور الأخضر، ونحن في “عز الشباب” ترتيلاً ودعاء، ملتفين حولها نعزف ألحان الصبابة، والأناشيد الماجدات تحرق أوتار القلوب، وكلمات الشاعر تقرأ فينا:
“أقبل البدر علينا
يتهادى كالشراع
وجب الحب علينا
ما دعا لله داع
أيها البدر المحني
مرّ بي مثل الشعاع
مُرّ واستوطن عيوني
إنها خير البقاع”
بل وكأن عبد الله بن رواحة، حضوراً يدور مع الكتائب يتخير أنفاس شعره:
“أقسمت يا نفس لتنزلن
لتنزلن أو لتكرهن…
قد أجبل الناس وشدوا الرنّة
مالي أراكي تكرهين الجنة
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فانزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا”
ذلك ما كان من أيام الإنقاذ “الرسالة والقضية” إذ إن القائد كما أورد عبد الغني أحمد إدريس في الفصل الأول من كتابه “إن السياسي هو القائد الذي يُلهم أتباعه فيقنعهم بمشروعه ومن ثم يتقدم الشباب والمتطوعون إلى الأمام، كل يحاول أن يسد الثغرة التي يستطيعها، ثم تنبري ثلة من المخلصين فتقدم أغلى ما يملكه الإنسان وهي النفس، فتتسامى الأرواح والمهج وتبذل رخيصة في سبيل الوصول إلى هدف منشود يرى الناس أنه أغلى وأثمن من حيواتهم، التي لا سبيل إلى استعادتها إن فقدت، فيضحون بها فداء لرؤية ومشروع ورسالة يودون إنفاذها إلى غاياتها، وغاياتها تلك ليس عقارات وأملاكاً للقيادة وعائلاتها ومحظييها بل هي أشواق أمة وأحلام جماهير مشروعة في الحرية والكرامة والعيش الرغيد. على هذه الرؤية يتواثق الصغار والكبار ويجتهدون كل حسب وسعه لتقديم كل ما في استطاعة النفس البشرية للجود به ولو كان أقصى طاقاتها وقدرتها الاحتمالية، فرأينا الأم التي تأتي بابنها وهي تستحث على الثبات عند اللقاء في الخروج للقتال دفاعاً عن عقيدته ووطنه” ومن ثم يتساءل “عبد الغني أحمد إدريس”: “فما الذي أديناه لهذا الاستحقاق الذي نلنا به سلطة ونظام حكم؟ بعد بضع وعشرون عاماً من البقاء في الحكم، ألا يحق لنا أن نطرح سؤالاً: إن كان ذلك هو أساس مشروعيتنا، فما هو الواقع الذي انتهينا إليه؟؟ تسليم الجنوب إلى الحركة الشعبية الخصم الاستراتيجي لهذا التوجه بكل ما فيه من ثمرات وبذور يانعة جرى غرسها على مدار أكثر من مائة عام لم يفلح حتى الاستعمار من اقتلاعها”.
وأسئلة أخرى تتواتر في ثنايا هذا الفصل من الكتاب، عن دارفور، وهي المشكلة “الحارقة” للسودان ومقدرات شعبه وفق ما أرى إلا أن الكاتب قد كان مُقلاً في إشارته في هذا الحيز من الكلام والأسئلة الكبرى عن عوالم دارفور وهو من العالمين بحكم مشاركاته الواسعة في عمليات التغطية الإعلامية. ودارفور نفسها، في تقديري هي عالم قائم بذاته من الخطايا وسوء تقديرات الحركة الإسلامية في إدارة أزمتها، ولا تزال تمثل البؤرة الحارقة للدولة واستقرارها.
إلا أن الكتاب في فصله المعنون باسم “السياسة في فكر دولة الإنقاذ” يجد المرء أن المنطلقات الأساسية التي استند إليها عبد الغني أحمد إدريس في حديثه عن الاستراتيجيات التي انتهت بالإنقاذ إلى هذا الواقع الأليم… وعليه تحولت كل تلك الأعمال البطولية التي قدمها الشعب السوداني طيلة الفترة الماضية وتبددت إلى محض سراب. هي منطلقات في غاية الموضوعية.
والناقد هنا يذهب إلى ذات ما ذهب إليه الكاتب أن النقاش هو أمر مشروع ويجب أن يفتح على الملأ دون خوف أو وجل.
فإذا كان مثلاً يمكن فصل الجنوب، وتسليمه للعدو الاستراتيجي بكل هذا اليسر والمبررات إذن لماذا كل تلك الدماء التي سالت على غاباته وسهوله ووديانه – الحديث للكاتب – التي تخضبت بجثث وأشلاء رجال ما بخلوا ولا وهنوا ولا استكانوا عندما دعاهم نداء الواجب وصوت الضمير الوطني للتلبية.
ويذهب “النص” ويفيض بالأسئلة في كتاب “الإسلاميون… أزمة الرؤية والقيادة” ووفق استراتيجيات لا تنتهي، فكما هي الغابة كثيفة وتزدحم بالمسالك الشائكة والدروب المظلمة المخيفة، كذلك كتاب عبد الغني أحمد إدريس الذي يضع أسئلة تدفع القارئ للولوج في منعرجاتها رغبة في الخروج منها، بعد تأمل عميق بحثاً عن الإجابات.
والسؤال في حدّ ذاته، كما قالت الصحفية جمانة حداد: “هو الأصل الذي في كل شيء. والذي من أجل كل شيء”. هكذا كل سؤال عالمٌ متكامل يخزن في ذاته ماء جوابه…
السؤال قائم إذاً في الأصل. في متنه جزءاً من المستتب وتهديداً له – حسب جمانة – لا يتحقق إلا ب”آخر” إنه إذاً “حوار”.
والأسئلة عند عبد الغني في هذا الكتاب هي دعوة للحوار – كما أشار – “تكون من باب التثبيت وليس التخوين والتجريم فليس بأي شكل من الأشكال مقصود منها اغتيال معنوي لكسب شخص أو توظيفها كوقود للصراع يصبح رافعة لصعود آخر، لأن الجميع شركاء في هذا الذي وقع قدحاً أو مدحاً، وكما أشرنا هذه الشراكة في المسئولية ولو بالصمت عليها وتركها تمر، يستوي في هذا الذين قصر نظرهم عند تدبر مآلات الأمور بدرجة أقل من الذين كانوا يعرفون كل خارطة الطريق ولكنهم التزموا الصمت أو أداروا ظهورهم لهذا المسرح الذي صار عبثياً، تتبدل فيه المواقف بحسب “ما يطلبه المستمعون” أي يكون خطاب القيادة لجمهور الواقفين وما يودون سماعه وليس ما هو مطلوب تبصيرهم به من أخطار حتى وإن كانت على عكس رغباتهم.
إن النظر الناقد، أو المراجعة النقدية في كتاب “الإسلاميون.. أزمة الرؤية والقيادة” في هذا الفصل من القول، وفي ضوء ما أثاره الكاتب من أسئلة متنوعة، والتي استخدم فيها “عبد الغني” تقنيات السرد، أو ما يعرف عند آخرين ب”خطاب الحكاية”.. فالحكاية لا تقوم على خطاب واحد بقدر ما تقوم على بعض الخطابات “خطابين أو أكثر” وهي ثنائية الموضوع في نظريات “الأدب” وهي تقنية تستخدم كضرورة للبحث عن الزمن الضائع. وهو ما جعل “عبد الغني” يستخدم تلك النقلات الثنائية في أسئلته وهو يتجول في مساحات السرد في سبيل الوصول إلى الحقيقة في ضوء ما أثاره من تعليقات وانتقادات. كأن يقول مثلاً: “إن مشروع التغيير الذي جاءت به الإنقاذ في 30 يونيو 1989 كان يستهدف نظام حكم على هدي الإسلام، وكانت الحجة التي استعملت في مغامرة الاستيلاء على الحكم في الغسق، هي عجز الأحزاب ومشروعية المطلب في تنزيل الدين إلى واقع للحياة معاش”.
تقنية السرد هنا، أو “خطاب الحكاية” هو وظيفة استشفائية تدفع القارئ وتمنحه قدرة تمييز التجربة ونتائجها من خلال الواقع المحسوس والملموس عنده.
“النص” يقول شيء حقيقي عن العالم الواقعي للمتلقي، ليس حديث أساطير أو أشواق وأمنيات.
“تقنية السرد” أو إستراتيجية الكتابة، تتحدث عن القارئ والمؤلف، ويتكلم عن الأكوان الدلالية، فهو لا يسلب المتلقي حق التأمل، كأن يتساءل “فما الذي أديناه لهذا الاستحقاق الذي نلنا به سلطة ونظام حكم”… وهذا دعوة للتأمل الصريح في البناء بدءاً من البناء الكلي للدولة ومؤسساته، وتأمل للزمن والمكان، كم كانت تبلغ مساحة السودان قبل الإنقاذ، وكم هي الآن… وفي مساحات القيم الاجتماعية… كم كانت مقادير المقايسات الإثنية والموازنات القبائلية في إدارة الشأن العام قبل الإنقاذ، وكم هي الآن… الخ.
وعلى هذا النسق يتلذذ القارئ بسحر عوالم التخيل في تقنيات واستراتيجيات الكتابة في ثنائية الخطاب عند عبد الغني أحمد إدريس في سرد يساعد المتلقي على إدراج التجربة المحدودة في الزمان والمكان.
الإصلاح من أين يبدأ؟:
الإصلاح في معناه الحقيقي، هو التغيير، وهو في الوقت نفسه البحث عن الأدوات والآليات، وذلك بالضرورة، تغيير في العناصر والأشياء وفي الرؤى والعلاقات المختلفة.. ومفهوم التغيير مشوب اليوم بقدر كبير من الالتباسات، ويمر بعدد من المنزلقات باعتباره أنه – التغيير – لا يعني شيئاً غير الثورة في أغلب مفاهيم الناس.
وعلى هذا أجد نفسي محاطاً بقدر كبير من الأسئلة، وخاصة عندما يكون الكلام عن التغيير من داخل أسوار الحركة الإسلامية، القائم عليها أمر الدولة.
ما الذي يتغير، وما الذي يستعصي على التغيير؟
في تقديري الخاص، هناك ثوابت، كما هناك متغيرات.
وعندما يتغير الشيء – أي شيء – من وجوده وهويته، هل يكون هذا الفعل تغييراً مطلوباً؟ أم هو شكل من أشكال الطمس أو التماهي؟ وعندما يتحدث المنتمون إلى الحركة الإسلامية عن التغيير أو الإصلاح، هل هذا تجاوز للثوابت والقفز عليها؟ فماذا يمكن أن نقول عن هذا المفهوم؟
على ضوء هذا التقديم الذي أجد ضرورة صياغته ووضعه كشرط من شروط تشريح ونقد جملة “الإصلاح السياسي في السودان” كما جاء علامة أو “أيقونة كبرى” من أيقونات كتاب “الإسلاميون.. أزمة الرؤية والقيادة” الذي وسم به عبد الغني أحمد إدريس كتابه..
لا أنكر أن الكاتب قد مارس في هذا الجزء من الكتاب أدواراً تنويرية، وموقفاً ثابتاً في كلياته المبدئية التي لا تتزحزح في معنى الإصلاح داخل الثوابت لا خروجاً عنها، بمعنى إيجاد مواقف مغايرة للكائن “السياسي، الاجتماعي” في عناصره أولاً، وعلاقات بنيات مؤسساته القائمة، ومستويات التفكير والمفكر فيه.. بابتكار أدوات جديدة للتعبير، أو ارتياد آفاق جديدة للمعنى، أو بالدخول على تلك المساحات أو الدوائر المغيبة أو المعتمة.
إن قراءتي النقدية في هذا الأمر تحملني على القول – وفي هذا أنا على قدر من الاتفاق مع الكاتب – أن التغيير والإصلاح بحاجة إلى قوة في الخيال، وأمعن في رأي خاص لا مناص من الجهر به، ومسوغي في هذا القول بأن الحركة الإسلامية فقدت، أو أفل نجمها في واقع الناس، خاصة بعد خروج د. حسن الترابي خارج سياق الفعل بكل مواهبه، وانزلاق الحركة الإسلامية وابتعادها عن الهدى. فقد فقدت مصداقيتها كناطق باسم الحقيقة أو كمدافع عن الحرية والعدالة والمساواة.
والعودة الآن إلى درجات تلك المصداقية في غاية الصعوبة. ولن تستعيدها ما لم تعمل على نقد الدور الذي مارسته في كل سنوات الإنقاذ سعياً إلى مراجعة الأفكار والمواقف وأن تتخلى القيادات النافذة في الحركة الإسلامية عن عاداتها الذهنية التي دائماً ما تكرس على قمع الرأي الآخر، بقطع الأرزاق، أو التخوين، وحرق التاريخ لكل صاحب صوت أو رأي مستنير.
وعلى أية حال، يجب أن يكون السؤال واضحاً، وإن ألمح الكتاب كثيراً، كيف يمكن أن تعود الحركة الإسلامية إلى النزعة الإنسانية التحررية، كيف لنا أن نعود بأدوار “أحمد عثمان المكي” مثلاً، أو د. التجاني عبد القادر، لا اعتقد مهما تحدثنا عن الإصلاح الآن أو وعدت القيادات بها، فلن تعود الصورة القديمة للحركة الإسلامية وأدوارها الرسولية والإنسانية كحارس للحقيقة والمدافع عن الحرية فذلك هو “السراب”.
تلك الصورة المشهدية قد تم خدشها تحت خربشات السلطة ومؤسساتها، فأصابت الفكرة في مقتل، وانهزم المشروع الفكري، وضمر وتحول إلى مشروع سلطوي مبرراتي.
إن تفكيك كتاب “الإسلاميون.. وأزمة الرؤية والقيادة” وإعادة تركيبه وفق رؤية نقدية خاصة تجعلني أقول “برغم التقدم الكبير في الانتصار للديمقراطية وسط المجاهدين خاصة” إلا أنه في تقديري أن المسألة الآن هي أخطر وأعظم من مسألة المواجهة بين أعداء الديمقراطية ومناصريها، أو بين أتباع الشمولية ودعاة الديمقراطية، بل إن الأمر عندي هو في كيفية إدارة الحقيقة، وفي منهج التعاطي مع مفهوم الحرية والديمقراطية.. وإلا كيف نفسر كل تلك الظواهر الكارثية في التعامل مع المشكلات والأزمات التي طرأت في مجتمعاتنا السودانية المختلفة.
كيف نفسر أن تنظيم ذو منشأ عقدي إسلامي يتلذذ بفصل “آباء” وأرباب أسر للصالح العام من العمل في مؤسسات الدولة؟ وكيف نفسر ظاهرة التراتبيات القبائلية والجهوية في داخل المنظومة التنظيمية للحركة الإسلامية نفسها؟
وكيف نفسر ظاهرة تعدد المراكز والأرباب والمنظومات الشللية، وداخل كل مركز أو منظومة “فيروس” الاستبداد والإقصاء وقطع دابر المعارضين للرأي داخل البيت الواحد.
وعلى أية حال، إن معنى الحركة الإسلامية قد “أفل” كما أشرت بذلك في مقال سابق بجريدة الأحداث فمن الصعب أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، دون مراجعات نقدية شاملة، بصياغة أسئلة الحقيقة، لا “التوهم” والنقد هو إعادة التفكير في الأدوات والأجهزة والمفاهيم، ومنهج النظر إلى الأشياء والتعاطي مع الأفكار، وهذا لا من باب “جلد الذات” كما يرى البعض، أو التجريم فالنقد في ذاته من أجل أن نفهم ما كنا نعجز عن فهمه من أمر ذواتنا والآخرين.
الحركة الإسلامية، أو المؤتمر الوطني، جميعنا مطالبون اليوم بأن ننزل من أبراج أفكارنا إلى أرض الناس، وإحسان التعامل مع الواقع.
النخب الإسلامية والنمط السلطاني التقليدي:
في فصل “حوار مع النخب الوطنية في السودان” يدخل المؤلف في كتابه إلى منحى في المناقشة تعمل إلى فتح الأبواب المغلقة، أو كسر “جرّة التابو” بالضرب على قلاع ما ورائية حصينة، ولا شك أن لهذا المنحى أهميته القصوى. وهي النظر في رؤية صفوة الحركة الإسلامية أو النخب وطريقتهم في استخدام المفاهيم وتطبيقها في سلوكهم العام. وقد استخدم عبد الغني أحمد إدريس، طريقة النقد الحفري التفكيكي متجاوزاً المعروف أو المعلوم إلى دوائر المستبعد والمسكوت عنه. قائلاً: “لقد جاءت صفوة الإنقاذ الحالية إلى الحكم وهي في قمة الطهارة الثورية، ولم يكن بخلد أحد من مشايعيها أنها ستكون في يوم من الأيام أو ليجاركية جديدة على النمط السلطاني التقليدي، كل همها هو استدامة البقاء على الكرسي بكل ما تصنعه السلطة وتملكه من مفاتن ومباهج وربما غواية شديدة في النفوس.
إن الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه القيادة غداة تسلمها الأمر على أنقاض النظام الذي سبقها هو قناعتها الزائفة أن كل علل البلاد يمكن أن تزال بعصا سحرية ما أن تلامس المشاكل والقضايا المعقدة بالبلاد حتى تفك عقدها وتحل طلاسمها، وأن الثقة الشخصية بالأفذاذ مهما علت مواصفاتهم قد تغني عن المؤسسات وتسد محلها، من الواجب علينا أن نعترف وبكل تواضع أنه بعد مرور ثلاثة وعشرون عاماً أن هذا كان وهماً كبيراً، حتى بعد خلع الترابي كان يجب علينا أن نتجنب مزالق النظر إلى الفرد مهما علا وسما بأنه مُنزه ومعصوم، الذي وقعنا فيه يومها هو تصورنا الخاطئ أن إرادة التغيير التي انتزعت “الشيخ” يمكن أن تبلغ مداها، فتكتمل نحو غاية الإصلاح فقط بتغيير رجل أو مجموعة من حوله كانت حاكمة.
إن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح ما الذي يوقف عملية إعادة إنتاج ديكتاتور جديد بعد الترابي؟
فقد “حفر” المؤلف بعيداً، بأدوات التفكيك، يكتب رؤيته، ويشكل لغته الخاصة في “النص”.. وحقاً أن الأفكار لا تنبع من الكتب وحدها – حسب علي حرب – “فالفكرة الخصبة هي محض التجارب وثمرة المعاناة والمكابدة. وهذا شأن النقد التفكيكي، أنه لا يأتي فقط من مفككي الغرب وأنظمته الفكرية. وإنما له أرضه الصالحة عندنا، عنيت بأنه يأتي من كل هذا التفتيت والتبديد والتدمير الذي تجرنا إليه طرائقنا العقيمة أو الفاشلة في التعاطي مع ذواتنا أو في إدارة أفكارنا وقضايانا وحقوقنا”.
إن ممارسة عبد الغني أحمد إدريس هذا “المحارب القديم” في كتابه “الإسلاميون .. أزمة الرؤية والقيادة” هو نمط من أنماط التفكير، وثمر من ثمار “سمر الفتنة” التي كانت حافزاً ومحرضاً لكثير من شباب الحركة الإسلامية المجاهدين إلى الدخول في دائرة التفكير، والخروج من حالة تفكير القطيع، والدغمائية، التي دائماً ما تستهل الأحداث والانجذاب إلى الآحادية في اختزال الوقائع أو نفي الحقائق.
دخل، ويدخل الآن أغلب الشباب المجاهدين المستنيرين إلى دائرة التساؤلات المقلقة والناقدة، التي تدفع إلى ميادين المعرفة وتغيير الرؤى بأدوات جديدة وفعالة. وما يفعله عبد الغني وكثير من أبناء جيله هو ليس من باب العبث، وإنما هو نمط من أنماط التفكير المشروع لتشريح مقولات قادة الحركة الإسلامية وتحليلها، وتفكيك المفهومات والقناعات القديمة، وتكشف زيفها وتخلخل البديهيات وتدمير البنى العقلية المعيقة.
ووفقاً إلى ما ذهب إليه – علي حرب – في “الممنوع والممتنع”: “بهذا المعنى قد يكون مردود النقد التفكيكي بناءاً ومثمراً، إذ يؤول إلى إيقاظ الممكن أو إلى تحويل العجز إلى قدرة، بوصل ما انقطع أو توسيع ما ضاق أو فلق ما احتجب”.
وفي ضوء ذات المنهج النقدي في استراتيجيات الكتاب، يفضح الكاتب العقل الجمعي عند الصفوة المتحكمة، والذين يتكالبون على السلطة بعقلية الغنيمة، بل يضعون الضوابط والكوابح – الحديث للكاتب – لكل من تسول له نفسه الحيد عن الطريق.
ويقول: “يتساءل المرء عن الصفوة السودانية التي ظلت ترد الغرب وتنهل من علومهم لقرابة المائة عام حتى الآن، لماذا لم تعمل على استنباط نموذج وطني متصل بثقافتنا وحضارتنا السودانية والإسلامية، ويستلهم ويسترشد بالتجربة الإنسانية الماثلة في الغرب أو الشرق؟؟ من مؤسسات حرة وبرلمان وصحافة ورأي عام لا يقبل فرض الوصاية أو الخنوع”.
إنها تساؤلات معقدة يطرحها الكاتب، وواقع شديد الالتباس والتعقيد، والفكرة الكبرى في هذه التساؤلات نفسها – لا تزال – حتى الآن هي العلاقة بين المعرفة والسلطة في مفهومات الصفوة داخل منظومة قيادة الحركة الإسلامية، كما أشرنا سابقاً، ما هي درجات التلاقي بين المفاهيم المنطوقة والفعل؟
فالواقع يشيء، إلى أي مدى تقف القيادة إلى الحدود التي يمكن أن يتلازم الفكر والفعل معاً.
استطيع القول وجهاً لوجه، إن ما قامت به الصفوة، أو النخب في إفساد البنى الاجتماعية وفضائل القيم والسنن في الثقافة السودانية لهو الأخطر والأفظع في تاريخ الحركة السياسية في البلاد. فالمنطق أو الحديث المكرور دائماً – حسب الكاتب – عن مؤامرات الخارج هي محاولة للهروب إلى الأمام يقوم بها البعض حتى يذر الرماد على العيون ويعفي نفسه من النظر في القضايا الحقيقية للأمة”. وأرى أنه يجب أن نقول بوضوح تام، إن “الطوطمية” والمنطق التقديسي لسلوك القادة وأقوالهم، هي ما يجعل البلاد طوال سنوات حكمنا هذا تحت دائرة الأزمات الكارثية.
إن الحوار مع النخبة في اجتراحات الكاتب، وإن جاءت للدفع والانتقال بالوطن من دوائره المشؤومة، إلا أنه لابد من القول بأن محاولات التدجين المستمرة، ومحاصرة الذوات المفكرة، بالتخطيط التوجيهي السلطوي، الذي يحدد المساحات والسقوفات وفقاً لمنظوراته الخاصة، وعدم تجويز تعدد الرؤى هو ما جعل الحركة الإسلامية السودانية اليوم حالة “أثرية” غير منتجة وفق قيادات تدور حول نفسها كالرحى فضمرت وظيفة العقل، وسُفهت المبادرات المبدعة.
الحركة الإسلامية اليوم تعيش غربتها، في بطالة فكرية، في انقطاع، أو عزلة عن المعرفة والمنطق.
ذلك هو المسار الذي تتسم به النخب في قيادة الحركة الإسلامية، ويشكل سمتها العام والمشترك، وهو الأكثر وضوحاً، وبالتالي الأكثر طواعية في مواجهة أدوات التشريح والكشف والتحليل عند مؤلف الكتاب.
وهذا المسار نفسه ما جعل تقنيات واستراتيجيات الكتابة بمنطق يخص الحالة، ويبدو توالي الموضوعات عند الكاتب على ذلك النحو، والذي تجاوز مقالنا أكثره لضرورات فكرة المقال.
وبناءاً على ذلك، يمكن القول بأن كتاب “الإسلاميون .. أزمة الرؤية والقيادة” .. هو “نص” يمتلك خاصية “المرجع الحي” في مسألة الحركة الإسلامية وسنوات الحكم.
يقدم الكتاب تقنية سردية تاريخية، تحليلية، وفق دلالات وإشارات تنضوي فيها القراءة التأويلية “أحياناً”.
الموضوعات التي يحتويها الكتاب، هي من صميم الواقع على مستويات الفكري والسياسي والاجتماعي والأمني العسكري وحركة الجهاد والمجاهدين في سنوات الإنقاذ.
الكتاب تحسس ملامساً موضوعات ظلت منذ سنوات هي في محور جلسات “السمر” عند الشباب والمجاهدين.
الكتاب حالة من حالات كل محارب قديم، يحلم بمجتمع دولة يؤسس علاقاته إلى معيار الجهد والعطاء الفكري لا إلى عوامل المحاصصات القبائلية والانتماء “الشللي” أو مراكز القوى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.