يبدو أنّ لعنة التهجير إثر السدود والخزانات لن تتوقف مطاردتها للسكان في بقاع مختلفة من شمال السودان و جنوبه، وقصة السدود شمالاً تفاصيلها المأساوية معلومة في الشق المتعلّق بالحقوق والتعويضات بعد الموافقة المصحوبة من جانب المهجرين بتنفيذ التزامات حكومية تضمن لهم استمرار الحياة وتعويضهم مادياً ما فقدوه تحت مياه أي بحيرة يخلفها أي خزان، لكن الأمر وفي مرات كثيرة لم يذهب وكما ينبغي في الاتجاه الصحيح بحيث أنّ مشاكل عديدة صاحبت السدود في شمال السودان ولم يتوقع تكرراها الكثيرون في حالة تعلية خزان الروصيرص بولاية النيل الأزرق والتي نحن بصددها.. ابو زقودي شرق.. جزيرة متاخمة لخزان الروصيرص على الضفة الشرقية لبحيرة الخزان التي غمرت الجزيرة في عام 1966 حيث كانت تعرف بابو زقودي الغربية ثم تحوّلت لوضعها الحالي المهدد بإزالة شاملة بعد اكتمال أعمال تعلية خزان الروصيرص والذي سيغمر الجزيرة التي تتكون من 50 قرية عدد سكانها يفوق ال 40.000 ألف نسمة. عندما قصدنا مدينة الروصيرص لنعبر بحيرة خزان الروصيرص قاصدين جزيرة ابو زقودي قمنا بجولة حول خزان الروصيرص لمشاهدة أعمال التعلية حيث كان الطاقم العامل يعمل بهمة ونشاط وعندما تساءلنا عن أعمال التعلية رد علينا أحد الحاضرين بأن أعمال التعلية تسير بسرعة البرق ومن المتوقع أن تنتهي في القريب وكانت هناك أعين في الضفة الشرقية من البحرية تراغب أعمال التعلية بعين التوجس والخوف من المصير المجهول الذي يهدد سكان تلك الجزيرة التي بدأت تلوح لنا عندما توسط اللنش الذي يقلنا وسط البحيرة وبدأ أهالي الجزيرة يتوافدون إلى الشط ليتقصوا خبر اللنش الذي اقترب من الشط، وربما تعودوا ومنذ وقت بأن كل القادمين إلى الجزيرة في معيتهم أخبار غير سارة بالنسبة لهم، لاعتبار أنّهم موظفين حكوميون يجرون دراسات التعلية وأمور الحصر والعد والتعويض وغيرها من مؤشرات الهجرة. وهذا ما دعا سائق اللنش لقوله أنّ لسان حال هؤلاء يقول..(البيوت غرقت وراك وبرضو زايد في علاك).. نسبة لأن عمل التعلية بالجهة الثانية يمضي على قدم وساق وكأن الجزيرة لم تغرق كاملة بعد انتهاء العمل. تتمتع جزيرة ابو زقودي بطبيعة ساحرة بدأت تلوح لنا عندما توسطنا البحيرة حيث كسى اللون الأخضر المكان من بداية اليابسة إلى مدخل الجزيرة وتجمهر سكان الجزيرة ورّحبوا بنا قبل أن يعرفوا هويتنا. داخل الجزيرة بدأت الصورة تتضح لنا فقد بدأ واضح الوضع المعيشي للسكان من خلال البيوتات البسيطة المكونة من المواد المحلية، منازل أهالي الجزيرة عبارة عن قطاطي ورواكيب من البروش والقش وبعض بيوتات الطين وتلاحظنا تواجد الأطفال داخل الجزيرة أثناء اليوم الدراسي وكانت حركة النساء كثيرة، يخرجن إلى البحيرة لجلب الماء حيث يسرن إلى مسافات بعيدة. ونفر منّا الكثير من الأطفال أثناء سيرنا داخل الجزيرة واحتموا بمنازلهم واخبرتنا إحدى النساء أنّ الأطفال صاروا يهابون أي غرباء تتطأ أقدامهم الجزيرة لخشيتهم من التهجير في ي لحظة. حكاية جزيرة ابوزقودي مع خزان الروصيرص رواها لنا شيخ الجزيرة الضو زكريا يوسف رجل يبدو في السبعينيات من عمره وبدأ حديثه معي بعد أن عرفته على نفسى وقال (والله لو ما قلت إنك صحفية ما كانت بتكلم معاك تب لأننا فقدنا الثقة في أي لجان وأي وفود تجينا لكن نتمنى أن تصل أصواتنا عبر الصحافة إلى كل اصقاع السودان) ثمّ صمت قليلاً وقال.. جزيرتنا دي جزيرة عريقة يفوق عمرها ال 40 عاماً توارثناها عن أجدادنا حيث كنا نسكن في منازل خارج الجزيرة وعندما تمّ إنشاء خزان الروصيرص غمرت مياه منازلنا، وأشار شيخ زكريا إلى منتصف بحيرة الخزان قائلاً منازلنا كانت هناك ولكن مياه البحيرة غمرتها وتمّ ترحيلنا إلى داخل الجزيرة في66 في عهد الرئيس جعفر محمد نميري ولم يتم تعويضنا بل أمرنا بناء منازل في الأماكن العالية داخل الجزيرة ومنذ ذلك التاريخ ونحن نسكن داخل الجزيرة ونتحمل معاناة الخريف حيث يقوم بتكسير المنازل إضافة إلى إننا صرنا معزولين داخل الجزيرة وفي حالة ارتفاع الموج لا نستطيع مغادرة الجزيرة ولا نستطيع قضاء حوائجنا من الأسواق وحتى العلاج، والآن وجدنا أنفسنا مواجهين بخطر أشد من العزلة منذ أن بدأت أعمال تعلية خزان الروصيرص أدركنا أنّ الخطر يحدق بنا واننا سنواجه مأساة 66 مرة أخرى ولكن هذه المرة الخطر قاتل، فمياه البحيرة لن تغمر منازلنا ولكنّها ستغمر الجزيرة بأكملها إرث الأجداد ومصدر الرزق الذي توارثناها إلى جانب أنّ الجزيرة تمثّل لنا ذكريات وتاريخ فسكان الجزيرة من قبيلة الهمج و ينحدر أصلنا من سلالة سلاطين الفونج ولنا داخل الجزيرة أماكن نعتبرها أثرية شهدت طفولة وشباب أجدادنا وابنائنا ورغم ذلك ستزال الجزيرة لا محال فقد زارنا وفد من وحدة تنفيذ السدود وأكدوا لنا الجزيرة ستزال و وعدونا بالتعويض إضافة إلى زيارة رئيس الجمهورية الذي أخبرنا بأنّ المناطق الواقعة جنوب الروصيرص جاءتها ليلة القدر وانتظرنا ليلة القدر كثيراً، ولكن لم نر ولا حتى بشارة. ويواصل شيخ الضو حديثه عن أحوال السكان داخل الجزيرة قائلاً سكان الجزيرة من قبائل الهمج تتألف الجزيرة من 50 قرية يفوق عدد سكانها ال40.000 نسمة يعملون بالصيد و الزراعة، الأوضاع الاقتصادية للسكان متدنية ويعانون من الفقر لأنّ اعمال الصيد تتم بالطرق المحلية ولا نملك أدوات حديثة للصيد حيث نستخدم الشباك المحلية ونبيع كيلو السمك للسماسرة ب 2 جنيه فقط، وكذلك الزراعة دخلها بسيط ولا يكفي احتياجاتنا نقوم بزراعة الطماطم والسمسم. ونجد صعوبة في ترحيل المحصول للسوق فنقوم ببيعه بثمن زهيد للسماسرة. وعن الانتقال من الجزيرة إلى مدينة الروصيرص أخبرنا شيخ الضو أنّ الانتقال يتم عبر الفلوكة وكان في السابق يوجد بنطون ولكنّه متعطل، وأضاف أنّ أوضاع سكان الجزيرة تسوء في الخريف بسبب ارتفاع الأمواج وصعوبة الخروج من الجزيرة وانتشار الأمراض وعلى رأسها الملاريا. إضافة إلى افتقار الجزيرة للمراكز الصحية و نضطر للذهاب للروصيرص لتلقي العلاج وفي الحالات الحرجة يموت المريض أحياناً في الطريق قبل الوصول الى المستشفى، ويواصل شيخ الضو حديثه أنّ الجزيرة تعاني من الجهل والأمية لأنّ أغلب أطفال الجزيرة لا يذهبون إلى المدارس بسبب بعد المسافة من الجزيرة إلى المدرسة، فأقرب مدرسة مسيرتها ثلاث ساعات إضافة إلى أنّ الكبار فاتهم فرصة التعليم وفي وقت نفكر فيه بمدنا بتعليم الكبار لإزالة الجهل ورفع المستوى العام وتوفير خدمات التعليم والصحة وجدنا أنفسنا مهددين بالتشرّد وطمر تاريخنا وإرثنا ومصدر دخلنا في قلب البحيرة، ولا ندري ما مصيرنا نطالب رئيس الجمهورية بالنظر في أمرنا والإيفاء بالوعود وخصوصاً أنّ أعمال التعلية قاربت على الانتهاء وليست هناك أي خبر عن مصيرنا ولم يزرنا أي مسؤول ليخبرنا عن مصيرنا. قصدنا محلية الروصيرص وقابلنا معتمد الروصيرص العميد محمد يونس وطرحنا عليه تساؤلاتنا عن مصير جزيرة ابو زقودي، والذي بدأ حديثه لنا قائلاً مصير سكان جزيرة ابوزقودي من كبرى هموم المحلية وخصوصاً وأنّ إدارة السدود تتعامل مع الأمر بغموض شديد وحتى هذه اللحظة لا يوجد أي شيء واضح بخصوص التعويضات من الجهات المنفذة بالرغم من أنّ التعلية مستمرة وبصورة سريعة، ولم يأتنا أي شيء بصورة رسمية ليوضح لنا الأمر في ما يخص المتأثرين من تعلية خزان الروصيرص. وبالرغم من زيارة اللجان للمنطقة واحصاء الأضرار وجزيرة ابوزقودي تتكون من 50 قرية يفوق عدد سكانها 40.000 نسمة مهددين بالخطر ومن جانبنا نطالب إدارة السدود بالإيفاء بحقوق المتأثرين تفادياً لأي مشاكل قد تواجه المواطنين وتقع على عاتق المحلية.