بقلم: محمد الحسن أحمد محجوب 1 – 3 مقدمة منذ عقود لم يشدني موضوع مكتوب في السياسة السودانية كما فعلت سلسلة مقالات الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان عن التسلسل التاريخي التوثيقي لحق تقرير المصير لجنوب السودان. وأسباب إهتمامي وإعجابي (الذي بادرت وابلغته إياه وهو لا زال يواصل الكتابة فيه) متعددة. فهو من ناحية، أول مجهود متكامل، أو أقرب لذاك، يهتم بهذا الشأن الذي زلزلت مآلاته دولة السودان- كيانا و جغرافية و مجتمعاًو إقتصاداً. ثم هو من ناحية أخرى جهد منسق جمع فيه ما لم يتيسر لغيره أن يلم به في مجمله (وأقِر أن الكثير مما ورد فيه لم يكن في حدود علمي). و كذلك وجدته توثيقاً متميزاً حاول فيه الكاتب جهده، و نجح الى حد كبير، في أن يجرده ما أمكن من الرأي الشخصي و الإنحياز أو الإستنتاجات الذاتية (و لو لم يخل من النزر من التحليل) . وهو ما أشاد به الكثير مِن مَن عقبواً على المقالات. و قد قادني اهتمامي بالموضوع إلى متابعة ما نشر من تعليقات و تعقيب عليه ( و أود أن أشكر الدكتور سلمان على المساهمة بتزويدي بما لم يصل إلي). و قد زاد من حرصي على المتابعة إهتمام الكاتب بالآراء و المقترحات التي تصل اليه. و من حرصي أن يكون هذا التوثيق متكاملاً فقد أرسلت له طالباً أن يضيف الى المقالات ما يصل إليه من وثائق لتكتمل الصورة، ثم أن يهتم بنشر المقالات في كتاب،. و سرني كثيراً أن وجدت مقترحاتي القبول لديه. لقد هممت بالكتابة معلقاً على سلسلة المقالات فور إنتهاء الكاتب منها، قبل أن يسبقني من هم أكثر همة و أطول باعاً. فآثرت الإنتظار لعل في ما يرِد منهم ما يغنيني عن هَم الكتابة. و قد صدق حدسي، إذ تضمنت التعقيبات بعضاً مما أردت أن أكتب حوله، فأراحتني. و لكنها بالمقابل أثارت بعضاً من اللغط و الجدل أردت أن أدلي فيه بدلوي، فربما أثرى ذلك النقاش الذي أرجو أن يتواصل لتنجلي بعض الجوانب التي تحتاج إلى المزيد من التمحيص. عن المقالات و رأي الكاتب في آراء المعلقين لقد عاودت قراءة المقالات عدة مرات للمزيد من الإستيعاب و التحقق، و للمقارنة مع بعض ما وصلني من الوثائق المتعلقة بموضوع المقالات. و للإيجاز (إن أمكن) و للتيسير على القاريء في متابعة ما أود أن أعبر عنه، أسرد النقاط التالية: أولاً: ما جاء في المقالات التسع: 1. جاء عنوان مقالي هذا (قراءة في التوثيق التاريخي) لأن سلسلة مقالات الدكتور سلمان – من منظوري الشخصي – هي توثيق للأحداث من واقع التاريخ و بالوثائق. فقد نجح أيما نجاح في متابعة التطورات من ماقبل بداية المفاوضات، بدءاً بتكوين مجموعة الإيقاد، مروراً بنظام منقستو هايلي ميريام و تأثيره خلال فترة حكمه على مشكلة الجنوب، و التداعيات التي تلت سقوطه، ثم مقررات مؤتمر توريت و ما تلى ذلك من إجتماعات و اتفاقات، و حتى توقيع بروتوكول مشاكوس الذي أدى إلى اتفاقية نيفاشا. وقد أورد الدكتور سلمان (11) واقعة و مؤتمراً بين انشقاق مجموعة الناصر في سبتمبر عام 1991 وحتى توقيع اتفاقية نيفاشا. و لم أجد حدثاً هاماً خلال هذه الفترة لم يتطرق اليه الكاتب. و بذلك أعتبره توثيقاً هاماً، متكاملاً. و من ما يحسب للكاتب أنه أرخ للأحداث و الشهود أحياء (كما ذهب إليه الأستاذ علي عسكوري) مما يتيح الفرصة للجميع للتعقيب و التفنيد أو الإثبات, و هذه محمدة كبيرة. 2. في ما اورده الدكتور سلمان عن مسئولية الدكتور غازي العتباني في المحادثات (والذي ورد في المقال الأول في السلسلة، ولعله كان الشرارة التي أطلقت الطاقة لكتابة السلسلة)، فإن لي رأياً مغايراً. ففي هذا الجانب، و هو الجزء الذي أبدى فيه الكاتب رأياً تحليلياً، قرأت منظورين مختلفين. أ) فالدكتور غازي يرى أنه جاء للمباحثات بعد إعلان مباديء الإيقاد و ماسبقها من مباحثات في فرانكفورت و أبوجا و ما نجم عن ذلك من إقرار لحق تقرير المصير. و لذلك كان يرى أن مهمته في اجتماع يوم 22 سبتمبر عام 1994 مع ممثلي الايقاد هي {إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد}. و كما ورد في المقالات، فقد ذكر الدكتور غازي في كلمته في ذلك الإجتماع أن {مصير السودان كان قد تحدد في عام 1956 عندما نال السودان استقلاله}. و تلك دلائل على أن رأي و موقف الدكتور غازي الشخصي هما ضد تقرير المصيرو لم يتبدلا. ب) ولكننا إذا قرأنا ما تبع ذلك من تطورات، نذكر منها ما ذكره الدكتور غازي العتباني للسيدة هيلدي جونسون من أنه {لم يكن هناك تطابقٌاً في الآراء حول بروتوكول مشاكوس داخل الحكومة}، و رأيه حول {إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة ومن ثم سياسة وطنية موحدة تجاهها}، ثم أخيراً استبداله كرئيس لوفد المباحثات بالنائب الأول لرئيس الجمهورية،نجد أن جميع ذلك يشير إلى أن موقفه الشخصي كان يختلف عن موقف قيادة الدولة، مما قادها لإستبداله. ج) أما توقيعه على بروتوكول مشاكوس فيأتي في سياق كونه ممثلاً للحكومة و يأتمر بما فوضته، بغض النظر عن آرائه و مواقفه الشخصية. لذلك لم أر تناقضاً في ما أورده الدكتور غازي من أن دوره كان التكيلف لمرة واحدة لقيادة وفد مباحثات السلام في كينيا. و هو حدث واحد من سلسلة أحداث تلت. 3. لعل أهم ما جاء في المقال الثاني (إعلان فرانكفورت ومسؤولية انفصال جنوب السودان) هو التغيير السريع (و ليس المفاجيء في رأيي) في موقف جناحي الحركة الشعبية من حق تقرير المصير. أ) فقد ظلت الحركة توحي بأنها نشأت على مبدأ السودان الموحد (السودان الجديد حسب ما جاء في المانيفستو في 1983). و لكن بمجرد إنشقاق فصيل الناصر برزت فكرة تقرير المصير. و للمرء أن يتساءل: كيف لقيادات تاريخية أن تبدل موقفها من قضية محورية وردت في صلب أولوياتها لمجرد إختلافها مع قيادات أخرى و إنشقاقها عنها؟ ثم ما لبث الفصيل الرئيسي للحركة أن أعلن ذات الموقف (ضمن عدة بدائل – تمويهاً من وجهة نظري) في اجتماع عقد في 6 سبتمبر عام 1991 بمدينة توريت. و يتكرر السؤال: ما الذي استجد حتى قامت قيادة الحركة (الأصل) بتبني خيار تقرير المصير كأحد البدائل؟؟ هل كان ذلك لقطع الطريق على مجموعة الناصر من كسب التأييد المتوقع لفكرة تقرير المصير؟ لا أظن. إن هذا التبدل ما هو إلا إفصاح عن ما كانت النية قد إنعقدت عليه. فتاريخ النضال الجنوبي للإنفصال و الإستقلال منذ أحداث توريت 1955 لم تتبدل استراتيجيته، بل إستخدم تكتيكاً ذكياً بتبني مبدأ السودان الجديد، خشية من رفض دول القارة الأفريقية من تداعيات دعوة الإنفصال على دولها، و خاصة الدولة المستضيفة للحركة حينها(أثيوبيا). و كان الشمال، جميعه، واقعاً تحت حسن الظن و الأحلام الرومانسية بالوحدة الحتمية والمكايدات السياسية بما فوت على الجميع النظر الى ما بعد الكلام المعسول عن الوحدة. و لعل في كلمة رئيس حكومة الجنوب في عيد الإستقلال الأول ما يكفي للتدليل على ذلك. ب) الأمر الآخر ، و الذي أشار اليه الكاتب، هو {موافقة حكومة السودان ببساطةٍ شديدةٍ ومتناهية ولأول مرةٍ في تاريخ السودان على حقّ شعب جنوب السودان في تقرير مصيره دون استبعاد أي خيار}. و الأمر هنا يستوجب التوقف عنده كثيراً و البحث في دوافعه و مصدره. هل كانت تلك استراتيجية الجبهة القومية الإسلامية؟ أم كان خياراً فرضته ظروف الإستنزاف المادي و البشري للحرب؟ أم كانت هنالك دوافع أخرى لا نعلما حتى الآن، و ربما يأتي يوم تتبين في الخيوط؟ أرى أن هذا المبحث يحتاج جهداً كبيراً لتتبين الحقائق للتاريخ. 4. تطرق المقال الثالث (مبادرة السلام من الداخل) لموضوعين هامين. أ) فقد أبرز الإزدواجية التي تعاملت بها الحكومة في اتفاقاتها مع الحركات الجنوبية حيث تعترف بحق تقرير المصير لجنوب السودان وتتحدّث في نفس الوثيقة على ضرورة الحفاظ على وحدة السودان. ب) كما وثق المقال لتأطير دستورية حق تقرير المصير بإدراجها في دستور 1998. [email protected]