بقلم حسين الزبير (1) لا تخطئ العين حركة اهل الانقاذ هذه الايام ( و هذا شاملا المؤتمرين ) في سعيهم الحثيث لتجميل وجه الحركة وطلاء النقاط السوداء في جلبابها بلون ابيض ناصع، ما استطاعوا الي ذلك سبيلا، استعدادا لضحي الغد الذي لاحت بشائره. فالشعبي يتبرأ من كل مخازي الانقاذ، بما في ذلك ما حدث في العشرية الاولي، بقوة عين يحسده عليها كل راصد، و بما في ذلك مؤتمر الحركة التي حظي بقبول و مشاركة كا الحركات الاسلامية في الجوار. اما الوطني فقد بدأوا يركزون علي انجاز واحد: مظاهر التدين الواضحة للعيان في ارتياد الناس للمساجد (ولم يشيروا الي دخولهم السوق) وزي النساء ، وانا اضيف من عندي “الدقون” وغرة الصلاة التي كانت علامة في جباه كبار السن في زماننا، و اصبحت اليوم شا رة للمؤتمر الوطني، لكن عليك ان تقرنها بالشالات و الجلاليب الناصعة البياض لتعرف اهل المؤتمر الوطني. و خفتت الاصوات التي كانت “بثلابة كباري و سد قادننا قد”. فماذا يقولون الآن: 1. ان من اهدافهم السامية بناء امة تؤمن بالله ربا وبمحمد قائدا و نبيا 2. الانجاز الكبير: تدين الامة السودانية و توجهها الي الله بصورة لا يمكن ان ينكرها احد 3. ان الابتلاءات الربانية هي التي انتجت اخطاء الانقاذ، و بسببها اخفقوا احيانا 4. ان ليس فيهم من طلب الدنيا، و ان دعوتهم ليست للسلطة و لا للجاه بل هي لله وكما ترون فان كل بند من هذه البنود تحتاج لعريضة طويلة من الشعب السوداني ليفندوا ادعاءاتهم، و لكنني ساناقش في هذا الجزء الاول من المقال مسألة مظاهر التدين التي عمت القري و الحضر. استميح الشعب السوداني العظيم عذرا في التحدث نيابة عنه لاهل الانقاذ فأقول لهم اننا نعترف و نقر بان الشعب السوداني منذ عهد الاستعمار كانت به جاهلية نتجت من التأثر بثقافة المستعمر ، و ظلت سائدة حتي وقت تفتق عبقرية اهل الاسلام السياسي بالاتفاق مع جعفر نميري بفوانين سبتمبر سيئة الذكر. نشأت الطبقة الوسطي، اكثر الطبقات استقرارا و رخاءا في ذاك الزمن الجميل ، من خريجي مدارس المستعمر و كلية غردون، الذين سودنوا وظائف الدولة كلها مع قدوم الاستقلال. و بالارث الذي تركه لهم المستعمر من نظم و قوانين، ظل السودانيون ينعمون بالرخاء الاقتصادي، و بالأمن و الامان بفضل تلك النظم التي كانت تحكم البلادمن اقصاها لادناها، و كنت تستطيع ان تضبط ساعتك علي مواعيد قطارات السكة حديد وصولا او مغادرة..كانت الثقافة الشائعة عند الموظفين ان يكونوا في مكاتبهم في الساعة السابعة تماما وينتهي دوامهم في الثانية ظهرا، حيث يذهبون لمنازلهم لتناول طعام الغداء و القيلولة (Siesta) ثم يخرجون من بيوتهم ليلتقوا في مقاهي انيقة ، اذكر علي سبيل المثال “الاتيني”، ومع رشفات القهوة التركية كانوا يتفاكرون في امر السهرة و اختيار المكان. و بحلول المغرب و صوت الاذان الآتي من جامع فاروق يقوم الذين يحافظون علي صلواتهم الي مجموعات العمال و التجار الذين يصلون جماعة، و بعد الصلاة تستمر الجلسة قليلا و يتفقوا علي مكان السهر': رويال، الشرق، ليدو، المقرن، حدائق امدرمان، مطعم المطار…الخ حيث كانت هذه الاماكن تقدم كل الخمور المصنعة محليا و المستوردة ، و تقدم كذلك ما لذ و طاب من الطعام. و بانتهاء السهرة يعود معظم المتزوجون الي منازلهم ، و للعزاب جولة اخري في اماكن معروفة و محروسة بالبوليس. وهذه النشاطات المنافية لتعاليم ديننا ، كانت تتم بموافقة الدولة و في ظل حراسة اجهزتها. و الأهم من ذلك ان الذين كانوا يمارسون هذه العادة كانوا مدركين ان هذه الممارسات حرام في ديننا، بل هي كبائر، و كانوا يحلمون و يطمعون في توبة قبل الممات و يسألون الله حسن الخاتمة. لماذا افصل هذا السلوك الاجتماعي في ذلك الزمان؟ هدفي هو مقارنة احوال الشعب في تلك الفترة باحوال الناس اليوم في ظل دولة “هي لله لا للسلطة و لا للجاه، نحن للدين فداء” و حشمة المرأة المحجبة. زمان رويال و حدائق الموردة و المقرن ، في رأيي الشخصي ، من اكثر الاوقات التي اتسمت بطاعة الله و رسوله ، وتقوي العباد في توادهم و تراحمهم ، و شهامة السوداني في ستر العورات و الدفاع عن الاعراض. و لا اقصد بالعورات هنا ، العورات الجسدية بل اقصد بها عورات الاسر الفقيرة في الاحياء، التي كان يسترها رجال يتصدقون سرا بعد حلول الظلام و لا يتبعون صدقاتهم منا و لا اذي. في ذاك الزمان كان الموظف الواحد يعول اسرة ممتدة قد يفوق عدد افرادها العشرين، و عندما يثقل كاهله مسؤوليات هذه الاسرة ، كان يبذل ما في وسعه للوفاء بمتطلبات الاسرة، منها ان يقتصد فيما يصرفه علي نفسه، فيستبدل ابو جمل بابو تراكترين، فيتصادف احيانا ان يتزامن ذلك مع قدوم التوأمين، فيحلف بالله ان لا يذوق الخمر بعد ذلك و تكون بداية توبته و ارتياده المسجد مع والده لاداء الصلوات الخمسة. لم يكن يمر العيد و لا يلبس افراد افقر اسرة الجديد في العيد، فالموسرون في القرية كانوا يشترون لهم قبل ان يشتروا لاسرهم. كان الموظف من هؤلاء يعود ثملا في الثلث الاخير من الليل في ايام الخميس و هو يدندن باحدي اغنيات حسن عطية ، و يجد والده يقوم الليل فيسكت عن الدندنة و يعتذر لوالده، و يدعو له الوالد بالتوبة و الهداية. كانت كل بنات الحي اخواته و كل كبار الحي اعمامه. و كان هذا الرجل المسمي بالفقر هزيلا ضعيفا يزور بعض البيوت متخفيايستره احيانا عفة و عزة الفقير ، و بمجرد ان يعلم بامره احد رجال الحي، كان يدفن الفقر حيا في مكانه بحل دائم لمشكلة الاسرة، حتي يظهر مرة اخري في بيت آخر. وفي ذاك الزمن كان هنالك اناس يبحثون عن العورات ليغطوها ، تماما كما يفعل النوبيون بالاجزاء العارية من اسقف بيوتهم و يغطوها فاصبحت الكلمات التي توصف هذا العمل يوصف بها الشخص الذي يقوم بستر العورات في القرية، و بهذا المعني مجد الفنان محمد وردي هؤلاء في احدي اغنياته النوبية. اما الفساد المالي فقد كان جريمة كبيرة و مستهجنة ، من يأتي بها تنبذه حتي اسرته. اذكر في عام 1957 و نحن طلاب بمدرسة عبري الوسطي ، اختلس و كيل بوسته في غرب السودان مبلغا يزيد عن الالفين جنيه بقليل، فنشر اسمه في الجرائد، و حكم عليه بالسجن عددا من السنوات، و في اجازة مدرسية و نحن في طريقنا من وادي سيدنا الي البلد في عام 1959 سمعنا بانه في نفس القطار مرحلا لسجن الدامر فتجمع الناس حوله و كأنه كائن قادم من كوكب آخر. كانت تعاليم الدين مطبقة في كل معاملات الناس، في صلة الرحم ، في اخراج الزكاة و اعطائها لمن يستحقون، و في حقوق الجار ، و تحري الحلال في الكسب. كان نفس هؤلاء الموظفون الذين يعاقرون الخمر يؤدون وظائفهم بكل اخلاص و تجرد و يتعاملون مع المال العام بامانة لو حدثت اليوم من احدهم لوصفوه بالعبط و السذاجة. كانت كشوف تنقلات المعلمين تذاع في المذياع و ينفذها المعلم المنقول من احدي مدارس الشمالية الي حمرة الوز الوسطي دون جدال. كانت المستشفيات في نظافتها و ادارتها وتقديمها للرعاية الصحية تماما كمستشفيات شمال امريكا و اوربا. و الآن دعونا نوصف سودان الانقاذ اليوم، و قد امتلأت المساجد بالمصلين ، و تحجبت المرأة، و اصبح التكبير و التهليل يستخدم لاغراض الدنيا و ليست بالنية الصادقة التي هي شرط لقبول العمل. انتشرت “الدقون” بمسمياتها المختلفة ، و غرة الصلاة التي كنا نراها في جباه اجدادنا ، نراها في جباه عددكبير من الناس، من طلاب الجامعات الي اعضاء المؤتمرين… و التكبير و التهليل يتردد بمناسبة او بدون مناسبة- لكن دعونا نري أثر ذلك علي المجتمع: 1. الفقر و الجوع رجل شديد البأس يمشي بين الناس حاملا اسلحته الجبارة، و هي ليست من صنع مصنع اليرموك بل من صنع الحزبين … آثار عدوانه المدمر امتد لاسر كانت تعتز بشرفها و تحمد الله علي نعمة كسب الرزق الحلال … هذا الغول المسمي بالفقر و الجوع جردت هذه الاسر الشريفة من اغلي قيمها فاصبحت تقتات من ما تأتي بها بنت او بنتين من شارع عبيد ختم الذي تعدل اسمه لاسم آخر. 2. اصبحت السرقة و الفساد المالي و الاعتداء علي المال العام حلالا، بل فهلوة و شطارة ، لدرجة ان الذي يسرق المليار يوصف بالمغفل (حد يسرق مليار واحد)، و قد كنت في مجلس اجلس بعيدا عن المجموعة ، و كان احدهم يشتكي من قلة راتبه ، فرد عليه احدهم بانه في موقع يستطيع ان ياكل منه الشهد، فقط عليه التصرف بذكاء. و هذا لا يعني شيئا آخر غير تشجيع الحزب الحاكم علي الفساد من خلال اعضائه. 3. وصل الفساد لكل مفاصل المجتمع… فتدهورت معطم البني التحتية و الخدمات الرئيسية، الجامعات السودانية التي كانت مضرب المثل في العالم كله ، اصبحت دكاكين تمنح فيها الدرجات العلمية لمن يدفع. .. و المصيبة الكبري ان هذا النوع الذي اشتري الشهادة بماله افسحوا لهم المجال ليحلوا محل اساتذة تأهلوا في الزمن الجميل ، و قضوا سنوات عمرهم بين صفحات الكتب بحثا و تحضيرا – أليس هذا تدمير للتعليم الجامعي مع سبق الاصرار و الترصد؟! هذا قليل من كثير من مظاهر غياب التقوي و تطبيق شرع الله. والتفاصيل الدقيقة للقساد و تعطيل شريعة رب العالمين معروفة لديكم جميعا. كان في امكان اهل الانقاذ ان يجعلوا من دولتهم التي طبعوها بمظهر الدين ، ان يجعلوا بها السودان نموذجا للدولة الاسلامية الحديثة، لو انهم اتبعوا ما جاء في القرآن العظيم (و ان حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل) انا لااقول ان ثقافة شرب الخمر امر حميد ، لكن قارنوا بين ذاك الزمن و زمانكم – ايهم اعدل و اقرب للتقوي؟! ربي ظلمنا انفسنا فابتليتنا بهذا الانقاذ فرضينا به، و تحملناه ما استطعنا ، فمسنا الضر و انت ارحم الراحمين. اللهم انك عفو كريم تحب العفو فاعفو عنا و اصرف عنا هذا البلاء ، انك علي كل شئ قدير و بالاجابة جدير. و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين ، و اليلاة و السلام علي اشرف المرسلين.