خلال الأسبوع الماضي, قامت الشاعرة اليابانية: «كيكو¬كوما» Keiko-Koma, يرافقها المؤلف الموسيقي «سيتو¬تادا ميتسو» Seito-Tada Mitsu, والمدير الاداري «يوشيميكي» Yoshimeki, بزيارة الى لبنان, استمرت بضعة أيام, زاروا خلالها مدينة «صور» واستطلعوا ميناءها الفينيقي القديم, حيث من المقرر أن يقام حفل موسيقي ¬ بصري ¬ شعري, وتحت عنوان: «السلام العادل, والحوار بين الشعوب». ولقد تبنَّت هذا المشروع الثقافي ¬ الفني, بلدية صور, وبرعاية من اللجنة اللبنانية لمهرجانات صور والجنوب, وذلك خلال النصف الثاني من شهر آب اغسطس المقبل. ويتابع السيد محمود حلاوي نائب رئيس بلدية صور هذا المشروع الثقافي ¬ الفني منذ بداياته. وعقد اجتماع مع رئيس البلدية عبد المحسن الحسيني وبحضور جورج غنيمة مسؤول النشاطات الثقافية في البلدية وأعضاء آخرين. ثم قام الوفد بزيارة لمغارة «جعيتا», بهدف دراسة امكانية احياء حفل داخل المغارة مع الصوت والشعر والضوء. وبادَرَت محطة N.B.N التلفزيونية فأجرت مقابلة مطوَّلة مع الوفد. وسبق ل«الكفاح العربي» أن نشرت في الشهر الماضي شباط فبراير دراسة شاملة عن مؤسسة N.P.O.Koma, التي ترأسها وتمثلها الشاعرة كيكو¬كوما. لقد قامت هذه المؤسسة بحفلات عدة في الهواء الطلق, في أنحاء اليابان كافة, وفي «تنزانيا» وأمام عشرات الألوف من المشاهدين المستمعين, وكذلك في إيران «برسيبوليس» والحبشة وغيرها. وتأمل إحياء المزيد من العروض وتحت العناوين نفسها في البلاد العربية وأنحاء العالم كافة. ممم وتميَّزَ الديوان الشعري الرقيق, الذي أصدرته الشاعرة كيكو¬كوما, تحت عنوان «اعادة اكتشاف أساطير كوغوريو», الصادر باللغتين اليابانية والانكليزية في طبعة انيقة مزَّينة بالصور الملوّنة المأخوذة من الطبيعة اليابانية الساحرة بمداها وخضرتها وزهورها, بكونه شِعر «مناجاة» كونية, يفتح نوافذ عديدة ومتعددة على الأمل والمستقبل, ويحفَّز على تخطي مراحل اليأس والاحباط, وذلك بأسلوب شفَّاف اقرب الى الدعاء, الذي يتوق الى التوحد بالطبيعة, وإلى الجمع بين الماضي والحاضر, من خلال القِيَم المستمرة في النفوس الصادقة. ويطرح فكرة «الوحدة» بين البشر حول الحق والخير والجمال. وتتفق كيكو¬كوما مع تاداميتسو على ان الكلمة «الشعر» هي طريقة نقيّة صافية «للحوار». والموسيقى «النغم» هي ارقى السُبُل في «التعبير», والتواصل بين الناس. ففي الموسيقى الصادرة عن الأحاسيس والمشاعر الإنسانية, تزول الفوارق والرتب والمراتب, وتتأكد النظرية الحقيقية «للسلام», التي تقول: لا يعمّ السلام بانتهاء الحرب ووقف القتال فقط. فالسلام في أبعاده العميقة هو في تحقيق «الإنتاج» الإيجابي في كل شيء, حيث يتجلَّى الابداع الفني والثقافي. فلا سلام في اجواء قمع الحريات, ولا سلام عند تفشي البطالة وغياب الضمانات الصحية والاجتماعية. ولا سلام بتشويه البيئة… فالسلام, هو في ازالة كل هذه العقبات, هو, في مصالحة «الذات», وفي أن نتصالح مع أنفسنا ومع الآخرين. هو في أن نتصالح مع الطبيعة, وأن نؤمن جميعاً بلغة المحبة, لنعيد بذلك كتابة تواريخنا, واستعادة وهج ونور قيمنا وقيم أجدادنا, ولنفهم ونتفهَّم اكثر طبيعة تركيب نسيج «حاضرنا», لتتوَّضح امام بصرنا وبصائرنا رؤى «مستقبلنا». وعند السؤال حول الدافع الذي شجع كوما وتادا ميتسو للمجيء الى لبنان, وبالتالي الى مدينة «صور» بالذات, أجاب سيتو¬تادا ميتسو: اعتقد بأن الأفكار البيضاء الهادفة الى الخير تتواصل بين الشعوب, وتلتقي بموجبها الأهداف. فالأمم والجماعات والأفراد تتقاطع باستمرار وذلك عبر الرحلات, الموسيقى, الشعر… فتنشأ العلاقات وتتركز الرؤى. فأحاسيس البشر وأينما كانوا هي واحدة وذلك برغم الخصوصيات والتنوُّع, فالاحساس ب«الألم» هو واحد بين البشر, والشعور «بالحب», هو واحد, وكذلك «الظلم», «السلام», «الحرية»… وهذا ما يشكِّل القواسم المشتركة بين جميع افراد الجنس الآدمي. يقول السفير الياباني في لبنان, السيد «مورا كامي»: «ان اليابان تمكَّنت بفضل رؤاها الصائبة واستشرافها للمستقبل, من المحافظة على هويتها الخاصة من جهة, ومن التوجه الى كل جديد من جهة ثانية. وهذا ما أسهم في تكريس وتوطيد ما يعرف ب«طريقة التفكير اليابانية». ممم ويعتبر علماء الاجتماع, أن «الشخصية اليابانية», تتمتَّع بقيم شبه متكاملة. وبمرور الزمن, شكل الايمان بتلك القيم والسير على هداها, احد اهم العوامل التي وحدت اليابانيين في هوية وطنية واحدة. لذلك كان لاحترام العادات والتقاليد, الفضل الأكبر الذي حصن وحمى الوجدان الشعبي الياباني من التشتت والضياع بوجه الغزو الثقافي ¬ التقني الغربي, وخصوصا من قبل الولاياتالمتحدة الاميركية. ورغم ان الشعب الياباني وبمختلف تنوعاته القبلية, متحدر بغالبيته الساحقة من اجواء ومناخات «قروية», ومرتبط ارتباطا وثيقا وحميما بالطبيعة والزراعة, إلا انه اتخذ مواقف ثابتة ومنضبطة, فسخر «التقنية» بكل مفاهيمها ومراميها, ووظائفيتها التطبيقية لمصلحة التقدم العام, وذلك دون أن يتخلى عن الخصائص القومية, والهوية الوطنية الى حد بعيد. والمعروف ايضا, انه في الفترة التي تراجع فيها منطق الحروب, برزت وانتشرت بقوة ووضوح القيم الصادرة عن المبادئ «الكونفوشيوسية» وتسمى «بوشيدو», المرتكزة على التحلي بالوفاء والعزم وبذل الجهد, والعمل على تحقيق الوحدة, وتمتين عرى التضامن, والداعية الى التنشئة الجيدة والصالحة للاطفال. وهكذا, عمَّت تلك المبادئ, وتغلغلت بين مختلف شرائح المجتمع الياباني, وأرست الدعائم والاسس, التي سهلت السبل والاقتناع للبلاد, أن تنهض من الكبوات والكوارث, التي ألمت بها, وخصوصا خلال الحرب العالمية الثانية وتداعياتها. واليوم, فإن مختلف وسائل الاعلام اليابانية, تسلط الضوء وبشكل مكثف على مجمل تلك المبادئ, والتي نلمس أثرها عبر الافلام السينمائية, والبرامج والمسلسلات التلفزيونية, والروايات والقصص, والشعر والاعمال الموسيقية والمسرحية اليابانية. وعند زيارة الوفد لمغارة «جعيتا», الذي يعود تشكيل تضاريسها ومسلاتها الى ملايين السنين, ابدى الوفد اعجابه الشديد بعمل الطبيعة المدهش. وقدم الدكتور نبيل حداد كل الشروحات العلمية والتاريخية عن المغارة, وعرض للوفد افلاماً وثائقية عدة, وأفلاماً عن نشاطات ثقافية وفنية اقيمت في المنطقة المائية من المغارة, مما اثار دهشة وحماسة «تادا ميتسو» وكيكو¬كوما, على التفكير بإحياء حفل خاص في هذا الجو الساحر, يصور تلفزيونيا, ويقدم فيه, الشعر والموسيقى, والاضاءة المتميزة, ولا سيما أن «صدى» الصوت الذي يتردد في جوف المغارة له رنين خاص ووقع خاص, عندما تستعمل آلات النفخ الموسيقية, المصنوعة من الخشب أو القصب, او الآلات الوترية كالكمان والقانون والعود. الموسيقار سيتو ¬ تادا ميتسو عندما تنطق الشاعرة, كيكو¬كوما, بلغتها اليابانية, يشعر المستمع ¬ وقبل فهم الكلام عبر الترجمة ¬ أنه امام نبرة صوت, هو مزيج من الصدى الأنيق لنزول موقع لنقط الماء, المنزلقة عن أوراق الزهر الخضراء, لتصب في اناء صاف من الكريستال الشفاف النقي! وعند لحظات الإصغاء, توحي للمتكلم بكامل الطيبة واللهفة والانتباه, كمن يقرأ المزاج, بالاضافة الى روح الكلام. أما, الموسيقار, سيتو¬تادا ميتسو, فهو قليل الكلام, وممسك بأدق التفاصيل المشهدية, على اناقة لافتة, فهو يبدو «العين والآذن» للحفل, اي المشهدية البصرية والارتجال الموسيقي. ولقد عبر دائماً عن مكنونات أحاسيسه وشعوره, بأنه نذر نفسه لحمل رسالة السلام والتسامح عبر الموسيقى والشعر والحوار بين الشعوب, والتي يعتقد بأنها رسالة الخلاص البشري… بمعزل عن العرق واللون والقومية والدين. غازي قهوجي