مناوي: المدن التي تبنى على الإيمان لا تموت    الدعم السريع يضع يده على مناجم الذهب بالمثلث الحدودي ويطرد المعدّنين الأهليين    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالفيديو.. عودة تجار ملابس "القوقو" لمباشرة البيع بمنطقة شرق النيل بالخرطوم وشعارهم (البيع أبو الرخاء والجرد)    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    شاهد بالصورة والفيديو.. حكم راية سوداني يترك المباراة ويقف أمام "حافظة" المياه ليشرب وسط سخرية الجمهور الحاضر بالإستاد    شاهد بالفيديو.. مودل مصرية حسناء ترقص بأزياء "الجرتق" على طريقة العروس السودانية وتثير تفاعلا واسعا على مواقع التواصل    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بالصور.. أشهرهم سميرة دنيا ومطربة مثيرة للجدل.. 3 فنانات سودانيات يحملن نفس الإسم "فاطمة إبراهيم"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (10 – 14)
نشر في حريات يوم 09 - 12 - 2012


د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
كما ذكرنا في المقال السابق فإن اتفاقية مياه النيل لعام 1959 تتكوّن من ديباجة وثمانية أقسام وثلاثة ملاحق. تتناول الديباجة ثلاث مسائل: الأولى تتعلّق بالحاجة إلى مشروعاتٍ لضبط نهر النيل ضبطاً كاملاً ولزيادة إيراده للانتفاع التام بمياهه لصالح مصر والسودان، والثانية تتعلّق باحتياج هذه الأعمال إلى اتفاقٍ وتعاونٍ كاملٍ بين الدولتين لتنظيم الافادة من هذه المشروعات. أما المسألة الثالثة فهي تتعلّق كما ذكرنا سابقاً باتفاقية مياه النيل لعام 1929 والتي تقول الديباجة أنها قد نظّمت بعض الاستفادة بمياه النيل ولكن لم يشمل مداها ضبطاً كاملاً لمياه النهر مما يعني أنها اتفاقيةٌ ناقصة لكنها نافذة.
تتناول الأقسام الثمانية للاتفاقية ستة مواضيع رئيسية هي: تخصيص مياه النيل بين مصر والسودان؛ مشروعا السد العالي وخزان الروصيرص؛ تعويضات السودان عن إغراق منطقة وادي حلفا والترحيل القسري لسكانها؛ مشروعات استغلال مياه مستنقعات جنوب السودان؛ إنشاء الهيئة الفنية الدائمة المشتركة؛ ومطالب دول حوض النيل الأخرى. هذا بالإضافة إلى السلفة المائية التي تمّ تضمينها في ملحقٍ للاتفاقية بدون ذكرٍ لها في بنود الاتفاقية نفسها.
بدأنا في المقال السابق مناقشة المواضيع السبعة الأساسية التي تضمّنتها الإتفاقية. وقد ناقشنا في ذلك المقال بشيئٍ من التفصيل المواضيع الثلاثة الأولى منها (تخصيص مياه النيل بين مصر والسودان؛ مشروعا السد العالي وخزان الروصيرص؛ وتعويضات السودان عن إغراق منطقة حلفا؛). ننتقل في هذا المقال لمناقشة المواضيع الأربعة المتبقّية من المواضيع السبعة.
2
رابعاً: مشروعات استغلال مياه مستنقعات جنوب السودان:
تشير الاتفاقية إلى أنه تضيع كمياتٌ من مياه النيل في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر السوباط، وتضع الاتفاقية مجموعةً من الإجراءات لإقامة مشاريع لزيادة مياه نهر النيل من هذه المستنقعات لصالح التوسّع الزراعي في مصر والسودان، على أن يُوزّع صافي المياه والتكاليف مناصفةً بينهما. وتنصّ الاتفاقية على أن يتولى السودان الإنفاق على هذه المشروعات من ماله وتدفع مصر نصيبها في التكاليف بنفس نسبة النصف المقررة لها في فائدة هذه المشروعات.
غير أن الاتفاقية تُعطي مصر الحق في البدء في أيٍ من هذه المشروعات إذا دعتْ حاجتُها للتوسع الزراعي لذلك. في هذه الحالة تُخْطِر مصرُ السودانَ بالميعاد الذي يناسبها للبدء في المشروع. وفي خلال عامين من تاريخ هذا الإخطار يتقدم كل من البلدين ببرنامجه للانتفاع بنصيبه في المياه. وبعد انتهاء العامين تبدأ مصر في التنفيذ بتكاليف من عندها، وعندما يتهيأ السودان لاستغلال نصيبه فإنه يدفع نسبةً من جملة التكاليف تتفق مع نسبة المياه التي سيحصل عليها، على ألا تتجاوز حصة أيٍ من البلدين نصف الفائدة.
وهكذا أعطت الاتفاقية مصر حقاً أحادياً في بناء أي من مشاريع زيادة مياه النيل من مستنقعات جنوب السودان سواءٌ كان السودان قد تهيأًّ لاستغلال نصيبه أم لا، وسواءٌ كان يوافق على قرار مصر أم لا. كل ما تحتاحه مصر هو إخطار السودان بالميعاد الذي يناسبها وإعطاء السودان فترة عامين ليتقدم لها ببرنامجه للانتفاع بنصيبه.
كما يُلاحظ أن الاتفاقية لا تتضمّن أية إشارةٍ إلى المجموعات المحلية التي تعتمد في حياتها وحياة ماشيتها على بيئة ومياه المستنقعات، والتي ستتضرّر من هذه المشاريع، ولا عن تعويضاتٍ لهذه المجموعات، على الرغم من أن تعويضات أهالي وادي حلفا كانت إحدى العقبات الرئيسية في المفاوضات في كل مراحلها.
ولكن الوضع الذي رسمته اتفاقية عام 1959 في هذا المضمار قد تغيّر تماماً بانفصال جنوب السودان وميلاده كدولةٍ مستقلّةٍ في يوليو عام 2011. وقد دار وما زال يدور جدلٌ قانونيٌ مكثّف حول إلزامية اتفاقية 1959 على دولة جنوب السودان. ولكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تجربة حفر قناة جونقلي أوضحت أن مسائل هذه القنوات لم تكن لتحكمها الاتفاقيات بل تخضع لعوامل سياسية وأمنية وبيئية واجتماعية محلية في غاية من التعقيد. ولا بد من إضافة أنه من الواضح أن هذه المواد من الاتفاقية قد تجاوزها الزمان وأن هناك حقائق جديدة قد بدرت لن تستطيع الدولتان تجاوزها بسهولة.
كما لا بد من التذكير أن اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان التي تمّ التوقيع عليها في 9 يناير عام 2005 كانت قد تركت كل ما يختصُّ بمياه النيل في يد الحكومة المركزية في الخرطوم. لكن رغم هذا فقد قامت جوبا باستلام زمام المبادرة في مسائل مياه النيل كلياً من بداية وخلال كل فترة الست سنوات الانتقالية، خصوصاً مسألة إكمال قناة جونقلي. وقد أكّدت حكومة جنوب السودان مراراً وتكراراً اعتراضها التام على إكمال القناة، ولم تعترض الخرطوم على مواقف وتصريحات جوبا إطلاقاً، ولا على تجاهلها لاتفاقية السلام الشامل فيما يخص هذه المسألة.
3
خامساُ: الهيئة الفنية الدائمة المشتركة:
أنشأت الاتفاقية هيئة فنية دائمة مشتركة بين مصر والسودان بغرض تحقيق التعاون الفني بينهما وللسير في البحوث والدراسات اللازمة لمشروع ضبط النيل وزيادة إيراده، وكذلك لاستمرار الإرصاد المائي في أحباس النيل العليا، يساعدها المهندسون السودانيون وكذلك المهندسون المصريين في السودان ويوغندا. وإلإشارة هنا إلى مفتش عام الري المصري في السودان ومساعديه، والمهندسين المصريين الموجودين في يوغندا تحت اتفاقيات سدّ أوين التي وُقّعت في الأعوام 1949 – 1953. وتختص الهيئة برسم الخطوط الرئيسية والبحوث لمشروعات زيادة إيراد النيل وتنفيذها.
ويختلف دور الهيئة في كلٍ من السودان ومصر. فاختصاص الهيئة يشمل وضع نظم تشغيل الأعمال التي تُقام على النيل داخل وخارج حدود السودان بالاتفاق مع المختصين في البلاد التي تُقام فيها هذه المشروعات. ولكن اختصاص الهيئة يقف عند مراقبة تنفيذ جميع نظم تشغيل الأعمال المشار إليها أعلاه، وكذلك السد العالي وسد أسوان (وليس وضع هذه النظم). وهذا يعني أن الهيئة تضع نظم التشغيل للسودان. أما بالنسبة لمصر فهي تراقب تنفيذ نظم التشغيل فقط.
تشير الاتفاقية أيضاً إلى أنه عندما تدعو الحاجة إلى إجراء أي بحثٍ في شؤون مياه النيل مع أي بلدٍ من البلاد الواقعة على النيل خارج حدود الجمهوريتين فإن حكومتي جمهورية السودان والجمهورية العربية المتحدة تتفقان على رأيٍ موحدٍ بشأنه بعد دراسته بمعرفة الهيئة الفنية المشار إليها. ويكون هذا الرأي هو الذي تجري الهيئة الاتصال بشأنه مع البلاد المشار إليها. وهكذا خلقت الاتفاقية تكتّلاً من مصر والسودان متحصّناً برأيٍ موحّدٍ في مواجهة بقية دول حوض النيل. وهذا التكتل هو أحد الأسباب التي أدّت إلى ميلاد تكتّل دول عنتبي المضاد في عام 2010.
بعد شهرين من توقيع اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959 وقّعت الدولتان في 17 يناير 1960 على البروتوكول الخاص بإنشاء الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل. وقد وقّع على البروتوكول السيدان زكريا محي الدين ومحمد طلعت فريد نفسيهما. وفي 31 يوليو 1960 صدرت اللائحة الداخلية للهيئة الفنية الدائمة المشتركة والتي أنشات سكرتارية تكون رئاستها بالتناوب سنوياً، ويكون مقرها مدينة الخرطوم. وقد أُجيز البروتوكول واللائحة بواسطة مجلس الوزراء لكلٍ من الدولتين. وتشكّلت أول هيئة من أربعة أعضاء مصريين هم السادة محمد خليل ابراهيم، عبد العظيم اسماعيل ، محمد أمين ، توفيق محمد خليفة، وأربعة أعضاء سودانيين هم السادة محمود محمد جادين ، الرشيد سيد أحمد، صغيرون الزين، و يحيى عبد المجيد. ومن أكبر المهام التي قامت بها الهيئة الإشراف على تنفيذ قناة جونقلي في الفترة من عام 1978 وحتى شهر فبراير عام 1984، حين قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان بالهجوم على موقع القناة وإيقاف العمل فيها نهائياً في ذلك الشهر.
4
سادساُ: مطالب دول حوض النيل الأخرى:
تُشير الفقرة الثانية من الجزء الخامس من الاتفاقية إلى مطالب البلدان النيلية الأخرى بنصيبٍ في مياه النيل وإلى اتفاق مصر والسودان على أن يبحثا سوياً مطالب هذه البلاد ويتفقا على رأىٍ موحّد بشانها. وإذا أسفر البحث عن إمكان قبول أية كمية من إيراد النهر تخصّص لبلدٍ منها فإن هذا القدر محسوباً عند أسوان يُخصم مناصفةً بينهما. وتُلزم الاتفاق الهيئة الفنية الدائمة المشتركة بمراقبة عدم تجاوز هذه البلاد الكمية. عليه فإن هذه الفقرة من الاتفاقية تعطي مصر والسودان حق تحديد نصيب أية دولةٍ نيليةٍ أخرى إن هي تقدمت بطلبٍ للدولتين. كما يعطي الدولتين حق رفض ذاك الطلب أو قبوله وتحديد كمية المياه التي ستمنح لتلك الدولة، والتي ستقوم الهيئة الفنية بمراقبة عدم تجاوزها بواسطة تلك الدولة.
تخلق هذه الفقرة مشكلة إجرائية كبيرة. فلا يُتوقع بأي حالٍ من الأحوال أن تتقدم أية دولة مشاطئةٍ أخرى بمطالبها في مياه النيل لمصر والسودان ليبحثاها ويقررا فيها لأن ذلك يعني اعتراف هذه الدول باتفاقية 1959 التي هي ليست طرفاً فيها، واعترافها بهيمنة مصر والسودان على نهر النيل، بما في ذلك حق مصر والسودان في عدم قبول تخصيص أية كمية من المياه لذلك البلد. وتعني أيضا تنازل هذه الدول عن حقٍ يكفله القانون الدولي لكلٍ من الدول المشاطئة في الانتفاع المنصف والمعقول من أي نهرٍ مشترك. وعلى سبيل المثال لا يُتوقع أن تتقدّم اثيوبيا، وهي مصدر ل 86% من مياه النيل بطلبٍ لمصر والسودان بتخصيص كميةٍ من مياه النيل لها. وكما ذكرنا من قبل فقد طالبت اثيوبيا مراراً وتكراراً إشراكها في المفاوضات ولكن مصر والسودان تجاهلا ذلك الطلب. وقد أشرنا أيضاً إلى تصريح السيد هاول الوكيل الأول لوزارة التجارة والصناعة في يوغندا في 30 نوفمبر عام 1959 والذي ذكر فيه أنه اندهش كثيراً لما أسماه لهجة الغطرسة التي تسود اتفاقية مياه النيل لعام 1959، والتي تُقرر أن نصيب الدول النيلية الأخرى من مياه النيل هو هبةٌ من مصر والسودان وليس حقاُ مشروعاً لهذه الدول بمقتضى القانون الدولي.
من الناحية الأخرى تُشير الاتفاقية إلى أنه إذا تمّ تخصيص أية كميةٍ من مياه النيل لدولة نيلية أخرى فإن هذه الكمية تُخْصم مناصفةً بين مصر والسودان، وليس بنسبة المياه المُخصّصة لكلٍ منهما تحت اتفاقية 1959 (أي بنسبة 55,5 لمصر و18,5 للسودان). وهذا وضعٌ غريب لأن مثل هذه المُستجدات يتمُّ التعامل معها عادةً بنسب الأنصبة للدولتين، وليس مناصفةً بينها. فعلى سبيل المثال إذا قررت مصر والسودان تخصيص عشرة مليار متر مكعب من مياه النيل للدول الأخرى فإن هذه الكمية، حسب نصوص الاتفاقية، تُخصم مناصفةً من كلٍ من مصر والسودان (خمسة مليار من كلٍ منهما) وليس بنسبة نصيبيها (55,5 لمصر و 18,5 للسودان، والتي سينتج عنها خصم 7,5 مليار من مصر و2,5 مليار من السودان).
5
سابعاً: السلفة المائية لمصر:
ينصّ الملحق رقم (1) من الاتفاقية على موافقة السودان على مبدأ منح مصر سلفة مائية من نصيب السودان في مياه السد العالي لتُمكّن مصر من المضي في برامجها المقررة للتوسع الزراعي. ويكون طلب مصر هذا بعد مراجعتها لبرامجها خلال خمس سنوات من تاريخ الاتفاقية. فإذا قررت مصر ذلك فإن السودان يمنحها سلفة لا تزيد عن مليار ونصف من نصيبه بحيث ينتهي استخدام هذه السلفة في نوفمبر عام 1977. هناك ثلاث ملاحظات على موضوع السلفة المائية هذه:
أولاُ: إنها لم تُضمّن في مواد الاتفاقية نفسها وإنما تمّت الإشارة إليها في الملحق، وهذا وضعٌ غريب لأن الغرض من ملاحق الاتفاقيات هو مزيدٌ من التوضيح والتفاصيل لمواد الاتفاقية وليس تضمين التزاماتٍ جديدة. والملاحظ أن الملحق الثاني للاتفاقية يتضمّن تفاصيل توضّح مبلغ وتاريخ دفع كل قسطٍ من أقساط التعويضات للسودان التي أشارت لها الاتفاقية في الفقرة السادسة من الجزء الثاني من الاتفاقية.
ثانياً: السلفة مبنية على احتياجات مصر وفق برامجها المقرّرة للتوسع الزراعي، ولا تضع في الحسبان برامج السوان للتوسع الزراعي.
ثالثاً: لا تُحدّد الاتفاقية تاريخاً لرد السلفة المائية للسودان، ولا للطريقة التي ستُرد بها. وهذا وضعٌ غريب لأن الاتفاقية التي تورد نصوصاً عن طريقة نشوء السلفة لا بدّ أن تورد نصوصاً عن طريقة ردها أو استردادها وهذا ما سكتت عنه الاتفاقية.
وقد أعرب السيد ميرغني حمزة في تعليقه على اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (كما سنناقش لاحقاً) أنه سيكون من الصعب على السودان إنهاء واسترداد السلفية لأن عدداً كبيراً من المزارعين المصريين سيكونون قد اعتمدوا عليها ولن يكون من السهل إيجاد بديلٍ مائيٍ لهم.
ولا بد من إضافة أن مسألة استرداد السلفية المائية هذه قد أصبحت مسألةً أكاديمية بحتة لأن السودان فشل فشلاً تاماً على مدى كل السنوات التي تلت توقيع اتفاقية مياه النيل لعام 1959 وحتى اليوم في استعمال نصيبه من المياه المحدد ب 18.5 مليار متر مكعب، ولم تتجاوز استعمالاته 12 مليار متر مكعب في العام كما صرّح السيد وزير الري والموارد المائية السابق المهندس كمال علي (راجع جريدة الصحافة، العدد 6487 بتاريخ الأربعاء 10 أغسطس عام 2011، الصفحة الثالثة).
6
يجب إضافة أن الاتفاقية لا تتضمّن فترة محددّة لسريانها، وهذا يعني أنها ستبقى ملزمةً للطرفين إلاّ إذا اتفق الطرفان على انتهاء سريانها. وبما أن هذه الاتفاقية ثنائية فإن تعديلها يتطلّب موافقة الدولتين معاّ. كما يجب توضيح أن هذه الاتفاقية ثنائية ولاتتعدى الزاميتها مصر والسودان إلى أي دولةٍ أخرى من دول حوض النيل كما سنوضّح في مقالٍ لاحق.
هذه هي الملامح الأساسية لاتفاقية مياه النيل لعام 1959. وكما يوضّح السرد أعلاه فإن السودان قدّم تنازلاتٍ كبيرة خلال الخمسة أعوام التي تمّ فيها التفاوض، وأن كفّة الاتفاقية قد رجحت لصالح مصر بصورةٍ كبيرة.
رغم هذا فقد قابلت القيادات الدينية والسياسية للأحزاب الثلاثة الريئسية في السودان وقتها – الأمة والوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي – وبعض الاتحادات والصحف السودانية اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بترحابٍ وتأييدٍ كبيرين، كما سنوضّح في المقال القادم.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.