مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من كتاب : المثقف وعقدة العصاب الأيديولوجي القهري : عبد الوهاب الأفندي نموذجاً (2)
نشر في حريات يوم 15 - 12 - 2012


عزالدين صغيرون
حروب عادلة
* ” يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية ، أو ميتافيزيقيا ، بحد السيف إن لزم الأمر..
يجب أن نقاتل من أجل التنوع ، إن كان علينا أن نقاتل..
إن التماثل النمطي كئيب كآبة بيضة منحوتة. ”
لورنس دوريل
رباعية الإسكندرية/ الجزء الثاني- بلتازار
*”نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها ، ولكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام ، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة ”
الرئيس الأمريكي ويليام ماكينلي
يخاطب شعبه عام 1898م مبررا غزو الفلبين.
بيض التغيير في سلة النخبة!
أظنني أشعر بأسى عميق وأنا أطالع محاولات عبد الوهاب الأفندي الدؤوبة في البحث عن مخرج من نفق الأزمة السودانية المظلم الذي تتخبط فيه البلاد منذ ما قبل استقلاها ، و التي زاد إيقاع تخبطها، و توترها جنونا ، بعد انقلاب يونيو 1989م، الذي اعتلت فيه الجبهة القومية الإسلامية سدة الحكم في ائتلاف – ديني /عسكري – غير مسبوق ، وبصيغة حكم أوليغارشية، ليحكم قبضته القمعية ذات الطابع الثيوقراطي/الأمني المزدوج ، على السودان، فأوصله إلى ما وصل إليه من حال لا يسر عدوا أو صديق .
ولا يجد المرء نفسه في حاجة لأن يقلب صفحات هذين العقدين ونيف من حكم “الإنقاذ” لحصر أوجه التدمير والهدم والتخريب التي تسبب فيها هذا النظام على كل المستويات والأصعدة ، الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية ، ويكفي فصل ثلث جسد الوطن عنه ، وخطر تشرذم وتفتت ما بقي منه ، ك “عنوان” كاف للحكم على مضمون “الجواب” الذي كان يبشرنا به خطاب “الإنقاذ” الإسلاموي/الأمني ، وإزاء هذه المخاطر التي تهدد الوطن وجد الأفندي نفسه – وهو الاسلاموي الذي يتمتع بحس نقدي – ومنذ منتصف التسعينات يستشعر بوادر الأزمة التي أدخل نظامه البلاد فيها والمهددات التي بدأت تطل برأسها ، ليتنبه في كتابه ” الثورة والإصلاح السياسي في السودان” (1995م) ، إلى ضرورة مشاركة كل القوى السياسية وكافة قبائل المثقفين بمختلف ألوان أطيافهم الفكرية ، لبلورة رؤية موحدة يتفق عليها وبرنامج عمل واقعي للخروج من هذا النفق المظلم .
وقد سعى جادا عبر مبادرات مخلصة في سبيل “لملمة” صفوف المثقفين وتفعيل دورهم والمشاركة الجادة والعملية في تحديد مسارات الحركة الوطنية ، لقناعته بأن المسألة لم تعد تحتمل التسويف ، ف ” بالنسبة لنا في السودان فقد ظلت مركبنا تتقاذفها العواصف منذ عقود، مما استوجب بدوره الاستنفار العام. ففي الظروف العادية يمكن للمثقفين والأكاديميين أن يتجادلوا في أمور الفلسفة والأدب والفن، وأن ينشغلوا بالشوارد والغرائب. وكذلك أصحاب كل مهنة وتخصص. ولكن والحالة على ما هي عليه، فإن مثل هذا الانشغال كل بما يليه لا يصبح مقبولا ” (1) ، كما قال وهو محق .
وآخر محاولاته تلك كانت هذا العام حيث أطلق مبادرة ” نداء الدوحة” في التاسع من يناير2011م ، خلال مشاركته في ندوة “استفتاء جنوب السودان وتداعياته محليا وعربيا” التي نظمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم و شاركت فيه مجموعة من السياسيين والمفكرين السودانيين ، وكانت قد دارت على هامش الندوة – كما يقول الأفندي – نقاشات ” بين مجموعة من المثقفين السودانيين طرحت فيه فكرة مبادرة تهدف إلى مساهمة فاعلة من قبل المثقفين في معالجة الأزمة. وقد انتقد بعض الحضور سلبية المثقفين إزاء ما تواجهه البلاد من تحديات مصيرية، وطالبوا بتحرك ملموس يتجاوز مجرد التحليل والتعليق على ما يجري، شأن المتفرجين ” (2) .
وكما يفيدنا ، فقد قام – هو شخصيا – بإعداد بيان أطلق عليه ” بيان الدوحة في التاسع من يناير”، وهو ،عبارة عن “نفير” كما وصفه ، لمثقفي البلاد ومفكريها من كل الاتجاهات والجهات بمختلف مشاربهم ، إلى أداء واجبهم لتطوير رؤية موحدة للتغيير و طرح صيغة توافقية تخرج البلاد من أزمتها الراهنة .
ولسنا الآن بصدد قراءة مضمون البيان وما يقترحه من حلول ، فقبل هذا دعنا نتعرف على المصير الذي آلى إليه هذا الجهد المخلص والسعي الصادق .
لقد قام بطرح البيان ، كما قال ، “على نخبة من أهل الفكر والرأي بغية التفاكر حول محتواه أولاً ، ثم التوافق على صيغته النهائية ، ثم إقناع مجموعة تمثل أطياف الفكر المختلفة في البلاد لتبنيه والتوقيع عليه قبل أن يطرح للتوقيع عليه من قبل كل من يقبل . وكنا قد تشاورنا قبل صياغة البيان وبعده مع عدد من ممثلي التيارات السياسية ممن رحبوا بالفكرة وتحمسوا لها” (3).
فماذا كانت ردة فعلهم وكيف تعاملوا مع هذه المبادرة الطيبة ؟.
“للأسف أن الاستجابة من قبل العينة المختارة من المثقفين لم تكن بمستوى توقعاتنا، حيث أحجمت الغالبية عن المشاركة. وعليه قررنا صرف النظر عن هذه المبادرة، لأن هذا الوضع يكشف أن مثقفي البلاد ليسوا بحجم التحدي، وأنهم غير قادرين ولا راغبين في الإطلاع بالدور المنوط بهم ” (4) ، هكذا قال الأفندي بشعور يخالطه قدر غير قليل من الأسى والخيبة المريرة لا يخطئه المرء .
بدورنا نعتقد بأن المشكلة ، مشكلة مقاربة الصفوة المثقفة لحل الأزمة السودانية تبدأ من هنا ، وهذا ما ستناوله بشيء من التفصيل ، مع التأكيد بأن لا عبرة هنا بالنوايا مهما صدقت .
ولكن دعنا نسأل قبل هذا : لماذا فشلت المبادرة من وجهة نظر الأفندي وصحبه ؟.
هل لأنهم ليسوا بحجم التحدي ؟ .. وهذا قصور ذاتي .
أم لأنهم غير قادرين أو راغبين ؟ .. وهذا إما خلل بنيوي أو قصور في الإرادة .
وهذا مما لا يمكن أن نسلم به ، فالمثقف والمفكر السوداني ليس بدعا بين النخب المماثلة في كل المجتمعات الأخرى ، لا يمكن أن يوصف بأنه يعاني من قصور ذاتي أو خلل بنيوي أو تنقصه الإرادة ، ويدلك على ذلك مبادرة الأفندي نفسه ورهطه وسعيهم الدؤوب لإيجاد مخرج من أزمة وطنهم .
وإذن فان الإجابة الأخرى التي يقترحها لاحقا في مقاله تبدو أقرب إلى العقل والمنطق والتي يلخصها بقوله بأننا “يمكن أن نستنتج من هذا أن ظروف التغيير لم تنضج بعد في البلاد ” (5) .
وإذا كان اقتراحه هذا يجنبنا مشقة الغوص والبحث عميقا في متاهات العقل السياسي السوداني ، ويحيلنا ، بدلا عن ذلك إلى البحث في ما هو موضوعي وتاريخي ، إلا أنه لن يغنينا عن البحث في تلك المتاهة وفق اشتراطات أخرى .
وهذا ما لسنا بصدده الآن ، وهنا .
فلنعد إلى استنتاجه بأن ظروف التغيير لم تنضج بعد ، كتفسير لفشل المبادرة وعدم تفاعل النخبة معها ، لنسأل : كيف يقرأ هو هذا العامل ؟.
انه يقرؤه من خلال ثلاثة محاور تشكل مجتمعة قوى التغيير وهي ، حسب تحديده : الحكومة ، المعارضة والنخبة المثقفة ، وسنعرف ، فيما بعد ، كيف يمكن أن تلعب هذه القوى دورها ، وفي ظل أي ظروف واشتراطات تمارس دورها المطلوب في التغيير ، في تصوره ، لما لهذا التصور من تأثير في تحديد الأفندي لما يعنيه ب (التغيير) المطلوب ، ومضمونه ، و وسائل وآليات تحقيقه.
ولكن تلاحظ مبدئيا بأنه وضع بيض التغيير كله في سلة النخبة ، ولذا فان “تشخيصه” لعوامل فشل مبادرة التغيير ، لن يبعد كثيرا عن هذا المثلث الذي راهن عليه بشكل كامل ، ف : ” الحكومة غير راغبة ولا قادرة على إجراء الإصلاحات المطلوبة لتحقيق الاستقرار ، كما أن المعارضة غير قادرة على قيادة التغيير، كذلك فإن النخبة المثقفة عاجزة وعازفة عن أداء دورها” (6) ، كما يقول حرفيا .
فزّاعات لإجهاض التغيير
إذن هذا هو واقع حال القوى الاجتماعية ومؤسساتها ، التي يراهن عليها الأفندي ، وهي كما ترى غير مؤهلة لأن تقترح أي صيغة تغيير واقعية ، وغير قادرة على قيادة عملية التغيير .
إذن فان الخطوة التالية كان ينبغي ، منطقيا ، أن تكون هي البحث عن قوى اجتماعية أخرى ، إما كبديل لهذه القوى ، وإما كداعمة ورافعة لها في هذه العملية الجذرية المعقدة والصعبة .
هذا هو الطريق الواضح .
إلا أن العقل السياسي النخبوي/الانتقائي /السلطوي ، للأنتلجنسيا ، ولعجزه التكويني عن السير في هذا الطريق ، لما يتطلبه من تضحيات وشجاعة أخلاقية ، تجده – استخذاء – يختار الطريق الأسهل والأقل كلفة ، فيحيل المسألة برمتها إلى لعبة من الكلمات المتقاطعة ويستخدم مهاراته المعرفية في هذا الجهد العبثي .
فبدلا من البحث عن قوى اجتماعية بديلة ، أو داعمة ، أو رافعة للقوى التي راهن عليها في إحداث التغيير المطلوب ، لإخراج السودان من أزمته التي أدخلته فيها ذات القوى التي يقترحها كرافعة للتغيير ، نجده يقول مباشرة بعد اعترافه ، أو تقريره بعجزها وعدم قدرتها وعدم رغبتها ، بأنه يرى في وضعها هذا ، أي في عجزها وعدم رغبتها وقدرتها ” بادرة خير ، لأن التغيير الحقيقي غالباً ما يأتي حين تتحقق هذه الشروط معاً . ففي مصر كما في تونس في الشهرين الماضيين ،وفي السودان عام 1985 وفلسطين عام 1987 ، كان الوضع مشابهاً من حيث جمود الأنظمة وعجز المعارضة وإغلاق كل آفاق العمل السياسي من معارضة ومفاوضات ومقاومة وإصلاح سياسي . عندها تفجرت الانتفاضات الشعبية بدون أن يخطط لها أحد ، أو حتى يتوقعها ” (7) .
يقول لك هذا دون أن يجيب على تساؤلك الحائر : إذن كيف يمكن أن يحدث التغيير؟ ، أو كيف حدث بالفعل في مصر وتونس؟ طالما أن هذا هو الوضع ، الذي لا يمكن ، بأية حال من الأحوال ، أن يبشر بخير ، أو أن يكون هو الوضع الأمثل لاشتعال نار الثورة أو قيام حركة تغيير جذرية ؟!.
ولأن الفتق المنطقي الواقعي في مثل هذا القول من الاتساع بحيث يعجز (أحرف) رفّاء رتقه ، ولا يستطيع أغبى عقل (بلعه) ، دع عنك هضمه ، فانه يقوم بحركة التفاف مثيرة لا تخلو من براعة شكلية ، يضعك بها أمام إشكال زائف ومفتعل مستثيرا مخاوفك ، فيقول لك محذرا ” مبعث قلقنا هو أن تلك الانتفاضات تفجرت في ظروف تحققت فيها ظروف الوحدة الشعبية ضد الأنظمة مع غياب الاستقطاب بين قطاعات الشعب . أما في السودان ، فإن الساحة السياسية تشهد حالات استقطاب لا مثيل لها : استقطاب سياسي ، واستقطاب عرقي ، واستقطاب جهوي . ويكفي أن يتابع المرء مستوى العنف اللفظي واللهجات الإقصائية التي تطبع الحوار السياسي السوداني في كل مستوياته ، ليدرك أن البلاد ليست مقبلة على انتفاضة سلمية تعيد الحرية والاستقرار والبلاد ، بل إلى حالة صومالية سيكون الناتج عنها تمترس كيانات مسلحة ذات طابع قبلي وعرقي كل بركنه من البلاد ، وربما أحداث مؤسفة من التطهير العرقي والمذابح ” (8) ، وهو يكرر لك هذا التهديد ب (الحالة الصومالية) في مقال آخر قائلا في معرض تحذيره لقادة نظام الإنقاذ ” وعليه فإننا نعتقد أن أمام النظام السوداني أياماً لا أسابيع ليحسم قراره، إما بأن يقود الإصلاح ويكون له دور في هندسة التغيير، أو أن يحزم حقائبه ويرحل كما فعل سابقوه، مع تعريض البلاد لمخاطر الصوملة والتفكك ” (9)!.
والحال إن هذه “الحالة الصومالية” أصبحت الآن هي الفزاعة الجديدة التي يلجأ دعاة الأمر الواقع ومناهضي التغيير الجذري إليها لتخويف دعاة التغيير ، والهدف من هذه العملية هو إجراء عمليات تجميلية للنظام ، وشيء من تعديلات شكلية / ديكورية ، لتكريس الواقع والحفاظ على تماسكه البنيوي ، ولكنها لا تمس سلطة النظام القائم ، وكما هو واضح فان هذه الفزاعة تشكل (حائط صد) لا يمكن تجاوزه ، و يحول دون التفكير في أي إجراءات راديكالية لتغيير الواقع .
فزاعة (الصوملة) ليست هي سلاح التخويف و”التخزيل” الوحيد الذي أصبح يرفعه أعداء التغيير في وجه من يسعون إليه ، فقبل انتصار ثورة 14 يناير في مصر كانت قيادة مصر السياسية والإعلامية تردد بين الناس في الداخل والخارج مزاعمها بأن زوال النظام في مصر سيجعل منها أفغانستان شرق أوسطية وان الإخوان المسلمين سيبسطون سيطرتهم على الحكم فيها ، والشيء نفسه ردده النظام التونسي قبل أن يرحل زين العابدين بن علي هاربا إلى السعودية ، و قبل أسابيع قليلة اكتشف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أن الحركات الاحتجاجية التي هزت الأنظمة العربية، ومنها تلك التي تستهدف نظامه ، محركة من إسرائيل و إنها تدار من غرفة مخصصة في البيت الأبيض الأميركي . ومثله اكتشف معمر القذافي أن وراء الانتفاضة ضد حكمه خلايا نائمة لتنظيم القاعدة في ليبيا ، تستخدم حبوباً مخدرة لدفع الشباب الليبي إلى التظاهر والاحتجاج . لكن لا يبدو أن اليمنيين يصدقون الكلام الذي يوجههم لهم الرجل الذي يحكمهم منذ 33 عاماً فهم يعرفون تماما عمق علاقاته مع المخابرات الأمريكية التي تروح وتجيء في الأراضي اليمنية لتصطاد عناصر القاعدة بحرية ، و بالطبع فان الأمريكيين والقوى الغربية لا يصدقون ما يوجهه إليهم حاكم ليبيا من اتهامات هذه الأيام ، فهم أكثر من غيرهم يعرفون مدى ما استفادوه منه وما حققوا من مصالح سياسية و اقتصادية ، كما يعرفون انه أفضل أعدائهم ، بل هو العدو المفضل لديهم كما كتب أحدهم إبان أزمته الأخيرة .
إلا أن هذه الفزاعة سواء أن كانت “القاعدة” أو التمزق القبلي والجهوي أو الطائفي أو الإمارات الإسلامية أو الإخوان المسلمين (بعد اختفاء الفزاعة الشيوعية بالطبع !) ، أو العدو الصهيوني ، إنما هي مجرد كرت سياسي تلعبه الأنظمة التسلطية في العالم العربي لتحقيق عدة أهداف تضمن لها تكريس سيطرتها على مجتمعاتها وتصفية معارضيها و خصومها ، وبشيء من التمعن والتفكير يمكن التوصل إلى أن هذه الفزاعات إنما تمثل جانباً من آليات الحكم الاستبدادي في البلدان العربية أمام محكوميها ، وهي تستخدمها للتخويف على الجانبين ببراعة و بطرق مختلفة ، أثبتت فعاليتها حتى الآن .
إن التخويف من التهديدات والأخطار الخارجية يلعب دورا حيويا و حاسما في صنع قضية “وهمية” مشتركة بين الحاكمين والمحكومين ، وفي إقامة حائط من الكراهية والشكوك مع العالم الخارجي من ناحية ، و تخوين من يحاول إقامة أية جسور من التواصل مع هذا العالم من ناحية أخرى ، وقد ساعدت السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل في تعزيز هذه الكراهية .
وفي نفس الوقت تقوم هذه الأنظمة بزرع بذور عدم الثقة بين مجتمعاتها وبين المحور الأوروأمريكي وتخويفه ، مستغلة في ذلك ما تشكله عمليات المتطرفين الإرهابية من تهديد لأمن المجتمعات الغربية ، والغرض هنا أيضاً صنع قضية مشتركة مع تلك القوى الدولية الفاعلة، وإقامة حواجز نفسية وسياسية عالية بينها وبين مجتمعاتنا ، بينما بات واضحا ما للنخب الحاكمة من علاقات بإسرائيل ، مباشرة ، سواء أن كانت هذه العلاقات أم عبر وسطاء ، تشمل مصالح وصفقات سياسية وأمنية واقتصادية ، ما تسرب منها وأصبح معروفا ، مثل تصدير الغاز المصري لإسرائيل ، والجدار العازل بين مصر وقطاع غزة المحاصر ، وعلاقات سيف الإسلام نجل القذافي مع إسرائيل والتي شهدت عام 2010 نقطة تحول جوهرية أخرجتها من كواليس السرية إلى العلن، حين أفرجت ليبيا بتاريخ 8 أغسطس الماضي عن يهودي اعتقل في سجون القذافي قرابة خمسة أشهر، بشبهة عمالته لإسرائيل ، وتمت الصفقة بمبادرة من وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان، الذي طالب صديقا له وهو رجل أعمال نمساوي بالتدخل لدى سيف الإسلام الذي تربطه علاقات وطيدة به ، لا يشكل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.