والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من كتاب : المثقف وعقدة العصاب الأيديولوجي القهري : عبد الوهاب الأفندي نموذجاً (4)
نشر في حريات يوم 20 - 12 - 2012


عزالدين صغيرون
حروب عادلة
* ” يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية ، أو ميتافيزيقيا ، بحد السيف إن لزم الأمر..
يجب أن نقاتل من أجل التنوع ، إن كان علينا أن نقاتل..
إن التماثل النمطي كئيب كآبة بيضة منحوتة. ”
لورنس دوريل
رباعية الإسكندرية/ الجزء الثاني- بلتازار
*”نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها ، ولكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام ، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة ”
الرئيس الأمريكي ويليام ماكينلي
يخاطب شعبه عام 1898م مبررا غزو الفلبين.
ولكن ..أين هي هذه الأحزاب؟
قلنا من قبل أن خطيئة الدكتور الأفندي تكمن في عدم طرحه للأسئلة الصحيحة، ولذا تلاحظه لم يسأل نفسه: لماذا خاب ظنه ومسعاه الإصلاحي بين أحزاب الحكومة والمعارضة كليهما ؟.
والسبب ببساطة هو: إن هذه الهياكل القائمة ليست أحزابا بالمعني الحقيقي للمفهوم ..
هي كيانات شبيهة، وتحمل الاسم نفسه، ولكنها ليست هي المعنية حين نقول أحزابا بالمعنى الحديث الذي ترسخ في العلوم السياسية.
وقد كتبت قبل أكثر من عقد وربع العقد تقريبا حول البنية الطائفية/العشائرية لأحزابنا السودانية ، وأوضحت بأننا لو طرحنا جانبا غلالاتها الأيديولوجية التي تتبرقع بها كأقنعة ، سنجدها مجرد طوائف ، تحاول عبثا ، أن “تتعصرن” ، ولا يمكنك أن تستثني الأحزاب العلمانية أو التقدمية – سمها ما شئت – من هذا ، وإلا كيف يمكن كان أن يحل “نقد” في موقع سكرتارية الحزب الشيوعي لو لم يبعد نميري الشهيد عبد الخالق محجوب من هذا الموقع اغتيالا ؟! .
لقد ظل عبد الخالق محجوب يقود الحزب بسلطة مطلقة منذ تأسيسه إبان الاحتلال البريطاني المصري للسودان ،في اربعينيات القرن الماضي ،حدثت خلالها متغيرات سياسية واجتماعية على المستويين العالمي والمحلي ليس أعظمها استقلال السودان وليس أقلها الانشقاقات داخل الحزب ،وظل يمسك بقيادة الحزب طيلة هذه السنوات والمتغيرات إلى أن أزاحه نميري بإعدامه ليخلفه محمد ابراهيم نقد الذي تسلم قيادة الحزب الشيوعي السوداني عام 1971 عقب اعدام السكرتير العام السابق للحزب عبد الخالق محجوب علي يد الرئيس جعفر نميري. وظل مختفيا عن أعين الأجهزة الأمنية السودانية منذ عام 1971 وحتى الإطاحة بالرئيس السوداني السابق جعفر نميري عام 1985. كما قضي أيضاً 12 عاما متخفيا في عهد الرئيس الحالي عمر البشير (1993-2000) ،أي انه عندما توفي عن واحد ثمانين عاما بلندن يوم (الخميس 22 مارس 2012 م) ظل محتفظاً بمقعده في رئاسة الحزب لأكثر من أربعين عاماً ,وبذلك يكون الحزب العلماني الذي يعبر عن الحداثة السياسية والفكر التقدمي في السودان ظل منذ تأسيسه في عام 1939 كما تقول وثائق الحزب وممارسته النشاط السياسي الفعلي في عام 1946 يخضع لسلطة الزعيم الفرد ،ولأكثر من 67 عاما لم يتوالى على رئاسته سوى زعيمين !!.
هذا عن الحزب التقدمي الذي يعبر عن الحداثة السياسية ،ما يغنيك الحديث عن الأحزاب الطائفية التي تقوم على الولاء المطلق لمرشد روحي يتمتع بالقداسة ،وبالسلطة المطلقة مثل تلك التي يتمتع بها الصادق المهدي زعيم “طائفة الأنصار ” المهدوية ورئيس “حزب الأمة السياسي” !.
ويدلك على طائفية وعشائرية البنى الحزبية إن قراراتها ، جميعا ، تتنزل من البطريارك الأكبر إلى القاعدة، ولا تصعد في الاتجاه المعاكس ، ولذا يستطيع رئيس الحزب أن ينحرف بالحزب كله مائة وثمانون درجة في مواقفه ، متسببا ، بدوامات التفافاته ومناوراته البهلوانية هذي ، في إرباك قاعدته ، بل وبين قيادات حزبه العليا والوسيطة ، وتحضرني بهذه المناسبة كلمة ساخرة نشرت قبل سنوات للأديب محمد محمد خير يسخر فيها من ارتهان الحزب الاتحادي لإرادة الميرغني في مواقفه وقراراته ، حتى في القضايا الوطنية المصيرية الكبرى بصورة جعلت الحزب مجرد ظل لراعيه ، أو كأن الحزب “دفتر ” في جيب الميرغني يسافر ويحط معه أينما حل ، ولفرط سخريته أطلق في مقاله على الحزب الاتحادي اسم “الحزب الطائر” ، ولسبب ما أجد أن هذه الصفة تنطبق على جميع الأحزاب .
وتستطيع قراءة عجلى في مواقف الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي) من ديكتاتوريتي نميري والبشير ، أن توضح بصورة جليّة هذه المهازل بوضوح ، فالمسألة كلها ترتهن بطموحات رئيس الحزب الشخصية ، وقراءته الخاصة لمسارات الأمور ، فهو (الإمام) و (الشيخ) و(المرشد) ، الذي ينفرد بالحكمة التي تجعله يتمتع بالإلهام و نفاذ الرؤية الذي يتيح له أن يرى ما لا يراه (القطيع!) ، ثم انه الأدرى بمصلحة جماهير حزبه منها .
وإلا ما الذي يمكن أن يفسر تهافت الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني على ما يلوح به الانقاذيون من فتات سلطتهم بين حين وآخر ، فيلغي السيدان كل وعودهما لجماهير حزبيهما بمنازلة النظام سلميا ، لتصاب جماهيرهما المتحفزة للمقاومة والمهيأة لها ، باليأس والقنوط و الإحباط ، ثم إلى اللامبالاة بالشأن العام برمته ، غير المنهجية التسلطية /البطرياركية التي يديران بها الحزبين الكبيرين؟!.
وإذا كانت الأحزاب – بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة – تعبر عن مصالح الجماعات التي إليها تنتمي ، فإنها (هنا) تعبر عن مصالح قيادة الحزب…
وإذا كان الأفراد الذين ينتمون لهذه الأحزاب هم الذين يقررون سياسات الحزب هناك ، فان السياسات هنا يقررها (الزعيم) وفق اجتهاداته ، وربما تهبط عليه وحيا من سماواته…
وإذا كان رئيس الحزب وقياداته هناك يتم اختيارهما بالتصويت عبر تنافس انتخابي داخل الحزب ، ولدورات محددة مهما بلغت انجازاته ، فان رئيس الحزب هنا إما أن يرث زعامة الحزب منذ الميلاد ، وإما أن يأتي عبر اختيار دائرة ضيقة من أصدقائه أو أقربائه ، ليبقى ، لا يغادر إلا إلى القبر .
وبالمقابل فان جماهير هذه الأحزاب – ونعني بهذا الأغلبية العظمى – لا يرتكز انتماؤها الحزبي على أي أسس عقلانية ، فهي لا تنتمي للحزب ولا تختاره دون الحزب الآخر لأنه يتبنى طموحاتها ويحقق مصالحها ، و هي لا تؤثره على الحزب المنافس بعد قراءة برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومطابقتها بما تحمله من تصورات وأفكار وآراء وأحلام لمعرفة مدى انسجامه مع كل أولئك ، فهي تنتمي لأسباب عاطفية لاعقلانية ، إما بحكم الوراثة أو التأثير الأسري ، وإما إتباعا لرأي الأغلبية أو لمجرد مخالفتها ، وإما امتثالا لتصور عقائدي متصلب أو تمردا وخروجا عليه .
ويتساوى في هذا الشكل ، الانتماء للأحزاب التي تسمى تجاوزا بالعلمانية وتلك التي يطلق عليها ليبرالية ، كما للأحزاب الدينية .
وفي واقع الأمر فان أحزابنا جميعا ، بل وكل الأحزاب في دول العالم النامي هي ذات طبيعة واحدة تحت لافتات مختلفة ، فهي أحزاب عقائدية وذات طبيعة طائفية ، سواء في بنيتها أو في مضامينها و محمولاتها الفكرية .
لذا بقدر ما بنية الأحزاب الفوقية تسلطية ، بقدر ما قاعدتها الجماهيرية هي امتثالية ، الأمر الذي يؤدي إلى تجريد هذه الجماهير من قدرتها على المبادرة والتعبير عن نفسها واستثمار رصيدها النضالي ، ويحرمها من استثمار ما هو كامن فيها بالقوة من إمكانات ، لتغرق في مستنقع اليأس والإحباط .
ولعل هذا الواقع يفسر لنا هذا الانحسار و التآكل المتواصل في رصيد الأحزاب السودانية – ولو تحرينا الدقة لقلنا والعربية أيضا – من الجماهير ، التي أخذت تتنائى شيئا فشيئا بنفسها عن هذه الأحزاب العاجزة ، وثورات الشباب التي تجتاح العالم العربي كله خير شاهد على زهد الشباب وقنوطهم من الأحزاب التي ظلت قائمة منذ أكثر من نصف قرن ، بنوعيها التقدمي التحديثي والتقليدي معا.
ثم ، إن هذه الأحزاب تعاني من “ضعف نظر” مزمن في رؤيتها الوطنية ، وشيء من ذلك ربما يعود إلى ما ذكرناه عن العيوب البنيوية فيها ، وهي على الأرجح عيوب “خلقية” ولدت معها منذ تشكلها في رحم الحركة الوطنية في ثلاثينات وأربعينات القرن الميلادي الماضي ، وبدون الخوض في تفاصيل مراحل التشكل والتكوين، كان – لابد وحتما – من شأن طبيعة بنيتها الطائفية/العشائرية أن تؤثر بشكل حاسم ، ليس في مضامين رؤاها الفكرية فحسب ، بل وأن تترك بصمتها في أفق ومدى رؤيتها وفكرها نفسها ، لذا لم يكن بمستغرب أن تضيق رؤية الوطن في وعي النخب السياسية والاجتماعية ، فتعجز عن “استيعابه ” في كليته بنظرة تشمله بمختلف تضاريس تنوعه الاثني الثقافي والعرقي ، ويستطيع أي باحث في التاريخ السياسي أن يلحظ بوضوح أن مقاربات هذه النخب بمختلف اتجاهاتها لمشاكل الأطراف المهمشة ، وعلى رأسها ما درجنا على تسميته – مخاتلة منا – ب”مشكلة الجنوب” ، كانت تنطلق من رؤية تجزيئية/أحادية ، وفوقية أيضا ، نطل بها من عل عليها.وربما ترجع هذه النظرة إلى أسباب أبعد وأعمق من تمظهراتها وتجلياتها السياسية ،التي نراها تطبع الفكر والسلوك السياسي للأحزاب والنخب المثقفة معا ، على النحو المتناقض الذي يجعلها تتغنى بالوحدة بينما هي تعمل جاهدة لترسيخ وتعميق التشرذم والتفكيك والتفتيت .
وهذا العجز عن الرؤية الكلية الشاملة للواقع ، تعوضه الأيديولوجيا ، التي تقدم للمثقف واقعا افتراضيا بديلا كما سنرى لاحقا .
الأيديولوجيا ..أو الوطن الافتراضي البديل!
حسنا ..
هذا هو واقع الأحزاب (في السلطة وفي المعارضة ) ، التي راهن عليها عبد الوهاب الأفندي لإحداث التغيير المطلوب للخروج من هذه الأزمة التي تهدد الكيان السوداني بالزوال من الخارطة السياسية للعالم ، وهما كما رأيت وجهان لعملة واحدة .
فماذا عن المثقفين ، ثالث أضلاع مثلث الفرسان ، الذي يراهن عليه “الأفندي” في حركة التغيير ؟.
“الأفندي ” يسند دورا محوريا للمثقفين أو النخبة – كيفما سمّاهم ! – في عملية التغير، دون أن يحدد ملامح هذه القوى ، ما هي ؟ ، وما مواصفاتها، وأي دور يمكن أن تلعبه وفقا لمواصفاتها، أو على ضوء خياراتها ؟؟.
وما يدعو لهذه الأسئلة هو أن هذه الفئة تتنوع في مواقفها ، وفي خلفياتها الاجتماعية ، وفي توجهاتها ورؤاها ، ثم هي تتفاوت في درجة ومستوى التزامات أفرادها الاجتماعية والفكرية .
وإذا كانت أوقات “الزنقات” – ليس بالمعنى المغاربي الذي أشهره القذافي – وإنما بمعنى الأزمات ، وأوقات الشدة هي أنسب “المحكات” لاختبار وعي المثقف ، وتحديد اتجاه بوصلة خياراته الاجتماعية والسياسية ، وقياس مدى صدق انتماءه وصلابته ، فان هذه الأوقات تفرز فئتان تتمايز مواقفهما ، إحداهما تنحاز للواقع وللسلطة القائمة ، والأخرى متمردة على هذا الواقع وكافرة به ، ومنحازة ، بالتالي ، ضده ، وليس هناك من طريق للتوفيق ، أو عقد أي نوع من التصالح بينهما .
وإزاء موقف مثل هذا ، هناك – بين أفراد الشريحة الأولى – من يختار الانحياز للواقع والسلطة القائمة بشكل مطلق ، لا مواربة فيه ، مهما بلغت بشاعة ممارسات السلطة ، ومهما افتضح فسادها ، ومهما بلغ خطر سياساتها على أمن ووحدة واستقرار وسيادة الوطن ، حتى ولو بلغت الخطورة بقاء الوطن نفسه أو فناءه وزواله ، وليس لهؤلاء غير المنطق التبريري من وسيلة يدافعون بها عن السلطة ، مع ما يفرضه المنطق التبريري الصرف على صاحبه ، من ألاعيب صبيانية ممعنة في سخفها ، يغطي به سوءة موقفه .
ف”المصلحة” الذاتية الضيقة في نظر بعض الناس لا تحتاج إلى تبرير فهي تبرر نفسها ، والواحد من هؤلاء على استعداد للدفاع عن الشيطان نفسه ، بل وللتحالف معه إذا ما اقتضت مصلحته .وتاريخ الشعوب عامة ، ومن ضمنه التاريخ العربي والسوداني ، تعج صفحاته بالصور والوقائع والأسماء والنماذج الفصيحة …
ومقابل هؤلاء – داخل نفس شريحة الموالاة الأولى – ، هناك البعض ممن يتمتعون بيقظة ضمير ووعي ، وبحس أخلاقي يعصمهم من الانحدار إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي .
إلا أن التزام هؤلاء الأيديولوجي من الصلابة و القوة ، لدرجة تعجزهم عن رؤية وجهي صورة الواقع كما هو ، لا كما تصوره الأيديولوجيا ، أو تعكس في مرآتها صورته الزائفة لهم ، لذا يجهدون أنفسهم في محاولات لاعقلانية لتفسير الماء بالماء ، عبر دورانات ومماحكات منطقية شكلانية تطمس الحقائق عوضا عن تجليتها .
نعترف جميعا بالجهد الذي بذله ، ويبذله الدكتور عبد الوهاب الأفندي في نقد سياسات الإنقاذ وممارساتها وقد قرأت له بإعجاب شديد مقالات قوية في سبكها ومنطقها ، ولكنك تستطيع بشيء من التمعن أن تكتشف بأن الدكتور الفاضل إنما يوجه نقده للعصبة المتنفذة انطلاقا من حرصه على النظام وما يمثله من رمزية لتوجهه هو الأيديولوجي .
أي أن “الأفندي” لا يختلف مع النظام جذريا ، بل هو يتفق معه مبدئيا في منطلقاته وأسسه الفكرية ، ويؤكد لك نقده هذا الحاد لمن هم في السلطة ، بأنه أصدق منهم في انحيازه الأيديولوجي ، وأكثر إخلاصا للإسلام السياسي منهم ، وانه بالتالي أكثر حرصا على تجربة الإنقاذ الاسلاموية من قادة التنظيم ، العسكريين والمدنيين أنفسهم ، وربما يكون هذا هو مبعث سخطه الحقيقي عليهم ، لتشويههم تجربة كانت حلما يراوده ، بأن يسود العدل والسلام والرخاء العالم كله حين يتحقق ، ولإجهاضهم مشروعا ، ربما ظل يعمل لإنفاذه وتطبيقه على أرض الواقع ، مذ كان طالبا في مراحله الدراسية الثانوية ، وربما بسبب كل هذا الصدق ونبل الغاية ، وبسبب هذه النوايا الطاهرة الطيبة ، كانت فجيعة “الأفندي” في قيادة من تصدوا لتطبيقه على الواقع كبيرة .
ولكنه يظل ، رغم هذه الخيبة ، أو ربما بسببها ، وفيا للفكرة ، مؤمنا بها ، ورغم نقده – اللاذع أحيانا – لمن تصدوا لها ، يظل إيمانه بالفكرة راسخا بصلابة ، قائما في مكانه ، لم يتزعزع لحظة ، ولم يتزحزح قيد أنملة ، وهذه هي مشكلة العصابي ومشكلة العصاب الأيديولوجي ومأزقه !.
وبسهولة يمكنك أن تقرأ هذا الحرص والخوف على الفكرة بين سطور هذا النقد وهذا الهجاء ، الذي ، وان كان هجاء للعصبة المتنفذة ، فانه في باطنه وفي جوهره يمثل ثناء وإعلاء لشان الفكرة .
ف”الأفندي “لا يتطرق إليه الشك في الفكرة ونبلها ، أو دعنا نقول “جدواها” ، للتطبيق في واقع مثل الواقع السوداني رغم كل تنوعه الثقافي وتعدد أعراقه .
هو لا يشك في صلاحية المشروع الاسلاموي بصيغته “الانقاذية” للحكم في السودان ، ولكنه يأخذ على من ينفذون هذا المشروع أخطاء تنفيذ الأجندة.
وبسهولة – يمكنك أن تستشف هذه الغيرة وهذا الحرص على الفكرة والمشروع بين سطور نقده اللاذع أحيانا ، بل وأكثر من ذلك هو يقدم لهم بين سطور خطابه الناقد – ولا نقول النقدي – بعض الوصفات العلاجية لإنقاذ مشروع “الإنقاذ” ، وليس لإنقاذ السودان بأية حال من الأحيان !.
المشروع السياسي/ الاسلاموي هنا هو الأهم .. وليس الوطن/السودان !!.
فالعقل المؤدلج لا يستطيع أن يستوعب فكرة الوطن كوعاء جامع ..
لأن الأيديولوجيا في هذا العقل هي “الوطن الافتراضي/البديل” الذي يسع (أو قل يبتلع) الوطن الواقعي كله ، ويغني عنه .
وقد صرح بهذا المبدأ بوضوح – وإن يكن بطريقة بذيئة ووقحة – مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف في الشهر السادس من العام 2006 بصوته المسجل والمعلن في برنامج نقطة حوار والمنشور في مجلة روزا ليوسف ، حين رفض مبدأ المواطنة كقيمة أساسية للانتماء ، وأعلن أنة يفضل أن يحكم ماليزي أو أندونيسى مسلم مصر ، على أن يحكمها مصري غير مسلم يضرب بجذوره فيها آلاف السنين إلى الوراء قبل الإسلام ، وقال قولته المأثورة الخالدة ( طظ في مصر وأبو مصر وأبو اللي في مصر) !.
ولماذا نذهب بعيدا إلى مصر ؟ ، فعبد الوهاب الأفندي نفسه يعطينا مثالا وطنيا محليا ساطعا على الهيمنة التي تمارسها الأيديولوجيا على العقل ومدى سيطرتها على تصوراته حتى تصير هي البديل الواقعي الموضوعي عن الوطن ، وذلك بعد اتفاقية أديس أبابا التي وقعها نميري مع جوزيف قرنق فقد ” وصف عبد الوهاب الأفندي تضارب المصالح البنيوي والطريقة التي قوض بها ذلك التضارب ما كان يراه العديد في السودان وفي أنحاء العالم بالانجاز الأعظم لنميري والسودان ” حيث دار نقاش جاد وسط الإسلاميين حول السماح للجنوب بالانفصال إذا ما كان ذلك ضروريا لقيام دولة إسلامية في السودان .المناقشات بدأت في عام 1974م ، عندما اقترح الإخوان المسلمين برنامجا لتكوين جبهة إسلامية عريضة تضم كل الأحزاب الرئيسية في السودان (..) وكان الإخوان المسلمين الذين اقترحوا لم شمل المجموعات الحزبية الأساسية (الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي) في جبهة متحدة قائمة على الإسلام ، كانوا يعون الاتهام القائل بأن أي تجمع مبني على الإسلام يعني بالضرورة عزل المواطنين غير المسلمين بصورة تلقائية” (12) .
ورغم وعيهم بهذه النتائج الكارثية كانوا يصرون على المضي قدما في سبيل بسط هيمنة مشروعهم السياسي ، ولو تم ذلك على حساب وحدة الوطن !.
. فالمهم هو الأيديولوجيا وليس الوطن ، وعلى رأي عاكف السوداني : و”طظ في السودان وأبو السودان وأبو اللي في السودان” !!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.