مختار اللخمي ” لا تهمني المناصب، و لا الأموال، و لا يخيفني الوعيد، و التهديد، و يريدونني أن أصمت، لكنني لن أصمت إلا بعد أن أموت.” إدوارد سعيد لقد استيقظت صباح اليوم، 25 ديسمبر عام 2012، و فتحت بريدي الإليكتروني كعادتي دائماً، كلما صحوت من النوم في الصباح، لكي اطلع على أخبار الدنيا التي تصل إلى بريدي من جهات كثيرة، مثل صحيفة القارديان، و موقع الياهو، و البي بي سي، و مجموعة العفو الدولية، …إلخ. و تفاجأت، و فجعت في نفس الوقت، برسالة من علي ندا، أحد أعضاء جمعية الدراسات السودانية بأمريكا. تشير الرسالة إلى أن وزير الثقافة السوداني، الدكتور/ أحمد بلال، قد أصدر قراراً بتجميد نشاط مركز الدراسات السودانية بالخرطوم لمدة عام، ابتداءً من صدور القرار، بحجة أن المركز يقوم بممارسة بعض الأنشطة، التي تهدد أو تضر بالأمن القومي السوداني. و لم يتم حسب ما توفر لدي من معلومات، أي أتصال أو إستفسار، أو مساءلة، أو إستدعاء لأحد من القائمين على أمر المركز من قبل، بل فقط تفاجأوا بالقرار. لقد شعرت بالغضب، و الأسى في ان لأمر السودان. و قلت في نفسي، أن هؤلاء الناس لا يعملون، و يؤذي أنفسهم أن يعمل الاخرون. تعود علاقتي العامة، و الخاصة بمدير مركز الدراسات السودانية، الدكتور/ حيدر إبراهيم إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث كنا وقتها طلاباً بجامعة الخرطوم. فقد كنا نقرأ له، من وقت لاخر، بعض مقالاته التي تنشرها الصحف السودانية، في نقد النظام الإسلاموي. و لم نكن نسمع به قبلها، و ذلك بسبب غيابه الطويل نسبياً خارج السودان. و عندما زرت القاهرة لأول مرة، في شهر مايو عام 2001، سارعت إلى زيارته بمقر المركز بمصر الجديدة، بغرض التعرف عليه، و على المركز. كنت أعتقد من واقع الضجة التي أثارها المركز لدى الإسلامويين، أو أثارها الإسلامويون حول المركز، أن أجد صعوبة في مقابلة الدكتور. و صور لي خيالي سكرتارية، و بروقراطية، و بروتوكولات، و هالة. لكنني وجدت غرفة صغيرة، و كمبيوتر، و طاولة. و قابلني الدكتور بتلقائيته المعهودة، هاشاً، باشاً. و طلب لي كوب عصير، و جلسنا بمكتبه نتحدث في شئون السياسة، و الثقافة في السودان. لكن بلا شك كان سعيداً جداً بمشروعه. و من وقتها تكررت، و استمرت لقاءاتي بالرجل، في كل من الخرطوم، و القاهرة حيث ظللت أزوره باستمرار، كلما حضرت إلى هذين المكانين، سواء بمقر المركز، أو بمنزله بمصر الجديدة. فهو شخص كريم، و مضياف، و متواضع. و على عكس الكثيرين من الأكاديميين، و حملة شهادات الدكتوراة في السودان، فهو بسيط، و تلقائي في تعامله، إلامن هالة المعرفة التي تجلله. و قد قيضت لي الظروف، أن أقتني، و أقرأ كل كتبه التي أصدرها في الشئون السودانية، و غيرها خلال هذه الفترة. كما ظللت طوال مدة معرفتي به، التي امتدت لمدة أثنتين عشرة أعوام متواصلة، أقرا بانتظام مقالاته التي يسطرها قلمه، سواء في الصحف السودانية في الداخل، أو التي تنشر عبر المواقع الإليكترونية. هذا بالإضافة لمتابعتي لنشاط المركز، و لقاءاتي، و أحاديثي الشخصية معه. كل ذلك أعتقد أنه يؤهلني للكتابة عن الرجل، و المركز. و لا أكتب اليوم عنه طمعاً في مغنم دنيوي، فالدكتور/ حيدر إبراهيم ليس لديه سلطة، أو مال أتطلع إليه. لكن فقط من أجل إحقاق الحق، و الحق وحده. كما أنني منذ زمن طويل، و منذ أن وعيت، قررت أن أجرد علاقتي بالناس من المنفعة الذاتية. تقول سيرة الدكتور/ حيدر إبراهيم التي تجمعت لدي، سواء من لقاءاتي معه، أو من ما سربه بنفسه إلى الصحف، و أجهزة الإعلام عبر لقاءاته، أنه ولد بالقرير عام 1943م، ( نلاحظ أن أغلب الشخصيات العامة في السودان، يظل تاريخ ميلادهم سر مقدس يحتفظون به حتى مماتهم.) و هو يعتبرها الولادة الأولى. أما الولادة الثانية بالنسبة له، حسب زعمه، فقد كانت في عام 1971م، في فرانكفورت بالمانيا. و ظل بها حتى حصل على درجة الدكتوراة في العلوم الإجتماعية من جامعة فرانكفورت عام 1978م. و عند ذكر فرانكفورت، تقفز إلى ذهن القارئ على التو، مدرسة فرانكفورت، و ما أدراك ما مدرسة فرانكفورت، و هوركهايمر، و أدورنو، و هابر ماس. ثم خرج من ألمانيا بعدها للبحث عن عمل، في عدد من البلدان العربية، منها ليبيا و السعودية، في قصص تصلح أن تكون نواة لأعمال روائية. إلى أن قيضت له الظروف أخيراً، الإستقرار في دولة الإمارات العربية المتحدة. فاستقر و عمل هناك أستاذاً لعلم الإجتماع. ثم غادرالإمارت بكل نعيمها، للإستقرار في السودان بشك نهائي عام 1988م. لكن فرحته، بالإستقرار في السودان، لم تكتمل، إذ فاجأ السودانيين في العام 1989م، ظهور الشبح، أو الغول الإسلاموي، بتعبير الدكتور/ عبد الله بولا، مما اضطره مثل غيره، للخروج مرة أخرى إلى المنفى في عام 1990، ليبدا قصة مركز الدراسات السودانية. ما يهمني على المستوى الشخصي، في هذه السيرة الثرة، ثلاثة أشياء: الأول: أن هذا الرجل، بعد أن تخرج من معهد المعلمين العالي، في منتصف الستينيات من القرن الماضي، عمل مدرساً بالمدارس الثانوية، بوزارة التربية و التعليم، حتى وصل لدرجة متقدمة تكفل له معيشة كريمة. ” يا الماشي لي باريس، جيب لي معاك عريس، شرطاً يكون لبيس، من هيئة التدريس.” لكنه ترك ذلك كله، على غير عادة السودانيين، في مثل هذه الحالات، و ذهب إلى ألمانيا لإكمال دراساته العليا. أنا أعتقد أن هذه سيرة إنسان، يمكن أن تكون مصدر إلهام لكثيرين من الأجيال الجديدة، في كيفية قهر الصعاب، و صناعة النجاح. الشئ الثاني من هذه السيرة، أن الدكتور/ حيدر إبراهيم، لم يذهب إلى ألمانيا، كمبعوث للدراسات العليا، من قبل الحكومة السودانية، أي أن هذا الشخص، عصامي، صنع نفسه بنفسه، صعد بقدراته الذاتية، و لم يأخذ مليماً واحداً من دافع الضرائب السوداني، على غير الكثيرين من الذين يتعالون، و يتبجحون علينا بشهاداتهم العليا، من قادة هذا النظام أو غيره. أما الشئ الثالث، فإن الدكتور/ حيدر كان يمكن أن يبقى مثل الكثيرين، في دولة الإمارات، و يكنز الأموال، و يصبح ثرياً، و يملك القصور، و السيارات، و يعيش مرفه. لكنه ترك كل هذا و رجع إلى السودان. و فوق هذا كله، على المستوى الشخصي، فالدكتور لم يعرف عنه تبذل في السلوك مثل كثيرين. فهو لا يعاقر الخمر، و إن كان هذا شئ شخصي، و لا يتعاطى السعوط، و تدخين السجائر. و لم نسمع عنه، و لم تثر حوله، شبهات العلاقات النسائية، التي تدور حول الكثيرين من أقرانه، و سمع بها القاصي و الداني، فالرجل به مسحة صوفية، ربما اكتسبها بالوراثة من أحد أسلافه. أقول ذلك لأن الإسلامويين، ظلوا لسنوات طويلة يزايدون على كل معارضيهم، و يبتزونهم بالجانب الأخلاقي، كمحاولة لإغتيال الشخصية. إضافة لهذا، فالرجل ملتزم بالديموقراطية، و حقوق الإنسان، و لم يساوم فيها طوال تأريخه، كما أنه ملتزم بتحقيق العدالة و المساواة في هذا السودان، و لم يعرف له تحيزات عنصرية، أو جهوية واضحة. و سأواصل في الحلقة القادمة الحديث عن تجربة مركز الدراسات السودانية.