آمنة مختار عانت الدولة السودانية منذ بدء عملية تكوينها الأولي من حالة مزمنة من الإجهاد السياسي ، تسبب به الأمراض التى رافقت عملية التكوين ، وأدت بالتالي إلى خلل مزمن فى بنية الدولة ( سياسيا وإجتماعيا ) سيؤدي لاحقا إلى إهترائها وخلخلة بنيانها– كنتيجة حتمية . فإذا كان المجتمع كائن عضوي يؤثر ويتاثر فقد كان من الطبيعي أن تنتقل كل الأمراض المجتمعية إلى بنية الدولة ، وتؤثر على مزاج صناع القرار ، الذين سيقحمون بالتالى كل هذه العلل فى مجال السياسة والحكم . وسيرتد هذا الأمر بالطبع بصورة عنيفة ليؤثر فى المجتمع والناس – كما نشهد الان . وهذه العلل والأمراض كثيرة – أولها العنصرية والأصطفاء العرقي والعقيدي ، التى تمظهرت بصورة بينة وجلية فى أثر سياسات المستعمر على الأرض والناس . يعتبر دخول الإستعمار إلى السودان – الذى بدأ بدخول العنصر العربي كعرق و الدين الإسلامي كعقيدة – كارثة ووبالا على العناصر العرقية السودانية الأصلية وعلى أديانها ومعتقداتها . هنا .. لعلعت صافرة البداية لتعلن إنفلات عقال حصان سياسات التهميش والإقصاء الجهوي والإصطفاء العرقي – الذى تشكل حاليا كأزمة وطنية : حروبا عرقية وجهوية ودينية على الأرض . وشحن سلبي كهرب العلاقات الإجتماعية بين المواطنين وشوهها بمشاعر النفور والإزدراء والكراهية بين التكوينات العرقية . هذا الشحن السلبي دعمته الدولة بوسائل إعلامها التى تروج لثقافات ومعتقدات بعينها – بإعتبار إنها الثقافة المثلي التى تمثل الوجدان الوطني . الأمر الذى زكى الشحن السلبي المتبادل وعمق المشاعر السلبية بين مكونات الأمة السودانية وبرز هذا الصراع من الخفاء إلى العلن ، ومن التقية إلى الجهر به . وهو ما دأب المثقفون على توصيفه وتشريحه تحت عنوان : جدلية المركز والهامش . وأسميه : بالمسألة السودانية . … والجدير بالتأمل : إنتقال إمراض وعلل الدولة إلى الكيانات والتنظيمات السياسية ، التى من المفترض أنها تمثل وعاء يستوعب التعقيدات الثقافية ، ووالتى تزعم إنها تقدم مشاريعا لإستعياب المكونات المختلفة للمواطنين ، وتقدم حلولا وعلاجا العلل المجتمعية لا مزكيا وداعما لها . فالتنظيمات الكبري أيضا تتجاهل عن عمد غالبية السكان (60% عنصر أفريقي ) ، وتنظر إليهم كمكون ثانوي- عرقيا وثقافيا ومن الملاحظ أن العلاقة بينها وبينهم يشوبها الإستغفال المتعمد والتعالي الفكرى الصفوي . فهى تسعى سعيا حثيثا إلى حشدهم داخل تكويناتها ، ولكن شرط أن يكون وجودهم ككومبارس أو جوقة من المهللين ، ومجرد إكسسوار للزينة الحزبية لتدعم به إدعاءاتها القومية . ولكن فى أول محك حقيقي لا يلبث هذا القناع إلا قليلا وينكشف ، مبديا عن وجهه العنصري التقليدي بكل قبح وقماءة. … منذ بداياتها روجت الحركة الإسلامية السودانية لمشروعها بين أهل الهوامش بإعتبارها بديلا حسنا عن التتنظيمات الطائفية التى مارست إستغلالا وإستغفالا ممنهجين لأهل الهوامش والإطراف . ولكنها بطبيعة الحال لم تكن بديلا حقيقيا ، لأنها أيضا فى سعيها لحشد المهمشين حول برامجها – مارست أيضا مغازلة الوجدان الديني ونشر التجهيل المتعمد وغسيل الدماغ – نفس الإساليب الممارسة من قبل التنظيمات الطائفية والعقائدية . ثم ساقت هؤلاء المغرر بهم وقدمتهم قرابينا على مذبح حروبها العقائدية وخلافاتها السياسية. .. هل إستيقظ مهمشو السودان المنتمين للحركة الإسلامية ؟ البداية كانت مع كادر الجبهة الإسلامية القوى( داؤود يحيى بولاد ) الذى إستيقظ على حقيقة مرة وقاسية ( إن العرق أقوى من الدين ) الأمر الذى جعله يعلن تمرده على نظام الإنقاذ الذى جاء ليمكن ويعيد صياغة ( دولة الجلابة) على أسس أقوى وبنيان اكثر رسوخا . كان ( من المفترض ) أن يكون لتمرد بولاد – كفاحه ضد دولة المركز ( المتمثلة هذه المرة فى حكومة الإنقاذ الوطنى ) – الأمر الذى ترتب عليه إعدامه بصورة بشعة وإنتقامية ، أن يكون بمثابة جرس إنذار و ( لمبة حمراء ) لبقية كوادر الجبهة السلامية الفاعلين المنتمين إلى الهوامش . وكان من الطبيعي أن يتبع هذه الصحوة صحوات .. خليل بعد التعديل : كما سبق أن ذكرت ، كان من المفترض أن يكون لتمرد بولاد – ومن ثم إعدامه ، أثرا داويا بين أهل الهوامش المنتظمين فى التيار الإسلامي الراديكالي ، ولكن للأسف تأخرت الصحوة الحقيقية حتى السنوات الأخيرة ، بعد أن كلف المشروع الإسلامى الهامش خسائرا فادحة فى الأرواح والممتلكات . هذا المشروع الذى إستهدف الهامش بكل وضوح ..منذ طلقة بدايته الأولى .. فأعلن الجهاد على نصف الوطن . وإنطلقت مركبات الموت العقائدية لتعيث خرابا فى الجنوب ..ولتحشد الجموع المستغفلة حول مشروعها الإبليسي لتصفية الديانة المسيحية ومعتنقيها . ولم تكن هذه الحرب المجنونة ..إلا مجرد تمظهرا آخرا من تمظهرات الدولة السودانية ذات الطابع العنصري منذ تكوينها ..