بدور عبدالمنعم عبداللطيف [email protected] في فجر يومٍ حزين صادف الجمعة 20 فبراير 2009 كانت العاصمة السودانية تتمطى في تكاسل في محاولة لطرد النوم من أجفانها.. محاولةٌ يحد منها أن اليوم عطلة وأبناؤها يغطون في نومٍ عميق. في تلك الأثناء كانت الطائرة البريطانية تهبط في مطار العاصمة السودانية وهي تضم بين جنبيها جثمان من هتف عالياً “أنا السودان..أنا السودان”.. ذلك البلد الذي يقع في مكانٍ ما من القارة الأفريقية. عند سماع الهتاف نظر العالم حوله..كانت “موسم الهجرة إلى الشمال” ترفل في هالةٍ من النور مثل عروسٍ في ليلة زفافها..انبهر العالم بالعروس القادمة من أحراش أفريقيا..تلقتها الأذرع..تلقفتها الأيادي. وفي سنواتٍ قليلة كانت رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” تفرض نفسها على جميع لغات العالم شرقه وغربه..شماله وجنوبه. عندما استيقظ أبناء العاصمة، كان جثمان “الطيب صالح” يرقد بهدوءٍ في تراب بلادٍ جحدت فضله فتجاهلته تماماً ولم توفه حقه من التكريم، وهو الذي كرّمها وحفر اسمها على خارطة الأدب العالمي بعد أن كانت نسياً منسياً. عندما بارح الأبناء..أبناء العاصمة مراقدهم كان جثمان “الطيب صالح” يتوسد ثرى وطنه وأي وطن !! بكى الأبناء.. هتف الأبناء…لم نكن نعلم بموعد وصول جثمان “الطيب” الطيِّب، فقد تعمدوا ألا نعلم..لماذا ؟ ألأنه في يومٍ ما قد قال بتلقائيته المعهودة..”من أين جاء هؤلاء ؟”..ولكن من منا من لم يهمس لنفسه فيقول “من أين جاء هؤلاء ؟” لم يفت على الكثيرين أن الحكومة قد تعمّدت أن تختصر مراسم تشييع الروائي العالمي رغم محاولتها إثبات حسن نيتها بحضور الرئيس مراسم التشييع. إن التعتيم على موعد وصول الطائرة ومراسم التشييع قد حرم الجماهير العريضة من المشاركة في وداع الأديب الراحل. وذلك على الرغم من أن تلك الجماهير نفسها قد تُحشَد لأية مناسبة أخرى بصرف النظر عن مدى أهميتها. في “لفتةٍ بارعة”، (جاءت بعد محاولات ومناشدات) قررت ولاية الخرطوم إطلاق اسم الأديب الراحل “الطيب صالح” على شارع “أوماك” بالرياض..هذا الشارع الذي لا يتعدى طوله ال 2 كيلو متر يمتد من شارع “عبيد ختم” غرباً حتى شارع “الستين”.. ولما كان الساكن القديم “أوماك” قد رفض مغادرة الشارع بعد أن ترسّخ في أذهان الناس، وأصبح من العسير محوه من ذاكرتهم، فقد غدت اللافتة التي تحمل اسم “الطيب صالح” عديمة الجدوى. ولإضفاء المزيد من تلك الكوميديا السوداء رأت ولاية الخرطوم أن تكتب بجانب اسم الروائي العالمي كلمة “الأديب”، ربما حتى لا يختلط الأمر على المارة فيعتقدون أنه اسمٌ لصاحب بقالة أو صالون حلاقة. وعلى نفس المنوال من “التكريم” الذي لا يقل فداحةً عن الإهمال، تمّ “تكريم” شخصيات كبيرة أسهمت في بناء الوطن بإطلاق أسمائهم على شوارع جانبية ضيقة شبيهة بأزقة الحارات، بينما ذهبت أسماء الشوارع الكبيرة لغيرهم بغض النظر عن حجم إنجازاتهم. في الدول المتقدمة أمثال الطيب صالح من المبدعين تُخلّد ذكراهم وتُنحَت أسماؤهم على الصروح والمعالم البارزة في بلادهم. و من هنا فإننا نطالب والي الخرطوم بإزالة تلك اللافتة المعيبة فهي تسيء للبلد أولاً قبل أن تسيء للطيب صالح.