اليوم يتوجه شعب جنوب السودان إلى صناديق الاقتراع ليقول كلمته في الدولة السودانية الموحدة؛ هل هذه الدولة جديرة بالاستمرار وجديرة بالثقة وقادرة على احتضان شعب الجنوب والوفاء بحقوقه في المواطنة المتساوية والحرية والكرامة فيصوت لصالح بقائها موحدة، أم هي دولة غير جديرة بمثل هذه الثقة وليست لديها القدرة على الوفاء بحقوق شعب الجنوب فيصوت لصالح الانفصال عنها والاستقلال بدولته، وكل المؤشرات والمعطيات الماثلة ترجح الخيار الثاني أي الانفصال، في مثل هذا اليوم لا بد أن يشعر كل من آمن بالسودان الواحد وكل من تشرب فكره ووجدانه بحلم السودان العملاق مرآة القارة الأفريقية بتعددها وتنوعها وثرائها المادي والإنساني؛ لا بد أن يشعر بالحزن والحسرة، ليس حزنا على الأرض والموارد بل حزنا على فراق الأحبة وحزنا على الفشل التاريخي للشمال في أن يمد يد الوصال ويقدم نموذجا ملهما في الوحدة مع التنوع، مشهد أبناء وبنات الجنوب وهم يغادرون الشمال مشهد صادم وجارح لكل سوداني يعرف معنى الوفاء والإخاء ويدرك أن السودان ليس مجرد صنيعة مصادفات جيوسياسية بل هو وطن له معنى ورسالة ، نعم لقد رددنا مرارا وتكرارا في كل كتاباتنا في الفترة التي شهدت ترتيبات وجدل الاستفتاء أننا من حيث المبدأ نؤيد حق تقرير المصير ونقدر الظروف والملابسات التي رجحت خيار الانفصال وأن الموقف الصحيح سياسيا وأخلاقيا وإنسانيا في هذه اللحظة التاريخية هو الترحيب بدولة الجنوب المستقلة وتهنئة شعب الجنوب باستقلاله، ولكن هذه الحسابات السياسية رغم منطقيتها ووجاهتها لن تمنع القلب من أن يحزن ولن تحبس دموع الفراق ولن تخفف ألم الحسرة في قلوب الذين يحبون الجنوب حبا نبيلا ويرغبون في بقائه ضمن السودان التعددي الديمقراطي العادل، السودان الذي بفقدانه للجنوب لن يفقد مجرد مساحة من الأرض بما فيها من موارد بل سيفقد جزءا من معنى وجوده!! ومن يدركون ذلك في الشمال والجنوب هم من سيعيدون توحيد السودان.. ولو بعد حين!! في مثل هذه اللحظات التاريخية الحاسمة يجب على كل الفاعلين في الفضاء العام وكل المتفاعلين معه التزام أقصى درجات الحكمة والرشد والتسامح لمواجهة التحدي الأكبر في هذه المرحلة التاريخية، والتحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن ليس هو تحقيق الوحدة أو تحقيق الانفصال الذي أصبح راجحا بكل المقاييس وينتظر اكتمال العملية الإجرائية لإعلانه بشكل رسمي، بل التحدي يتمثل في استدامة السلام بين الشمال والجنوب أثناء فترة الاستفتاء وبعد إعلان نتيجته وبعد اكتمال الشكل الإجرائي للانفصال وإعلان الدولة المستقلة؛ واستدامة السلام داخل الجنوب المستقل واستدامة السلام داخل الشمال نفسه الذي لن يفقد خاصية التعدد العرقي واللغوي والديني بعد انفصال الجنوب. في هذا اليوم التاريخي يوم الاستفتاء حيث تقف البلاد على أعتاب الانفصال وهو حدث كبير بكل المقاييس، لا بد أن تبرز كل التساؤلات الأساسية حول القضية الرئيسية في السودان ككل أي قضية إدارة التنوع الثقافي والتعدد الديني والعرقي والسياسي في السودان ككل، هناك من يظن أن لحظة مغادرة الجنوب هي اللحظة المناسبة لإعلان الشمال دولة إسلامية عربية خالصة تحكم بالشريعة الإسلامية، وهذا الاعتقاد من شأنه أن يفكك ما تبقى من السودان أي من شأنه أن يفكك الشمال نفسه، ومن شأنه أن يجعل المكونات الأفريقية والمسيحية وهي مكونات أصيلة في شمال السودان تشعر بالخطر والتهديد في وجودها ومصالحها وحقوق مواطنتها، هذا ما أدركه مجلس الكنائس السودانية فنظم مؤتمرا بعنوان مستقبل الكنيسة في شمال السودان بعد الانفصال، هذا المؤتمر اختتم أعماله يوم الجمعة السابع من يناير الجاري، قيام مؤتمر كهذا يدل على أن المسيحيين قلقين على مستقبلهم ويخشون من أن يكون لانفصال الجنوب انعكاسات سلبية عليهم، وهذه المخاوف لم تنشأ من فراغ، إذ أن الساحة الفكرية في السودان فيها تيارات متطرفة ضد التسامح الديني، ولا تعترف بحقوق المسيحيين كمواطنين مساوين تماما للمسلمين، فهذه التيارات المتطرفة تروج لكراهية الآخر الديني، بل إنها لا تحتمل حتى الآخر المختلف معها فكريا وإن كان مسلما، والإشكالية الأخطر من ذلك أن هذه التيارات تجد دعما من الدولة لخدمة أهداف ومصالح سياسية، والخطاب الحكومي نفسه في الآونة الأخيرة فيه ما يثير القلق والمخاوف، فخطاب السيد رئيس الجمهورية في القضارف وحديثه عن تطبيق الشريعة وانتهاء عهد التعددية وما أسماه(جغمسة الأديان) كل ذلك لا بد أن يؤثر سلبا في نفوس المواطنين المسيحيين وكل المواطنين غير المسلمين، بل إن مثل هذا الحديث يثير مخاوف كثير من المسلمين أنفسهم!! فموضوع (تطبيق الشريعة الإسلامية) غير متفق على محتواه بين المسلمين أنفسهم ولا مجال للتفصيل في ذلك هنا، ولكننا في هذا الظرف والجنوب يودعنا كان من الواجب على المسئولين أن يبعثوا بالرسائل المطمئنة للآخر، لا الرسائل المثيرة للتوتر والمخاوف، وعلى وسائل الإعلام أن تبث ثقافة السلام واحترام الآخر وليس التهديد بهدم الكنائس وبيعها بعد انفصال الجنوب كما فعلت بعض الصحف الصفراء في الآونة الأخيرة مما يعكس أن الشمال في إشكالية كبيرة، وأمام هذه الإشكالية لا بد أن تتوحد جهود كل المستنيرين المؤمنين بقيم الديمقراطية والتسامح الديني والسلام الاجتماعي في سبيل ترسيخ الحكم المدني الديمقراطي والتأكيد على الطبيعة التعددية للدولة السودانية في شمال السودان والتأكيد على أن المواطنة فقط هي أساس الحقوق والواجبات وفي هذه المواطنة لا فرق بين مسلم ومسيحي وصاحب أي معتقد ديني أفريقي أو حتى من ليس له اعتقاد ديني، فكل الأديان لها حق الوجود والتعبير عن معتقداتها والتبشير بها وإقامة المؤسسات ودور العبادة الخاصة بها، لا بد من التأكيد على أن الدولة يجب أن تكون محايدة تجاه جميع الأديان، لا تتبنى دينا معينا وتدافع عنه وتخصه بالامتيازات، الدولة واجبها فقط حماية الحرية الدينية للجميع والردع القانوني لكل من يمارس العنف على الآخرين على أسس دينية أو ينتهك حقوقهم الدينية بالقول أو الفعل، فالدولة تحمي وترعى وتنظم مصالح المواطنين من حيث هم مواطنين لا من حيث هم مسلمين أو مسيحيين أو أتباع أي دين آخر، التأكيد على هذه المعاني يجب أن لا يقتصر على مجرد النصوص الدستورية والشعارات السياسية بل لا بد أن يتجاوز ذلك إلى غرس ثقافة السلام والتسامح الديني في المجتمع وإعلاء قيم الإخاء والتضامن الإنساني، إن التسامح الديني قيمة جوهرية في الحفاظ على وحدة الأوطان وازدهارها، ولا يجب أن ينحصر هذا التسامح في مجرد الامتناع عن قسر الاخر على ترك عقيدته و الامتناع عن مخطابة الاخر بالقول الفظ بل يجب أن يتجاوز ذلك في اعانة هذا الاخر على بناء معبده الذي يمارس فيه شعائر عقيدته المختلفة، و مخاطبته بكنيته او لقبه الاحب إليه و دفع خطابه الفظ بالخطاب الاحسن، ففيهما سماح اكبر و اعظم. فالتسامح مستويات الاعلى منها تستوعب و تزيد على الادنى. ولعل ادنى مستويات التسامح- فكريا- هو تجنب سوء الظن بالاخر، و- انفعالا او شعورا- عدم كراهة شخص الاخر، و- عمليا- الامتناع عن التضييق و الشدة عليه. و كلما ازداد التفكير و الانفعال و الفعل المتصل بالاخر حسنا و اكراما للاخر ازداد سماحا و سماحة و ارتقى صعودا في مدارج التسامح. والمطلوب في مجتمعنا السوداني هو التسامح الإيجابي( التفاعل مع الآخر المختلف دينيا والتعاون معه) وليس التسامح السلبي( مجرد احتمال الآخر والكف عن أذيته)، إن المجتمع السوداني شأنه شأن المجتمع الإنساني ككل ينطوي على درجةً كبيرة من التباين والتوحد في الوقت نفسه, يتجلى التباين في العدد الكبير من الأعراق و الأجناس و الأديان و القوميات التي تحمل قيماً ومعتقدات تؤدي إلى ثقافات مختلفة, ويتجلى التوحد في أن كل أعضاء هذه الجمعيات يشتركون في كونهم يسعون للعيش بكرامة وسلام وتحقيق طموحاتهم ومصالحهم وعلى ذلك, فإن ما يجمع الناس هو أكثر مما يفرقهم, ولكن بالرغم من ذلك هناك من يدعو للصراع و الحقد والكراهية والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق الذي نناقش فيه مستقبل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين وأصحاب المعتقدات الأخرى وكذلك العلاقة بين المسلمين المختلفين في فهم الإسلام هو كيفية التصدي للأفكار المتعصبة والمتطرفة التي يقود للعنف، هذا مخاض طويل وشاق، من الناحية النظرية يبدأ ب ( قبول مبدأ التعددية الدينية والعرقية والثقافية والسياسية في المجتمع والاعتراف بما يترتب على هذه التعدديات من اختلاف في المواقف والخيارات الفكرية والسياسية والسلوكية اعترافا يستوجب احترام هذه الاختلافات والإقرار بمشروعية وجودها في المجتمع وحقها في حرية التعبير والتنظيم وحقها في التأثير على الحياة العامة والمساهمة فيها، وإدارة الاختلاف معها بالحوار العقلاني الذي يستبعد التجريم والتخوين والتكفير والتحقير والاستخفاف والعنف اللفظي أو المادي)، ونسأل الله أن تنتصر إرادة التسامح والسلام في شمال السودان، وأن يحفظ الله كنائسنا ومساجدنا ويوفق المتدينين الأخيار مسيحيين ومسلمين لبث القيم الجوهرية في كل رسالات السماء: العدل، الرحمة، الإخاء، الرفق بالمستضعفين، الحب، التسامح، السلام.