نونة الفكي.. يقول فيلسوف الثورات جان جاك روسو إن الظلم وحده لا يكفي ولكن الشعور بالظلم يؤدي إلى الثورة.. فالظلم والطغيان هما اسباب الثورة وليس الفقر أو الجوع. أي قراءة عابرة للتاريخ تكفي للدلالة على دوافع الثورة وأسباب تهاوي عروش القياصرة والأباطرة وسقوط حكومات الطواغيت الجبابرة، ولكن يبدو أننا شعب فريد بين الأمم كما نردد في أغانينا ومسادير دوبيت شعراء البطانة، وأن مقالة روسو لا تنطبق علينا .. وأن تساؤلات الدهشة والاستغراب عن شعب تم تصنيفه في ذيل شعوب العالم فقرا وهوانا وذلا.. وحكومة صنفت في أعلى قائمة الدول فشلا وفسادا وطغيانا وجهلا ستظل بلا إجابة. كان يكفي لدفع الشعب إلى الشارع استئثار إسلاميو الإنقاذ في جرأة وقحة بالسلطة والمال والثروة والمناصب، وتوقفهم – احتراما لكرامة الشعب – عن إصدار بيانات تكذب الإشاعات المقرضة عن فساد النخبة الإسلاموية… وتوقفهم عن تكرار الوعد بالفجر المرتقب ودولة الخلافة الراشدة. لم يسمح الوعي في مصر لزيف الوعد بدولة الشريعة ومسرحية التسلل الاسلاموي للتمكين والسيطرة على مفاصل الدولة أن تتداول لأكثر من أربعة شهور..ولم تنطل المؤامرة على الناس فخرجت الجموع الحاشدة تعري اكذوبة العبث باسم الدين بينما ظلننا في السودان حتى يومنا هذا نحدق في بلاهة لربع قرن من الزمان في انتظار حلم المشروع الحضاري وتحقيق دولة الشريعة والعدل. ظل الشرفاء في سوريا الباسلة يوقدون شعلة الثورة بعشرات الألاف من شهداء الحرية في الخروج والبقاء في ساحات الموت الكريم يواجهون آلة القتل وصلف السلطة في شجاعة وثبات كل يوم وطوال سنتين. وأقصى ما استطاعه الشرفاء في السودان هو الفرار بعشرات الألاف كل شهر خارج وطنهم حتى تجاوز عدد المهاجرين تسعة ملايين يأسا وعجزا وخوفا من الوقوف يوما لمواجهة السلطة الإنقاذية. لم يبق في الساحة إلا حشرجة احتجاج واهنة لبعض الأشياخ بين حين وآخر.. وتصريحات ناعمة تخرج من الأروقة المعطرة في الدوحة وبهو الفنادق الفارهة في باريس وفرانكفورت وكمبالا وقد اختفى الشرفاء في الظلام فأصبحوا في هذا الزمان عنصرا نادرا في سبيله إلى الانقراض. ولا يظنن أحد أن الشعب نسي ثقافة التظاهر ومسيرات الشارع وجمعة الكنداكة، فقد خرجت الجموع الهادرة وسالت الطرقات بالحشود الغاضبة حين انتقل هيثم مصطفى من الهلال للمريخ. ولا يظنن أحد أن الشعب يخشى الموت… فالجميع يمارس الموت المهين كل يوم وكل ساعة في لقمة العيش المستعصية المعجونة بالذل والمهانة… وفي بالجباية القسرية لتوفير الترف للإسلامويين وحوارييهم .. وفي سماع أخبار بيع البلد ومرافقه..وفي انهيار التعليم وتعذر العلاج وأفول الأخلاق يوما بعد يوم … كل ما هناك أن الشعب لم يبلغ الرشد بعد.