أجور الفنانين حسب الطلب والمقدرة.. أرقام فلكية وأسعار خرافية "إنصاف" الأغلى في البنات.. وترباس من استطاع إليه سيبلا!! صلاح بن البادية: كنا بنشوف طلب القروش عيب كبير تقرير: أيمن عبد الله أكيد إنها ليست بمنأى عن بقية الحاجات والضرورات ومتطلبات الحياة الأسرية في السودان.. وأكيد إن المناسبات السعيدة مثلها مثل الأتراح لن تتوقف أو تنعدم طالما هي ممارسة حياتية وطقس اجتماعي قبل أن يكون إنسانياً. ولعل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد ألقت بظلالها القاتمة على شارع الغناء السوداني.. والارتفاع المفرط والدائم في أسعار السلع والخدمات امتد ليصل إلى شباك الغناء السوداني، وأصبح سعر إحياء الحفل أو الأمسية مرتفعاً حاله كحال بقية السلع، وتحول الطلب على الفنانين السودانيين إلى سوق يصعب للناس دخوله إلا من رحم ربي. والمقصودون بالجملة أعلاه (من رحم ربي) يندرجون تحت بندين: المقتدرون مادياً.. أو الذين يستعدون باكراً لهذا الأمر. انعدام الرقابة أصبح أجر الفنان السوداني عالياً إلى حد بعيد، وصارت العدادات (كما يطلق عليها) موجة موسمية ترتبط بالفصول والمناسبات العامة، وفي بعض الأحيان بالظروف المناخية والجغرافية.. بل تعدته لتصبح رهناً بالظرف المزاجي للفنان ومرتبطةً بسياق حالته النفسية والمزاجية، وذلك دون أن تتمكن الجهات الرسمية المعنية بالتحكم في هذه المسائل من السيطرة، وصار كلٌ يغني على ليلى محبيه وصار كل فنان أو (مدير أعماله) يطلق العنان لمخيلته وتقديراته الشخصية لفنه فيحدد الرقم الذي يريد. وبما أن الغناء خدمة لا ينتهي الطلب منها – كما ذكرنا في المقدمة – فإن البعض يستغل الحاجة ويبدأ في ممارسة حلم الغنى السريع دون الالتفات للظروف التي يعيشها الآخرون أو مدى تضررهم أو المقدرة لدى الذين يرغبون في الاستفادة من هذه الخدمة (وذلك بافتراض أن عملية الغناء بالنسبة للفنان خدمة يقدمها فيأخذ مقابلاً مادياً تجاهها). ومما سبق من سرد يتضح لنا أن مسألة تقدير عداد الحفل لا تخضع لمعايير فنية أو قانونية محددة من الدولة أو الجهات المعنية كاتحاد المهن الموسيقية، وهو الجسم النقابي الذي ينضوي تحته كل الذين يمارسون مهنة الغناء والموسيقى باحترافية أو كهواية، كذلك الغياب التام للرقابة من جهاز للمصنفات الأدبية والفكرية. الاسعار متفاوتة بعض الأسعار يأتي في مقدمة الفنانين الأعلى أجراً كمال ترباس (32) ألف جنيه، يليه الفنان محمد الأمين (30) ألف جنيه وتأتي في المرتبة الثالثة البلابل 20 ألف جنيه.. وبات في مقدمة الفنانين الشباب طه سليمان (12) ألف جنيه، يليه أحمد وحسين الصادق يتقاضى كل منهما أجراً قدره (10) آلاف جنيه. أما أعلى الفنانات أجراً فهي الفنانة إنصاف مدني التي تتقاضى أجراً يساوي (10) آلاف جنيه، تليها مباشرةً ندى القلعة وهاجر كباشي.. ومن ثم تأتي بقية الفنانات. ويمكننا مما سبق أن نرى حجم التفاوت الكبير في الأجور الذي قد لا يرتبط بمعيار محدد ولا نص قانوني ملزم. المتعهد إبراهيم يوسف فرج الله الشريف الشهير ب(شلضم) قال: "ظللت أعمل في هذا المجال (35 عاماً) وبالتالي استطيع ان ادلو بدلوي، فالساحة في فترة سابقة كانت مليئة بالفنانين النجوم الذين يحترمون مهنتهم التي حفظوا بها تاريخ الفن السوداني، وكان في كل عام يظهر نجمان في الحفلات الجماهيرية، اما الآن فهي خالية والجيل الجديد ليس قائما بدوره ولا يؤدي رسالته بالشكل المطلوب، والحلول تكمن في اننا كنا نؤمل في اتحاد المهن الموسيقية الحد من ظاهرة الفنانين الشباب من حيث الصورة التي يقودون بها الحركة الفنية، وبالمقابل هم بعيدون كل البعد عن الحفلات الجماهيرية لأنهم لا يمتلكون أرضية صلبة لصناعة نجم الشباك لو لم يكن لديه الرغبة كالذي فعله الموسيقار محمد الأمين بالضبط لدرجة أن امرأة سبعينية ومقعدة حركياً تحرص على دخول حفلاته الجماهيرية". الوضع الاقتصادي مقارنة بين الأزمنة لم يكن موضوع الأجر هذا في الماضي شيئاً مبالغ فيه، وذلك لاعتبارات كثيرة وعديدة أولها أن الوضع الاقتصادي لم يكن كما هو عليه الآن من ضائقة مالية وارتفاع الاسعار، اضف إلى ذلك أن النظرة لموضوع الغناء في حد ذاتها كانت لدى الفنانين لا ترتبط بالمادة فقط بل تتعداه إلى قيم إنسانية أخرى. وفي ذلك يقول الموسيقار صلاح بن البادية: (ما كنا في الوكت داك خاتنو عشان نأكل منو عيش بس، كان همنا نوطد نفسنا ونوصل رسالتنا). وفي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن النظرة لدى الفنانين التي تغيرت هي سبب من الأسباب بجانب القيم الأخلاقية للمغني نفسه، الذي يرى في مطالبته المادية نوعا من عدم الاحترام ويعتبرها سلوكا شائنا لا يليق بصاحب الرسالة، وهو ما جسده بن البادية بقوله: (وكنا بنشوف طلب الأجر والمطالبة المالية العالية عيب). ويضيف صاحب سال من شعرها الذهب: (ناس الفرح مرات بقولو نجيب فلان داك عشان غالي.. يعني عشان يتباهو بيهو ما عشان بس يغني.. ودي ذاته مشكلة). إذن تغيرت النظرة العامة لدى المغنين والمجتمع هو طرف اساسي في هذا الوضع، وهذا ما أكدته الصحفية ملاذ ناجي التي ارجعت السبب الرئيسي لارتفاع تعاقدات الفنانين هو الفهم الاجتماعي السوداني الذي اصبح يهتم بالمظاهر فقط دون المضمون، وقالت: (السبب أالأسر التي تبالغ في المظاهر.. وتدفع مبلغ قدر ده لي زول يجي يغني ليهو ساعة ويمشي). وعليه يمكننا اعتماد هذا التفسير الذي يؤكد أن التغيير الاجتماعي الذي حدث في البنية الاجتماعية في السودان هو سبب رئيسي في المشكل. اتفاق.. ومبدأ من جانب آخر يرى الفنان الشاب محمد الحسن حاج الخضر أن هناك ارتفاعاً مبالغ فيه، ويرجع السبب إلى الارتفاع في كل السلع المقدمة في السودان والغلاء الكبير الذي يعيشه الناس. محمد قال: (عموماً في مبالغة في الأجور وارتفاع لأسعار التعاقدات.. وكل زول بقى حر في تحديد سلعتو بي كم.. وإذا تركت الحبل على الغارب سيصبح الحال هكذا). في إشارة واضحة منه إلى عدم وجود جهات رقابية تحدد مبلغ التعاقد وتلزم به الفنانين. وأضاف (إن التعاقدات في الخارج تتم بواسطة النقابات وهي لديها أسس لتحديد قيمة التعاقد لكل فنان). وبذلك يلفت الفنان الشاب نظرنا إلى نقطة مهمة، وهي أن النقابات والاتحادات المهنية هي ايضاً طرف وجزء مساهم في هذه القضية. بينما رأى الفنان محمد خضر حاج الحسن أن يقول في ختام حديثه إن المبدأ في التعاقد يجب أن يكون بالاتفاق بين الفنان والجهة المتعاقدة، حيث يراعي الطرف الأول (الفنان) الجانب الأسري ولا يغالي، بينما يجب على الطرف الثاني أن يدرك أن للفنان التزامات ابتداءً من الفرقة الموسيقية إلى أسرته التي يسعى بالطبع أن يوفر لها حياة كريمة. التشابك الكبير بين خيوط القضية ومسببات أخرى ترتبط بالمجتمع والوضع الاقتصادي الراهن والظرف الذي تعيشه البلاد الذى أدى بدوره إلى إحداث تغيير اجتماعي واسع في المفاهيم والقيم الاجتماعية والإنسانية والدينية في الإنسان السوداني، كلها مسببات أدت إلى هذا الارتفاع الخيالي والجنوني في أجور الفنانين. وبين لهيب هذا الارتفاع ووجع التغيير السريع يعيش المواطن البسيط ويتقلب فيها متمسكاً بقيمه الفاضلة خافضاً رأسه أمام شاشة المظاهر التي أصبحت شكلاً اجتماعياً مرغماً له.