السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفتاح 12
نشر في كورة سودانية يوم 20 - 04 - 2025


محمد عبد الماجد
مفتاح 12
من أهمّ مُسبِّبات ومُقوِّمات السلام النفسي، والتصالح مع الذات، أن لا تفعل في السر ما تخجل منه في العلن، وأن لا تتجمّل كذباً، مثل إعلان الدلالات، وأن لا تدعي ما لم تقم به {لَا تَحۡسَبَنَّ 0لَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أَتَوا۟ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُوا۟ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُوا۟ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةࣲ مِّنَ 0لۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمࣱ} [سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: 188].
ما أكثر الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، إنّهم يدعون الفضيلة، وهم علاقتهم بالفضيلة علاقة البقرة الضاحكة بعلم الحاسوب.
عندما تقف أمام المرآة تكتشف أنك كبرت 50 سنة، ثم تكتشف أنك تقف أمام صورة جدك.
هل هذا الكلام لديه علاقة بالحرب؟ الناس في بلدي جراحهم من همس، وهمسهم من جرح، وحين ما ينطقون ينطقون ب(الكهرباء جات).
الفراخ الجيدة في بريطانيا يعرفونها من (أسنانها).
قبل الحرب كانت الأفلام الهندية (دراما) وبعدها أصبحت (واقعاً).
حميدتي حي أم ميت؟ عشنا سنة كاملة في هذا المنوال. والآن الحرب تقترب من نهاياتها وليست هناك حقيقة مؤكدة، رغم أنّ الموت هو الحقيقة الأوضح في الوجود.
في الأفلام الهندية أي شئ جائز، إلا ما تتوقعه، وفي الواقع أيضاً.
أبحث عن مدخل، وجدته، السودان من سلالة (أخوات كان).. كل شئ فيه كان، هل أصبحنا في خبر كان؟
كل شئ عندنا كان حتى الوطن.
كنت حريصاً أن أكتب عن خروجي من السودان إلى مصر، عبر وسيلة غير شرعية، وأنا أكفر عن ذلك بالجهر عنه حتى لا يعتبر ذلك سراً، وقد خرجنا بما يعرف عند الناس بالتهريب، وإن كنت لا أنفي المخالفة في هذا الأمر، وليس لي ذلك، فكل ما يأتي خارج نطاق القانون يبقى أمراً مرفوضاً، ونحن الذين ندعو إلى القانون أول من يخالفه، إلا أنّ عزاءنا في ذلك أنّ تهريب البشر اكتسب بعضاً من الشرعية أو هو كان له كل الشرعية الاجتماعية لا القانونية التي مُنحت له على استحياءٍ، في ظل ظروف الحرب التي يمر بها السودان، فجعلت مصر تغض الطرف عمداً في الكثير من الأوقات عن الداخلين لأراضيها بصورة غير شرعية، وهي لو أرادت أن تمنعهم لفعلت، وقد كانت مصر في الأيام الأولى تفتح أبوابها وتستقبل الداخلين لأراضيها كلاجئين بالزهور، ينعمون بكل ما ينعم به المقيمون بصورة شرعية، بل بكل ما ينعم به المصريون أنفسهم في بلادهم، وفي ذلك لهم كل الثناء. قد نتعرّض في مصر لبعض المضايقات، لكن ما وجدناه من وسع يغفر لهم كل الضيق.
كذلك يدعم دخلونا لمصر أننا مررنا بكل الجهات المسؤولة في السودان، وقد حدث ذلك على عينك يا تاجر، وهي لم تمنع ذلك حتى لا تزيد ضيق أبناء البلد، ربما!! وحتى تجد لهم مخرجاً ربما!! وقد كانت الجهات المسؤولة تراجع الأوراق الثبوتية للمغادر، وتمنح عربات الترحيل أذونات السفر بعد تفتيش العفش والتحقيق الشفهي مع المسافرين، وكأنك تقف أمام ضابط الجوازات يطالع لصورتك على الجواز وينظر إلى صورتك الحقيقية أمامه، ضباط المخابرات في الغالب يفعلون ذلك في استياءٍ، هل هو تكتيك استيائيٌّ منهم أن يكونوا بكل هذا الاستياء أم هي صورنا التعيسة؟ عادةً لا يوجد شبهٌ بين صورتك على أرض الواقع وصورة الجواز ولكنك تمر، كنت قد مررت بكل النقاط منذ الخروج من العاصمة وحتى مغادرة الأراضي السودانية، وهنالك شئٌ من حتى، مهنة الصحافة في هذه الحرب تعطلت كل خواصها وكل امتيازاتها ولم يبق منها إلا (متاعبها)، الخروج لم يكن سراً، لذلك فإنّ الأمر لا يلبس جلباب (تهريب البشر) بالمفهوم المعتاد والذي يمنع بصورة مغلظة، قد يكون ذلك التلطف الذي تنتهجه السلطات السودانية والسلطات المصرية مع المخالفين ناتجاً لطبيعة العلاقة بين الشعبين فهم يقولون عنا في مصر، (السودان ومصر دولة واحدة)، وهي فهلوة لا تخلو من صدق، وقد لا نكون نحن بذات الدبلوماسية فنكتفي ب(مصر يا أخت بلادي)، وعن مصر كتب التجاني يوسف بشير ومحمد سعيد العباسي وإدريس جماع وسيد أحمد الحردلو وتاج السر الحسن أجمل ما قيل شعراً في مصر، وغنى لها أحمد المصطفى وسيد خليفة وعبد الكريم الكابلي ومدحها الشيخ البرعي، وكل أولئك بالتأكيد لم يكن ينافقون مصر، وبعيداً عن الحرب والسياسة وما يتلبسها من مصالح وما ينتابها من دبلوماسية مُمنهجة، وما تفرضه المصلحة واللغة الإعلامية المنمقة، فإنّ طبيعة العلاقة بين الشعبين حقاً يسيطر عليه ذلك الود.
عندما تزور مصر فإنّ أول ما يبادرك منهم وأنت في سلم الطائرة تتنفّس هواء المحروسة قبل أن تلامس أراضيها، أن تسمع من يقول لك :(يا ابن النيل انتو أجدع ناس) و(نوّرت مصر)، ونحن قادمون من بلد غادرها (النور) قبل أكثر من عامين، وقُطع التيار الكهربائي في كثير من مناطقها قبل أكثر من عام!! أحياناً تصدق، وأحياناً تقول إنها من أجل (البقشيش)، ويظل هذا التعريف (انتو أجدع ناس) يلاحقك في كل خطوة تخطوها في مصر، كأنهم يمنحوك كلمة المرور لقلوبهم، وبين الفينة والأخرى، تسمع كلمة (يا باشا)، و(خلي عنك) وانت ليس لك من الباشوية غير منحتهم تلك.
وأنا أدخل مصر (لاجئاً)، قلت في نفسي هل ستختفي تلك الكلمة التي كانوا يشرفوننا بها أم أنها ستسقط بسبب اللجوء؟
وجدتهم يتكرمون بها على السودانيين حتى كمائن المباحث التي تقوم بها الشرطة المصرية لضبط الوجود الأجنبي غير الشرعي لا تخلو من (يا باشا)، وانت عارف بقأ!! ولا تحسبوا الباشوية تمنح عبثاً، فهي تكلفك الكثير، فما أن تسمع (يا باشا)، إلا أخذتك الهاشمية ورددت التحية بما هو أفضل منها، قائلا :(مصر أم الدنيا) والمرؤ يطربه الثناء.
نعم أن السوداني مازال (باشا) في المحروسة حتى وهو (لاجئ)، لا حول له ولا قوة.
حريص على أن يحافظ السودانيون على سجيتهم وأخلاقياتهم وباشويتهم التي عُرفوا بها قلة من السودانيين يُشوِّهون صورة البلاد، أعرف أن أي مجتمع أو أي شعب لا بد من وجود فئة سالبة فيه، ظروف البلاد والحرب قد تساعد على شيوع تلك السلبيات، فالحاجة والعوز قد يجبران البعض على أن يتخلون عن قيمهم ومبادئهم، لذلك وفي ظل هذه الظروف لا بد أن يكون تيار الإصلاح أقوى، ليس في الحياة الاجتماعية وحدها، بل في الحياة السياسية أيضاً وهي أُس البلاء، وساسة بلدي يعتقدون أنّ نجاحهم الأساسي في خراب البلد.
فأعداء وطني هم أبناء وطني، والحرب الدائرة الآن تدور بين أبناء الوطن الواحد فيحسب كل طرف أنّ في موت الآخر انتصار له، وأن في تدامير مرافق البلاد العامة في الطرق والجسور والكهرباء والمياه والمطارات مكاسب لهم.
هذه الحرب أفرزت فطريات وطحالب بشرية ضخمة، الانتهازيون قد يجدون فرصتهم في هذه الأجواء فينافقون ويتاجرون فيكبرون هؤلاء في الوسط الإعلامي كثرٌ، سوف تنتهي الحرب وسوف ينكشف أمرهم، عزاؤنا أنّ الناس أصبحوا من الفطنة بمكان ما يجعلهم يعرفون الطيب من الخبيث. هؤلاء المُتسلِّقون لم نعد في حاجة حتى لأن ندخل في صِدامٍ معهم، لأنهم أصبحوا معروفين ومكشوفين، وإن لم يُكشفوا ويُعرفوا سوف نصبر لهم لحين، سيُكشفون، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟
الحرب بين الجيش والدعم السريع أفرزت، طبقة من الانتهازيين يعرفون أنهم سيكونوا هم الخاسر الأول إذا وقفت الحرب، لذلك ظلوا يدعون إليها بحجة أنهم يفعلون ذلك من أجل الوطن وأنّ وطنيتهم هي التي تدفعهم لرفض السلام، هم يدركون أنّ خراب البلد يزيد من مكاسبهم، لذلك كلما كانت هنالك سانحة أو فرصة لوقف الحرب بثوا سمومهم وأحقادهم وغلّهم، فهم يعلمون أنّ السبيل إلى هدفهم هذا لا يكون البلوغ له إلّا عن طريق الكراهية.
عندما تمر بتجربة وإن كانت شخصية، فإنّ الكتابة عنها ينقل التجربة للآخرين وإن لم يعيشوها، والأمانة المهنية تلزمنا أن ننقل ما نعيشه بأمانةٍ وصدق، حتى وإن كنت تشعر ببعض منه بالحرج. في الكتابة عن أمور شخصية تبقى للحروف إلفةٌ وحكاوى والتماساتٌ، فلا تحسبوا ما ننقله إليكم لا يخصكم في شئ، والأشياء تتشابه والظروف في كثير من الأحيان تكون واحدة، وما حدث لنا حدث لآلاف من الناس، وللمقال الشخصي Essay personal درجة عالية من الصدق والشفافية وقدرة أكبر للتصوير والتعبير، فأنت تحكي عن قصة أنت بطلها، حكاية أنت عشتها بكل حواسك وانصهرت فيها حدّ الكتابة. والكتابة عندي أقصى حالات الصدق، وأقصى حالات العشق.
يقول الأديب السوداني معاوية محمد نور (1909/1941) في كتابه بين ثقافتين، الذي يجمع فيه بين قصص ومقالات لمعاوية محمد نور (من أظرف ألوان الأدب الغربي المقال الشخصي Essay personal الذي أجاد فيه الكاتب الإنجليزي الكبير شارلز لام وأصبح فيما بعد ذلك من أروج أصناف الكتابة وأخفها على النفس وأظرفها).
والأدب الروسي الأعمق دخولاً في الأزمات النفسية وتباريح النفوس يقول معاوية محمد نور (عبقرية الأدب الروسي مثلاً في إنسانيته الواسعة، وصراحته البسيطة. كما أنّ عبقرية الأدب الفرنسي هي في منطقه وتفكيره المتزن وأناقته).
بعد أن هدأت الأوضاع وتوقفت الشفشفة (الدعامية) وإن حلت بعدها شفشفة عابرة، قرّرت السفر ومغادرة شرق النيل، نحن كنا في حاجة عاجلة لترميم ما تلف في الدواخل وما عُلِّق في النفوس.
كنت عندما أقابل شخصاً أعرفه في شرق النيل أو خارجها من الأهل أو من الأصحاب، كان يقول لي: يا زول إنت عائش؟ وذلك لأننا كنا في حكم الميتين، أو كأن ما عشناه يفرض علينا الموت، ونحن ننظر للحياة وللموت ليس كما تنظرون، فكم من أحياء ميتون وكم من أموات مازالوا أحياءً في قلوبنا يعمرونها بذكراهم ومواقفهم الجميلة.
في 2020م عام الكورونا وفي حادث حركة أليم، فقدت صديق الطفولة والدراسة والحي والعمر عبد الفتاح بشير فحل، في حادث حركة عندما كان عائداً لشندي من الفاشر، صديقي هذا رغم رحيله قبل خمس سنوات، عندما يرن هاتفي مازلت أنظر لشاشة التلفون فقد يكون المتصل (فتاح) هكذا كنت أسجل اسمه في الهاتف تحبباً.
عندما يطرق الباب، أجري لاهثاً، فقد يكون الطارق عبد الفتاح. يا للفجيعة عندما أُصيب بخيبة الأمل، فأجد الطارق شخصاً آخر غير عبد الفتاح.
عندما أجهِّز طبق فول أو أعد كباية شاي أتخيّل أن عبد الفتاح سوف يشاركني فيهما، لذلك أحسن إعدادهما، يا للفجيعة أن أتناول ذلك بدون عبد الفتاح.
عبد الفتاح كان جميلاً، لدرجة إنّي أقول لماذا لم نستخلص منه العطر عندما كان حيّاً بيننا، فقد كان عطراً نفاذاً، ومازالت سيرته تعطر حياتنا وأنفاسنا، ولذكراه عبيرٌ.
أعددت حقيبتي للسفر، وعادةً عندما أقرِّر السفر أترك كل شئ لآخر لحظة، الشنطة والجواز والتذكرة، وانتهي في النهاية بما تيسّر من جاهزية، حتى الأهل والأصحاب أودِّعهم في اللحظات الأخيرة.. لا أحب الترتيب المبكر للسفر وإن كان السفر هوايتي المُفضّلة.
ساعة الصفر في أسفاري هي الساعة التي أفعل فيها كل شئ.
لا أعرف ماذا يحدث في اللحظة القادمة، لذلك لا أعلن عن شئ ترتب له الأقدار.. والسفر أمرٌ قدريٌّ لا يد لنا فيه، فكم سافرت دون سفر وكم أقمت دون إقامة.
وصوني بأن أتزوّد بالبلح وأن أكون (دغلاً) في سفري، لأنني في الشارع سوف أتعرّض للكثير من المضايقات، لا أدري ما علاقة البلح بالدغالة، لكي يجمعوا بينهما.. لكنني أدركت بعد حين أن الدغالة والبلح ضروريان في السفر.
في مراكز التفتيش يسألونك يا زول إنت شغال شنو؟ عندما أقول لهم صحفي، يترك السائل كل شئ، وتتوقّف الحركة، وتترامى عيونه شرراً، وأحسب أنه يقصد ذلك، يرفع رأسه متضجراً وهو عبوسٌ، وينفخ في الهواء بطريقة امتعاطية هواءً ساخناً مُعترضاً، وكأني قلت له ألعن أبوك.. هل مهنة الصحافة طاردةٌ لهذا الحد؟ أنا لا أصلح أن أكون طبيباً أو تاجر مواشٍ أو سوّاق قطر أو عاطلاً عن العمل.. أعتقد إنّي لا أصلح لغير أن أكون صحفياً، لهذا تمسّكت بهذه المهنة حتى بعد أن لفظت كل أبنائها.. لكن الصحافة في زمننا هذا تحتاج لشئ من التملق والنفاق والتطبيل والكذب وهي أشياءٌ تجعل الصحافة تجارة والكتابة جباية، لذلك قد نهجرها كرهاً.
أسئلة الضابط بعد ذلك تتّجه إلى اتجاه آخر، وهو يقول لك: يا زول إنت المقعِّدك في الحرب دي شنو؟ سؤال تجريمي أيضاً، كأن أمهاتهم ولدتهم (مسافرين)، تطلع يقولوا هرب، تقعد يقولوا خائن!!
وزول تاني وهو يجرّمك لأنك صحفي يقول ليك: إنت بعد الحرب ما انتهت ماشي وين؟ ونحن قاعدين في منطقة لا فيها كهرباء.. لا موية.. لا مدارس.. لا شغل ولا صحافة والحياة فيها بنص القيمة، نص حياة ونص موت، حتى بعد أن دخلت (الضل).
في تلك المراكز والحديث عن مراكز التفتيش، قابلت أيضاً من قابلوني بحُب وتقدير، خاصةً من عرفوني، وقد كان المريخاب ألطف معي من الهلالاب، كانوا يرفضون حتى تفتيش حقيبتي عندما يعرفوني ثقةً، هذا الوطن جميلٌ، الاختلافات فيه لا تزيدنا إلّا حُباً.. والهلال والمريخ إيد واحدة.. الجيش والشعب إيد واحدة.
غادرت السيارة شرق النيل، ولكن لم يغادر قلبي، فقد نسيته هناك، عادةً عندما أغادر مكاناً أحس إنّني نسيت شيئاً ما، أظل أقدح وأنحت في الذاكرة لكي أتذكّر ما نسيته، فلا أتذكّر، وعندما أغادر وأبعد أتذكّر ما نسيته، هذه المرة اكتشفت إنّي نسيت قلبي شرق النيل كلها ومربع 10 الحاج يوسف منطقة اكتشفتها في الحرب، كنت أعتقد أنّ أسرتي تتكوّن من 4 أو 10 أو 14 فرداً، فوجدت أنّ شرق النيل كلها أسرتي الصغيرة.
وصلت عطبرة، سوف اختصر الخطوات ومكثت فيها عشرة أيّام، أنا من عُشّاق مدينة عطبرة، أحس بهوى ودفء خاص لكل ما كان يحبه والدي.
السكة حديد مدرستي الأولى، والدي أورثنا السكة حديد، أشعر أنّ السكة حديد من بين أملاكي التي ورثتها من أبي مثل الجينات.. وشائف في أي قطر عندي النصف.. إحساس الملكية هو إحساس حُب، الوطن دا حقنا لذلك نحبه، وأي زول يشعر بأحقيته في وطنه.
في عطبرة أعدت ترتيب جوارحي من جديد، نظّمت أشواقي وهندمت مشاعري، تجوّلت في محطة عطبرة، ارتويت منها، كنت أحدث فيها الصنفورات والقضبان والفلنكات والأرصفة وعربات البضاعة والمشترك المتوقفة، وكانت تكلمني وتبادلني الحنين، لي في هذه الأنحاء ذكرياتٌ تسعى كما الأطفال، أشعر نحوها بالحب والشوق (قطار الشوق متين توصل) الشوق لعطبرة مثبت مع الرقم الوطني.. سأكتب عن عطبرة لاحقاً.
سريعاً ما مضت الأيام، وكانت قبلتي القادمة مدينة أبوحمد.. مدينة صديقي الراحل عبد الفتاح بشير فحل الذي حدثتكم عنه آنفاً، لذلك هي مدينتي.. نخيلها نخلي، ورمالها رملي، وصخورها صخري، ونيلها نيلي.
وجدت في سوق أبوحمد من حلف عليّ بأن آكل معهم السمك، أكلته معهم، فالمشاركة هناك فرض عين.. والسمك منه وليه بعزم في الناس.
المكتب الذي تولى أمر سفرنا، كان يرتب أموره وكأنه الخطوط الجوية البريطانية، يقضون أمورهم بكل هدوءٍ وتهذيبٍ، يتحدثون بدبلوماسية نفقدها حتى في وزير خارجيتنا، لا يقلقونك حتى بالتلفونات، يتركون كل شئ على هواك.. تسافر منهم وأنت راضٍ..
في مكاتب الجهات المسؤولة بأبي حمد، أوقفونا صفاً كأننا جئناهم من سجن أم درمان وسألونا بغلظةٍ وحِدّةٍ وكلام تحت اللسان، استعملوا معنا بعض الضيق وهو أمرٌ لا بد منه لمن يشغل وظيفتهم، ونحن نجد لهم العذر ونقدر فيهم ذلك التعامل في هذه الظروف، حيث يقصدون استفزازك لكي تخرج من طورك فيروك كما يريدون، لم نستجب لاستفزازهم، فقد عشنا قرابة العامين في شرق النيل مع الدعامة لا نتعرّض لشئ غير الاستفزاز، حتى أصبح الاستفزاز بديلاً لشاي اللبن والفول والدافوري والجرائد.
غادرنا أبوحمد، هنالك مناطق ومراكز تشعر فيها أنك أتيت لها من أجل أن تغادر، هذا الإحساس ظل يغلب على حواسنا في كل الأمكنة.
رحلنا، الصحراء، وهجير الشمس كان أرحم علينا من معاملة الدعامة وصوت الرصاص وضرب النار، والشفشفة، كل ضيق نتعرّض له من بعد لا نعده ضيقاً لأننا أخذنا مناعتنا من الضيق.
الصحبة والرفقة التي تفرضها الأسفار والمركبات التي ترحل عبرها، تقرب من الصحبة التي ترافقك في الدراسة، كنا أولاد دفعة واحدة في سفرنا هذا.
وصلنا منطقة يقال لها (النابع)، أكلنا فيها الفول كما يجب، وهكذا يكون الفول حيث الفول فولاً، لهفتي له أوشكت أن تجعلني أقول لهم الفول فولي وحدي لانفرد بأكبر قدر منه، ولكن الحرج منعنا من ذلك.. لحظات معدودة حتى أصبح صحن الفول فارغاً بلا أثر. لا يستطيع أحرف قصاص لتتبع الأثر أن يكتشف أو يعرف ماذا كان في هذا الصحن المغلوب على فوله.
اتّجهنا بعد وجبة العشاء الى منطقة يقال لها (الآبار) على الحدود السودانية المصرية وكان طوال مشوارنا من أبوحمد وحتى منطقة الآبار نشاهد مناطق التعدين وحركات الدهابة واجتهاداتهم في ذلك الخلاء، كلهم ذهبوا إلى ما عنده ذهبٌ، لا أدري لماذا شعرت أنّ الحكومة السودانية تسرقنا، أين تذهب عوائد كل هذه الثروات، إنّنا نقف في منطقة لو رفعت قدمك تلقى ليك تحتها (ذهب)، إنها أرض الذهب.
قضينا ليلتنا الأخيرة في الأراضي السودانية، استنشقنا هواء تلك الليلة بشئ من الحنين وبإحساس المغترب المغادر بلاده، شربنا شاينا وفطرنا وبقينا مارقين، لتبدأ المعاناة الجد، ولنشعر أنّ الحرب كانت أرحم مما وجدناه في الأراضي المصرية قبل الدخول إلى أسوان.
أحضروا لنا عربة، أعتقد أنها من الجيل الحجري للسيارات كانت تستعمل لترحيل الجمال، أو أنها من سلالة السحالف أو تستعمل لأغراض غير آدمية، قالوا لنا إذا أردتم مصر فاركبوا هذه العربة ستدخلون مصر بسلام آمنين.
العربة بوكسي نيسان موديل قديم ماكينة 2700، لا يغرنكم جمال الاسم، فأنا أعتقد أنّ هذه السيارة دخلت مصر مع الحملة الفرنسية، وأعتقد أنّ محمد علي باشا دخل بها السودان، والدفتردار قاد بها حملته الانتقامية، ولا استبعد أن يكون سفرنا بها داخلاً ضمن حملة الدفتردار الانتقامية، فقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
ركبنا العربة أو جدعونا فيها مثل الأرانب في جحر غريب، نشارك العفش خاصيته (محل ما ترميه بقعد)، كانت وجوهنا تستقبل الصحراء، بعضٌ منا تم تربيطه وبعضنا لم يربط، أتحدث عن الركاب لا عن العفش، فقد يتشابه عليك الاختصاص.
انطلقت العربة كالسهم في البداية، تغرينا برشاقتها وخِفّة حركتها، وكان سيرها وصوتها وسرعتها تغيظ بهم السواح، تبدّلنا نحن الركاب الابتسامات فيما بيننا، حتى إنّنا تحدّثنا عنها بما يشبه الغزل، وما أن أصبحت الصحراء وراءنا والجبال أمامنا إلا وتعطّلت العربة وحرنت، حرون الثور المُساق للذبح، وأظهرت لنا كل عيوبها وتبرّجت، فقد كان لها خوار، اكتشفنا سخانة الماكينة لأن الليتدر (مقدود)، أخرجناها وأصلحنا ما به من عيوبٍ، لكنه كان ما أن تسير العربة مسافة 5 أو 7 كيلومترات، إلا تعطّلت لنعيد إصلاح الليتدر بالعجينة السحرية تارةً، وباللحام البارد تارةً أخرى، حتى استهلكنا كل معونتنا بما في ذلك الماء الذي كان لشرابنا، (مويتنا شربها اللديتر دا) ترى كيف نقطع مسافة قد تصل إلى 700 كيلومتر والعربة لا تسير أكثر من 5 أو 7 كيلومترات، وتحرن، فقد كنا نقف 3 ساعات ونسير ثلث ساعة، زادت مخاوفنا وانتابنا القلق بعد أن قضينا على الأخضر واليابس من بلح وبسكويت وعيش ناشف وعدمنا حتى مياه الشرب، فما كان أمامنا غير أن ننتظر إحدى العربات التي تكون قادمة من السودان أو مصر لتمدنا وتنجدنا بالزوادة والماء. سائقنا تعرّض لمطاردات ومُلاحقات من حرس الحدود المصري أجبرته على أن يتخذ طريقاً مهجوراً لم تكن دورات السلطات المصرية تصله كثيراً، خشية الكمين، ليوردنا سائقنا موارد الهلاك ويرمينا في الخطر ويقودنا إلى حتفنا، فقد استنفدنا كل المعينات بعد التوقف الكثير والأعطاب المستعصية وعدمنا مياه الشرب واللديتر، لتتعطّل العربة مرة بعد الأخرى في ذلك الشارع المهجور، فنعيش في الخطر ونعاني من الجوع والعطش، هل يمكن أن نخرج سالمين من حرب السودان ومن نيرانها ونموت هكذا عطشاً للماء؟
هل خرجنا لتكون نهايتنا في تلك الصحراء؟
ح نموت في الصحراء، ناس الفيس لقوا ليهم موضوع.
مضت 12 ساعة ولم تمر بنا سيارة وحاجتنا للماء تزيد لحظةً بعد لحظة ليتفرّق بعضنا بحثاً عن مناطق مياه قريبة ولكن بدون جدوى. طيرة ساكت مافي.
بلغ بنا اليأس مبلغ القلق والتوتر الشديد، وتحدث بعضنا وبيننا نساء وأطفال عن موتهم في تلك الصحراء القاحلة.
لم يكن أمامنا غير الدعاء، والرجاء والتضرُّع، فقدنا الأمل في الأرض، فاتجهنا إلى السماء، لتظهر فجأةً عربة في طريقنا هذا بعد أن استغلت شارعنا هذا لنفس السبب، فمدّتنا ببعض الماء وبعض المعينات الناجعة لحل العطب الذي تعاني منه سيارتنا، فرحنا وهلّلنا لهذا النصر، ولكن يبدو أنّ الذين استعينا بهم من العربة التي مرّت بنا، استعملوا أدواتهم الخاصة وبعد أن أصلحوا اللديتر بصورة جيدة، قرّروا النظر في مشكلة الكهرباء، فكوا (وزنة التايم) لتغيير وضعيته عبر مفتاح 12 الذي أتوا به من سيارتهم، ثم غادروا ظناً منهم أنهم أصلحوا عيوبه وهم لا يدرون أن كهرباء السيارة فُصلت، وأنّ البطارية أصابها ما أصاب اللديتر، أصبحت العربة معطلة تماماً في نفس المكان المقطوع، وكان لإعادة وزن التايم لا بد من مفتاح 12 ولم يكن بحوزتنا هذا المفتاح أو هكذا ظن سائق العربة، ولم يكن هناك غير أن ننتظر عربة أخرى لنستلف منهم مفتاح 12.
مضت الساعات وانتهى ملحق زوادتنا الذي تحصّلنا عليه من العربة الماضية ولم تمر بنا عربة أخرى.
مضى النهار ولكن بعد أن زاد عطشنا وقلقنا وتخوفنا ولا أمل لنا غير مفتاح 12.
الخوف والقلق كانا أخطر علينا من العطش.
الموت عطشاً في بلد فيها سلسلة من الأنهار العذبة، عيبٌ في حقنا.
هل يمكن أن يحدد مفتاح 12 مصيرنا في الحياة، هل يمكن أن نموت بسبب عدم وجود ذلك المفتاح؟
إننا لا نطلب ذهباً ولا مالاً.. ولا نطلب دواءً، ولا نحتاج لأكثر من مفتاح 12 لنبقى على قيد الحياة.
كان طموحنا ومصيرنا وحلمنا وآمالنا في هذه الدنيا فقط في أن نحصل على مفتاح 12، لأن عربتنا بدونها لن "تدوِّر"، ولأن العطش من غيره سيقتلنا.
اتّجه بعضنا مرةً أخرى إلى الدعاء، وبعضنا دخل في حالة نفسية، وبعضنا كان في عزلةٍ تامةٍ، ومنّا من بدأ يكتب وصيته ويُجهِّز نفسه لموت قادم.. كنا نظن أنّ هذه اللحظات هي لحظاتنا الأخيرة في الحياة.
ونحنُ في هذه اللحظات الصعبة، هبّ أحدنا علينا بمفتاح 12 مهرولاً به ومُلوِّحاً بعلامة النصر، يبدو أنّ السماء قد استجابت لنا وأنقذت حياتنا بمفتاح 12 الذي كان موجوداً في عدة العربة ولكن السائق ومساعده كانا يغفلان ذلك.
أصلحنا العطل وسرنا حتى لاحت لنا (التايا)، وهي ميز ومركز للدّهّابة، يعدون فيه الطعام ويأخذون فيه راحتهم، أخذنا من هذا الميز كل احتياجاتنا من ماء وأكل وفرح، أكرمنا المصري صاحب هذه التايا في ذلك الخلاء وكأننا في بيته في قلب المدينة. لا بد من القول إنّ المروءة في أرض مصر لا تنقطع ولا ترفع عن أراضيها.
تزوّدنا بالتقوى وانطلقنا.
الأمر الغريب أنّ السيارة لم تتعطّل بعد ذلك حتى دخلنا منطقة (الكسار) في أسوان في اليوم الخامس ونحن أموات مع وقف التنفيذ.
عليه وبناءً على ما جاء ذكره في السرد السابق، قرّرت أنا محمد عبد الماجد أن اصحطب معى في أي سفرية (مفتاح 12) جنباً إلى جنب مع البطاقة القومية ومعجون وفرشة الأسنان ومناديل الورق وقرص البنادول والبلح والدغالة، الظروف ما معروفة!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.