* تبدو الحكومة الجديدة في أمسّ الحاجة إلى ترتيب أولوياتها، كي يصبح الاهتمام بمعاش الناس وتوفير احتياجاتهم، وتقليص معاناتهم، وتنظيم فوضى الأسواق لمحاصرة مظاهر الغلاء والفقر في قمة سلم الاهتمامات. * تلك هي القضايا الأكثر إلحاحاً، والتي تمثل التحدي الأول والأصعب للحكومة الجديدة، وبموجبها سيتم تصحيح أوراقها، لتنال من شعبها علامات النجاح والرضا إذا أفلحت فيها، وتحصل على (كعكة) الرسوب الحمراء لتلحق سابقتها إذا أخفقت في معالجتها. * من السهولة بمكان رمي أوزار الفشل على المعارضين بما يكفي لملاحقتهم واقتيادهم إلى المحابس زُمرا، بالطريقة ذاتها التي كان يتبعها النظام البائد، عبر جهاز أمنه الظالم، وقانونه الغاشم، الذي كان يجّوز الاعتقال التحفظي لفتراتٍ مفتوحةً، باستغلالٍ قميء لمنصات العدالة. * لم تُجد تلك السياسة الغاشمة عن الإنقاذ شيئاً، ولم تنفعها معتقلاتها، ولا ثلاجاتها الحصينة، فانكبت على وجهها، وشيعها الشعب إلى مثواها الأخير، مع أنها سعت إلى حراسة سلطانها بحلقات محكمة من الأجهزة الأمنية، وتوهمت أن بندقيتها ستحفظ لها سطوتها، وتديم حكمها. * ظننا أن تلك الممارسات القميئة انتهت بأمر ثورة مهر شبابها توقهم إلى الحرية بدمائهم الزكية، سيما بعد أن تم تضمين وثيقة الحريات في الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية. * تفرسنا ملامح اللاحقين فرأينا فيهم سمات السابقين، وشهدنا فيهم ميلاً إلى اتباع نهجهم، وافتتاناً بإرث الإنقاذ القائم على تطويع منصات العدالة للنيل من المعارضين. * وضح إنهم يقرؤون من الكتاب نفسه، ويتبعون (الكتلوج) ذاته، ناسين أن الثورة التي أتت بهم تبنت الحرية والسلام والعدالة شعاراً لها، وأن من فجروها وحموها بأنفسهم ودمائهم فعلوا ذلك ابتداءً لفتح فضاء الوطن على الرأي الآخر، وبسط الحريات، وتشييد أركان دولة القانون، ومنع الاعتقالات التحفظية، وصيانة الحقوق الأساسية، وحظر التنكيل بالناس بناءً على وثيقة الانتماء السياسي. * عرّفت الوثيقة الدستورية في مادتها الثالثة طبيعة الدولة، وذكرت أن جمهورية السودان دولة مستقلة، ذات سيادة، ديمقراطية تعددية، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة من دون تمييز بسبب العِرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الانتماء الجهوي وغيرها من الأسباب، وألزمت الفقرة الثانية من المادة نفسها الدولة باحترام الكرامة الإنسانية والتنوع، وأن تؤسس للعدالة والمساواة وكفالة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. * كذلك نصت الوثيقة على إلزام الدولة بحماية وتعزيز الحقوق المضمنة فيها، وكفالتها للجميع، وتحدثت عن المساواة أمام القانون، وعن الحق في المحاكمة العادلة، والسماع العادل، والمحاكمة الحضورية، والحق في التقاضي، وغيرها من الحقوق الأساسية، فهل تم احترام تلك المبادئ السامية، بما يتواءم مع نصوص الدستور الذي يحكم البلاد حالياً؟ * إن استغلال أجهزة العدالة للتشفي من الخصوم وحرمانهم من حقوقهم القانونية يشكل فعلاً خطيراً، يهدد اللُحمة الوطنية للدولة، لأنه يشيع ثقافة العنف، ويمزق النسيج الاجتماعي لبلادٍ هشة البنيان، ابتلاها المولى عز وجل يما يكفي من التشظي بالصراعات السياسية والقبلية والجهوية. * لا سبيل إلى حفظ نسيج الوطن إلا باحترام القانون، وترسيخ قيم العدالة، وتحصين مؤسسات الدولة من سوء الاستغلال، كي تحتفظ النيابة العامة والهيئة القضائية باستقلاليةٍ تمكنها من حفظ الحقوق، ومنع كل الانتهاكات. * من يخرق القانون ويُجرم، أو يشجع على العنف، أو يخرب الممتلكات العامة يحاسب وفقاً للقانون، والمحاسبة ينبغي أن تتم بموجب القانون، وليس ببطاقة النادي السياسي. * فوق ذلك يجب على الحكومة أن تركز اهتمامها على القضايا التي تهم الناس، وأن تجتهد في تحسين أوضاعهم المعيشية، وتمتنع عن تطويع منصات العدالة للتشفي في المعارضين، إذا أرادت للبلاد أن تمضي في طريق التحول الديمقراطي بلا عقبات، لتنعم بالسلام والاستقرار. * اتعظوا بسابقيكم.. وعهدنا بساسة هذا البلد المنكوب أنهم لا يستبنون النصح إلا ضحى الغد.