بينما تشتد آثار وتداعيات وطأة الوضع السياسي المتأزم بالبلاد على المواطن يوماً بعد يوم، تتناسل بين الساعة وأخرى مبادرة جديدة لتضاف إلى عشرات المبادرات السياسية التي تم طرحها من قبل كيانات سياسية لحل الأزمة، علماً بأن بعض تلك الكيانات كانت سبباً في حدوث هذه الأزمة عندما سعت بتخريب ممسكات الفترة الانتقالية والتي كان أضعفها وجود جهاز تنفيذي مسؤول، والآن تنفض منصة لتنعقد أخرى معلنة عن إطلاق مبادرة جديدة بذات بنود سابقتها ولكن دون جدوى، بل إن مجلس السيادة نفسه في آخر اجتماع له أقر ضمنياً بحالة التوهان السياسي التي تعيشها البلاد، وأشار على لسان الناطق باسمه الأستاذة سلمى عبد الجبار إلى مضيعة هذه المبادرات للوقت مما خلف واقعاً مترهلاً على حسب وصفها، تعددت فيه المبادرات دون حصاد ثمار للتوصل إلى دولة ديمقراطية مستقرة تلبي آمال المواطنين، معلنة في ذات الوقت عن توجيه المجلس بمواصلة عمل اللجنة السيادية المكلفة بقيادة الوفاق والحوار السياسي برئاسة عضو المجلس السيد مالك عقار إير، على أن تعمل وفقاً لمواقيت وبرامج محددة لبلوغ الغايات المطلوبة من الحوار. ويرى مراقبون أن ماحدث خلال اليومين الماضيين من تنصل وتراجع عن "الوثيقة السودانية التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية" بعد التوقيع عليها مباشرة من قبل (79) جهة سياسية، وقبل أن يجف مدادها وإنكار بعض رؤساء وممثلي الأحزاب والحركات المسلحة وأصحاب المبادرات لإلمامهم حتى بمحتوى وهدف الوثيقة، دلالة واضحة على عدم وجود رؤية حقيقية وصادقة لجعل الخروج بالبلاد من أزمتها هدفاً أوحد للجميع، وأن لافائدة من المبادرات المطروحة، ويرى ذات المراقبين في جهود بعثة (يونيتامس) والآلية الثلاثية التي تتولى التنسيق بينها وبين الاتحاد الأفريقي والإيقاد للملمة وتوحيد الأطراف السودانية مخرجاً، ربما يقود لتوافق وطني يتواضع على العمل على معالجة الأزمة وتدارك انهيار البلاد وإبعادها من شفا الجرف الذي تقف عليه الآن.
يثلج الصدور ومن الملاحظ أنه في مواجهة هذا السيل من المبادرات انزوت جهود البعثة الأممية المتكاملة لبناء السلام ودعم التحول الديمقراطي (يونيتامس) التي سعت لإيجاد تسوية سياسية تعيد مسار التحول الديمقراطي الذي انحرف بسبب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، ففي الوقت الذي أعلنت فيه اكتمال المرحلة الأولى من مبادرتها واستعدادها للمرحلة الثانية، مع إطلاقها تحذيراً من مغبة تضييع فرصة إعفاء ديون السودان، ومنح مرتقبة من البنك الدولي بحلول يونيو القادم حسب مواقيت محددة للإعفاء والمنح، وذلك حال عدم التوصل إلى توافق سياسي بين الأطراف السودانية قبل يونيو.. وجدت البعثة نفسها في مواجهة مع الحكومة إلى حد التهديد بطرد رئيسها فولكر بيرتس وذلك بسبب التقرير الأخير الذي قدمه لمجلس الأمن الدولي خلال الأسابيع الماضية، مما اضطرها إعلانها الاستعداد لمراجعة بعض ما ورد في تقريرها من معلومات، بيد أنها واصلت في ذات الوقت انخراطها في مساعي إيجاد توافق سياسي بين الأطراف السودانية من خلال الآلية الثلاثية التي تشمل رئيس البعثة فولكر بيرتس، إلى جانب ممثلي الاتحاد الأفريقي محمد حسن بن لبات والسفير محمد بلعيش وممثل الإيقاد إسماعيل أويس 0 الآلية الثلاثية عقدت آخر لقاءاتها الأسبوع الماضي برئيس المجلس السيادي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، حيث استعرضت جهودها لاستكمال الترتيبات اللازمة لتسهيل عملية الحوار بين أصحاب المصلحة من أجل إيجاد حلول سياسية توافقية مرضية للجميع 0 وأوضح ممثل الاتحاد الأفريقي بالسودان الناطق الرسمى باسم الآلية الثلاثية، السفير محمد بلعيش في تصريح صحفي، أن الآلية قدمت لرئيس مجلس السيادة، تنويراً شاملاً، بشأن نتائج جهودها خلال الفترة الماضية وآفاق الخروج من الأزمة الراهنة باستعادة النظام الدستوري المدني،وقال بلعيش، إن الآلية تسعى من خلال ما تبذله من جهود لبناء توافق سياسي، مبني على أوسع نطاق من التوافق بين السودانيين. وأشار إلى أن الحل للأزمة في السودان، يجب أن يبنى على أساس روح التراضي، ويتخذ منهج التدرج في تناول أربع قضايا أساسية تشمل الترتيبات الدستورية، معايير اختيار رئيس حكومة التكنوقراط وأعضائها، برنامج عمل يتصدى للاحتياجات الأساسية والمستعجلة للمواطن وخطة زمنية دقيقة ومحكمة لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وأضاف، أن فريق العمل المشترك بالآلية الثلاثية شدد على ضرورة اتخاذ إجراءات تهيئة المناخ الملائم للحوار السوداني، بما في ذلك إطلاق سراح الموقوفين، ورفع حالة الطوارئ وإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات وعدم حدوث انتهاك لحقوق الإنسان. وعبر بلعيش عن تفاؤله بحدوث اختراق وشيك في الأزمة الراهنة، قائلاً: "أبشر إخواني وأهلي في السودان أنهم سيطلعون قريباً على مايسرهم ويثلج صدورهم".
مصفوفة مطلوبات وفي خطوة عدها مراقبون أكثر جدية لتحجيم دور بعثة يونيتامس وقطع الطريق أمام المبادرة التي تقودها أعلنت الخارجية أمس الأول بأن وكيل وزير الخارجية المكلًف السفير نادر يوسف الطيب، الذي يزور نيويورك حالياً قد التقى بالسيدة روزماري ديكارلو، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام في إطار الزيارة الحالية التي يقوم بها إلى نيويورك لمقابلة قيادة الأممالمتحدة وبعض الدول الأعضاء بمجلس الأمن، من أجل تسليم هذه الجهات مصفوفة تتضمن مطلوبات حكومة السودان من البعثة الأممية (يونيتامس) . وأوضح الوكيل المكلًف أن جميع الجهات المختصة في السودان قد شاركت في وضع مصفوفة شاملة تتضمن رؤية حكومة السودان للدور الذي يجب أن تضطلع به يونيتامس وفقاً لأولوياتها، وتتمثل أبرز محاور تلك الرؤية والأولويات في إنفاذ اتفاق جوبا لسلام السودان، ودعم تنفيذ البروتوكولات وحشد الموارد وتقديم الدعم اللوجستي لبناء القدرات، ودعم الآليات الوطنية لحقوق الإنسان والمساعدة في إنشاء ودعم مفوضية نزع السلاح وإعادة الدمج وآلية العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار والتنمية. وعقد الوكيل خلال زيارته إلى نيويورك اجتماعات مكثفة مع الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن والدول الأفريقية الثلاث الأعضاء بالمجلس، وكذلك الإمارات والهند، من أجل شرح رؤية السودان المتصلة بعمل البعثة الأممية في السودان وأولويات حكومة السودان في هذا الصدد.
شعرة معاوية الخبير الدبلوماسي والمحلل السياسي السفير بوزارة الخارجية سابقاً الصادق المقلي يشير إلى أهمية بقاء بعثة (يونيتامس) في الوقت الراهن تحديداً وعدم تجاهل مبادرتها التي تحظى بتأييد دولي، معتبراً أن وجود البعثة يشكل الحد الأدنى من "شعرة معاوية" بين السودان والمجتمع الدولي. ويقول في إفادة لصحيفة (الحراك السياسي):" و لا ننسى أن المبادرة الأممية لتسهيل تحقيق التوافق الوطني لاستعادة المسار الديمقراطي، قد حظيت بتأييد ومساندة واسعة من الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي والترويكا والتحالف الرباعي الذي يضم بجانب أمريكا وبريطانيا السعودية والإمارات وأيضاً الاتحاد الأفريقي والايقاد والجامعة العربية. وقد تجلى ذلك الدعم إبان انعقاد اجتماع أصدقاء السودان الأخير في الرياض، الأمر الذي يحتم على المكون العسكري وفي سبيل غلق الطريق أمام انشغال المجتمع الدولي بما يجري في السودان وتفادي اتخاذ إجراءات أكثر إذعاناً 00ينبغي على المكون العسكري اتخاذ إجراءات من شأنها استعادة الثقة وإجراء حوار يفضي في نهاية المطاف إلى قيام السلطة المدنية، واستكمال تشكيل مؤسسات الدولة المدنية واستعادة مسار التحول الديمقراطي الذي سوف يفضي دون شك إلى تطبيع العلاقات مع المجتمع الدولي والإقليمي والمؤسسات الدولية المصرفية.