انقلابات العالم منذ زمن مضى كانت من أهم مقومات نجاحها السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون. أما فى عصر إيلون ماسك، وأوليجاركية التواصل والذكاء الاصطناعى، صارت السيطرة على أنظمة الدولة فى صورتها الإلكترونية هى الأهم.. ليس لبث الدعاية من خلالها، على الأقل ليس فى البداية، إنما لاستخدامها فى تهديد وترويع الموظفين ومحاولة استبدالهم بآخرين لديهم ولاء للسلطة التنفيذية. هذه خطوة مهمة يمكن أن تتخذها أى سلطة سياسية متسلطة للسيطرة على الدولة حتى تفتقد حيادها وتصبح مُسيَّسة. وهذا شرط ضرورى لتفكيك النظام المنفتح سياسيًّا، لكنه ليس كافيًا.. فى الولاياتالمتحدة مثلًا، صارت أجهزة الدولة مستقلة عن الحكم السياسى منذ قرن تقريبًا، ولذلك ما يفعله «ماسك» وشركاؤه يمكن أن يُرجع التجربة التعددية هناك إلى الوراء قرنًا من الزمن.. لكنه ليس كافيًا لإلغائها بالكامل، فذلك يتطلب أيضًا تحييد مصدر الأمان الأساسى الذى وضعه الآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة، نقلًا عن الفيلسوف السياسى الفرنسى مونتسكيو، وهو الفصل بين السلطات، التنفيذية والقضائية والتشريعية. لكن الأوضاع الحالية لا تبشر بخير حتى هنا، نتيجة سيطرة «ترامب» شبه الكاملة على حزبه الجمهورى، الذى تمكن من الفوز بغرفتى المجلس التشريعى، وأيضًا نتيجة تعييناته فى المحكمة العليا، التى جعلتها متحيزة له. الآباء المؤسِّسون توقعوا صعود السياسى الشعبوى، المسمى «الديماجوج» فى كتاباتهم الغزيرة عنه، ونبهوا إلى الأخطار التى يمثلها مثل هذا الديماجوج، الذى يؤجج مشاعر «الجماهير»، والموهوب بطبيعته فى اختيار كتلة حرجة من الناس لتشكل الفريسة المستهدفة التى ستجسد هذه الجماهير، التى سيضعها من ثَمَّ فى صراعات، متخيلة فى مجملها، مع الآخر الداخلى والخارجى.. فصل السلطات كان مصممًا خصيصًا لمنع مثل هذه الشخصية من السيطرة، لكن ما لم يتوقعه المؤسِّسون هو وجود أحزاب سياسية حديثة يمكن أن تصطف وراء السياسى الشعبوى وتدعمه فى مشوار تفكيك الدولة عن طريق تحريك الجماهير، كما يفعل الحزب الجمهورى حاليًا. كانوا يعتقدون أن كلًّا من السطات الثلاث ستحاول الحفاظ على استقلالها وهيبتها وتأثيرها فى المجتمع، وبالتالى سينشأ تلقائيًّا نوع من التوازن الذى يمنع «اختطاف الدولة». هذه نظرة مبنية على أفكار عقلانية، تفترض نوعًا من حسن نية من قِبَل أغلبية السياسيين (فى مواجهة الديماجوجية وأخطارها على الأقل)، وأن مصلحة هؤلاء السياسيين (والقضاة) ستكون فى حماية مؤسساتهم، وليس الانصياع خلف القيادى الشعبوى فى تدميرها.. لكن ما حدث أن مصلحتهم السياسية صارت ممثلة فى الاصطفاف وراء السياسى الذى سيطر على «الجماهير» التى تصوت لهم. وما حدث أنهم صاروا يشاركون هذه الجماهير ارتيابها الشديد من أخطار الأعداء المعتمدين لدى السياسى الشعبوى (مثل المهاجرين والأقليات والنخب الليبرالية التى تفسح الطريق إلى تمكين هؤلاء وطمس هوية المجتمع دون رجعة فى حالة تيار «ماجا»). وهذا الارتياب الفطرى صار يطغى على المبادئ المجردة البانية للنظام السياسى. فى هذه الحالة يفقد المجتمع المنفتح الأسس العقلانية التى تضمن استقراره، فتتحول الأحزاب من تكتلات تمثل مصالح ناخبيها فى إطار توافق عام على المصالح العليا للمجتمع، إلى تجمعات لا تعترف إلا بالمصالح التى تمثلها، وربما تخون مَن اختلف معها؛ من هيئات تمثل تيارات سياسية لها أطروحات قابلة للنقاش والجدل والتطوير، إلى تجمعات صلبة منعزلة ومنغلقة على بعضها، ليست لديها لغة مشتركة يمكن أن تتوافق، أو حتى أن تتحاور، من خلالها فيما بينها. التحول من العقلانية إلى ما قبل الحداثة ليس شيئًا يخلقه السياسى الشعبوى من عدم، بل هو يصعد أصلًا فى ظل الاضطراب والصراع الناتج عن تبلور هذا التحول، والذى عادة ما تسوده شكوك فى قدرات النظام التعددى على الإنجاز، وسط الجدل المستمر بين أحزاب متصارعة، وربما فاسدة.. يستغل السياسى الشعبوى هذا المناخ أولًا. ثم يؤججه، ثم فى النهاية «يُريح» الناس من التعددية المزعجة.. ذلك قبل أن يدركوا أنه أدخلهم فى صراعات أكبر بكثير مما كانوا فيه.. وأنهم فقدوا حريتهم. مثل هذا السيناريو تكرر كثيرًا عبر العصور، ومن خلاله استطاعت أنظمة شمولية جبارة مثل ألمانيا النازية وروسيا الستالينية السيطرة (من خلال التلويح بالعدو الطبقى أو العرقى)، وفى نماذج أقل تطرفًا ودموية بكثير رأينا دولة عضوًا فى الاتحاد الأوروبى مثل المجر (وأيضًا فى مرحلة ما بولندا) تتجه هكذا. القاسم المشترك دعم انقسام المجتمع إلى تيارات منعزلة ومتصارعة، ثم تغليب تيار ما يقوده الديكتاتور الصاعد.. أما أن يحدث شىء شبيه تحت أعيننا فى أعرق دولة ليبرالية ديمقراطية لها دستور مكتوب، فهذا يدل لا شك على أننا نعيش لحظة تحولات تاريخية ربما تكون جذرية. إذا كان التاريخ قد «انتهى» مرة مع سقوط حائط برلين وانتصار الديمقراطية الليبرالية مرحليًّا، فقد ينتهى هكذا مرة أخرى فى زمننا.