ثمانينات القرن المنصرم، كانت سنوات سمان في دنيا الثقافة السودانية، ففي تلك الأيام انبثق نور القوانين الإسلامية فأجج الصراع بين مختلف الأحزاب واعتصر وجدانات وعقول المفكرين فانطلقوا، ثم كانت في ذات الوقت الحقبة التي شهدت تغيير نظام جعفر نميري ومقدم فترة الديمقراطية والتنافس الحزبي ثم شهدت ثورة الانقاذ الوطني.. في تلك الفترة كانت الجريف غرب منارة من منارات الثقافة والسياسة والرياضة، فإضافة لترابط أهلها فهى قرية متطورة نجد أن (الوافدين) عليها كانوا ذوي أبعاد سياسية وفكرية وثقافية، ولهذا وغيره فإن مساجدها وأنديتها شهدت حراكاً ثقافياً متميزاً.. أذكر أننا قمنا في حينا بإحياء الآداب والفنون عبر جلسة سميناها (نادي القهوة) وهى إحياء لجهد سبقنا عليه أخوة كرام سموه (نادي الشاي)، ورغم أن الفكرة و(السيطرة) كانت لمجموعة الاسلاميين بالحي إلاّ أن مكان الانطلاق كان نادي (شبرا) الذي لا يسيطر عليه الاسلاميون، كما أن أعضاء هذا النادي والنادي هنا معنوي لا مادي كانوا طرائق قدداً فيهم الإسلامي وفيهم الشيوعي وفيهم غير المنتمي.. ولم يكن هذا الوضع نشازاً فهو وضع متناسب مع طبيعة مثقفي الجريف غرب. من الشخصيات التي أحيت ذلك المنتدى وأعطت فيه عطاء جميلاً الأستاذ الشاعر الصادق الياس الشاعر الغنائي المعروف الذي أعطى في مجال الأغنية السودانية روائع تعتبر من أرقى ما كتب في الشعر الغنائي السوداني مثل رائعته (الجريف واللوبيا) التي تغنى فيها بروعة الحياة في الجريف غرب.. كذلك من الشخصيات التي أغنت الحياة الثقافية في ذلك الحي الأستاذ العتباني الناصري المتحمس لقوميته العربية والذي لا يفتر اطلاقاً من محاولة تجنيد الشباب حتى ذوي الانتماء الواضح لغيره من التيارات.. وفي خضم ذلك الحراك الثقافي تظهر شخصية عجيبة تميزت بروعة الأداء وغزارة الثقافة ومتانة التجربة ذلكم الأستاذ موسى بشير.. فالأستاذ موسى بشير تربوي قديم عمل في التربية والتعليم ضمن الرعيل الاول وله ذخيرة هائلة من المعلومات عن الناس والحياة في السودان لكن الذخيرة التي تدهشك هى تجربته الخاصة مع (أبيي) والناظر دينق مجوك أعظم نظار قبيلة الدينكا، فموسى بشير الذي كان يعمل آنذاك في هذه المنطقة كان يسكن في ضيافة الناظر وتربطه به وأسرته صلات قوية.. يحدثك موسى بشير عن صلة الدينكا بالمسيرية وكيف أن التداخل يتجاوز الجوار الى المصاهرة والمشاركة في الحياة وكيف أن العرب هناك يتحدثون برطانة الدينكا ودينكا تلك المنطقة يتحدثون العربية بلسان مبين، بل ويدهشك ببعض القصص التي تصور حرص الناظر على أهل الشمال وحرصه على الاسلام والمسلمين، ومن تلك الصور التي يعكسها عمنا الأستاذ موسى بشير تشعر أن (أبيي) أفضل نموذج يصور لك وحدة السودان ويبشر بسودان متحد.. لكن حدسك الأمني والسياسي لن يخذلك في أن تتصور أن المستعمرين لابد أن يكونوا قد غرسوا بذرة الشقاق لتنمو وتركوا قنبلة ستنفجر، فقد فعلوا ذلك في شبه القارة الهندية في كشمير وفعلوا ذلك في الصين وفعلوه في كل موطن. فسياسة المستعمر مبنية على نظرية: (فرق تسد)!! كنت دائماً أفكر في تلك القنبلة وكنت أنظر في بعض ما كتب عن هذه المنطقة ووجدت أى شئ يمكن أن يكون تلك القنبلة.. العرق، الحدود، الدين أي شئ، لكن قصة عابرة لفتت نظري لمشروع (الانفجار) .. قصة يرويها البسطاء في المنطقة. يقولون: حينما زار جعفر نميري منطقة (أبيي) واجتمع بأهلها بعد ظهور بعض المشكلات وقف أحدهم وأشار الى فرانسيس دينق الوزير المصاحب له وقال بدارجية المسيرية: أنهم ليس لديهم مشاكل مع اخوانهم الدينكا ولم تظهر هذه المشاكل إلا بعد ظهور فرانسيس الذي يجلس جوار الرئيس والقصة بشعبيتها ممتعة لو رويناها جرتنا إلى المحاكم.. وهى إن صدقت أو لم تصدق فإن شاهدها أن هذه الأزمة أزمها (المثقف) المرموز له بفرانسيس دينق. والناس يحدثونك عن التبشير وتعيمد المثقفين ومنهم فرانسيس في وقت يغلب الاسلام بين أبناء الناظر دينق مجوك.. وموسى بشير بحدثك عن كيف حارب الناظر التبشير وكيف حاول أن يسلم لولا فتوى (غبية) تعرضت لتفاصيل في شأن زوجاته اللائي يحسبن بالعشرات! وذكاء المسيري لا يتضح في تحديد المشكلة في الرمز المثقف لكنه يتضح في تحديده لفرانسيس تحديداً وفرانسيس يكشف فكره الذي ضمن (طائر الشؤم) كتابه المؤلف بالانجليزية الذي نقله للعربية الدكتور النعيم .. فطائر الشؤم يتنبأ في شكل روائي خيالي بانفجار الازمة، لا في الجنوب، فقد كانت متفجرة ولكنه يحدثك عن الانفجار في دارفور، ويقول نفس ما يقوله (مثقف) دارفور المتمرد اليوم، وهذا وذاك وغيره قنبلة تركها المستعمر وقصة مكشوفة لم ننتبه لها لا لأننا لم نقرأ طائر الشؤم ولكن ربما لأننا لم نفهم طبيعة التفكير الاستعماري، أو أننا كعادتنا استهونا الأمر. إلاّ أن الأستاذ موسى بشير كان يفهم كل ذلك ولكنه ظل ما بين (جريف) أجداده و(لوبياهم) ورسالته الاجتماعية الناجحة يسخر ويضحك.. ثم تعود الاصداء في (نادي القهوة) بعض تأوهات جميلة.. تنتهي بروائع الأدب الغنائي وثم يتوجها الصادق الياس برائعته: إن دايرة العبادة آمن بالارادة كتر من دعاك والصلاة في ميعادا لتخلف (شوف عيني الحبيب بي حكمة لابس التوب) التي أقسم كثير ممن سمعوها أنها كانت (اللليلة الهبوب يا اخوانا شالت التوب) والبقية لا تكتب!