أبطال مسرحية «الجلسة سرية» ل (جان بول سارتر) سجناء وسجانون في آن معاً. كل واحد منهم سجن الآخر في عينيه، وكل واحد منهم هو سجين بين أجفان الآخر . يقول (سارتر) عن هذا المعنى : معنى أن ينظر إليك شخص ما أن ثقباً كبيراً في هذا العالم قد انفتح عليك و أن العالم كله قد بدأ يتسرب إليك من هذا الثقب!.. سجن أبطال مسرحية (سارتر) هو سجن معنوي و الثقب الذي تحدث عنه هو ثقب افتراضي يعني أن خصوصيتك قد تعرضت للانتهاك بفعل زوجين من الأعين .. بينما يتحول ذلك الثقب الافتراضي في رواية «الجحيم» ل (هنري باربوس) إلى ثقب حقيقي في جدار غرفة يستأجرها شاب قادم من الريف يعمل في مصرف ويعيش حياة المدينة بلا معنى، يلفه الفراغ والخواء و يظل بلا هدف إلى أن يكتشف ذات يوم ثقباً في جدار غرفته أعلى سريره .. يطل ذلك الثقب على غرفة أخرى يتعاقب عليها نزلاء مختلفون و يكتشف من خلاله تفاصيل ما يدور في تلك الغرفة فيجد معنى لحياته الباهتة و يقضي أيامه واقفاً على ذلك السرير يتأمل في تفاصيل تلك الحياة في الغرفة المجاورة التي يرى بأنها أشد صدقاً من الحياة في الخارج .. فيهمل وظيفته و يظل سجيناً لذلك الثقب الساحر الذي أصبح يعني له معنى الحياة ! .. وفي قصة «الوجود والوجود الآخر» ل (محسن خالد) تعيش (سلوى) الفتاة العبيطة الساذجة وجوداً بلا قيمة .. حياة بلا أهمية بين الناس .. تخالط الآخرين .. يتعثرون بها و هم لا يكادون يرون وجودها الضائع .. إلى أن تغرق في النهر .. فيكسبها انتفاء وجودها بالموت غرقاً وجوداً آخر في عيون الآخرين الذين يتحولون إلى الاهتمام بها ويخوضون في النهر بحثاً عن جثتها الغارقة .. بعد أن كانوا بالكاد يرونها ويحادثونها بنصف انتباه .. هنا اكسب الغرق (سلوى) وجوداً افتراضياً أهم و أكثر خلوداً في ذاكرة أهل القرية من وجودها الحسي عندما كانت الحياة تدب في جسدها الذي لم تكن لوجوده قيمة حقيقية بين أولئك الناس!.. تلتقي مسرحية (سارتر) ورواية (باربوس) وقصة (محسن خالد) عند فكرة الوجود الموازي .. أو الوجود النوعي .. أو الوجود الافتراضي الذي ينقلك من مناخات إلى مناخات .. ومن تضاريس إلى تضاريس و أنت على حالك لم تتبدل .. أي أنه ينقلك من وجود إلى وجود في عيون الآخر و بحسب رؤيته إياك و ليس بحسب رأيك أنت في صورة وجودك ! .. لقد فلسف هؤلاء الأدباء فكرة الوجود الافتراضي في عالم حقيقي .. بينما تحيرني و لا تزال فكرة موازية هي : فكرة الوجود الحقيقي في عالم الأسفير الافتراضي ! .. حيث كل شيء افتراضي .. القوانين و العقوبات و البطولات و الفضائح أيضاً ! .. لكن افتراضية ذلك العالم و رمزية وجوك فيه لا تنفي مسئوليتك عن أفعالك ومواقفك وعواقب صولاتك و جولاتك في ساحاته!.. ف لعالم الإنترنت أضابير موازية تشترك مع أضابير عالمنا الحقيقي في فكرة التأريخ والتدوين وتبزُّها نزاهة ودقة وحيادية، لأن الذي يكتب تاريخ العالم الحقيقي بشر حقيقيون يصيبون ويخطئون سهواً أو عمداً مثلما حدث مع (تشرشل) الذي قال «سينصفنا التاريخ لأننا نحن الذين سنكتبه» .. بينما مواقف الشخصيات الحقيقية في عالم الإنترنت الافتراضي يؤرخ لها عقل إلكتروني لا يعرف التلفيق أو المحاباة لأنه عقل محض بلا عاطفة أو غريزة .. وعلى قدر ارتقاء وعي الشعوب وتطورها في التعامل مع تكنولوجيا الإنترنت يرتفع إدراك الفرد لأهمية وجوده الافتراضي في عالم الإسفير و أثره البالغ سلباً أو إيجاباً على صورة وجوده الحقيقي في العالم المادي .. و كلما ازداد هذا الوعي تداخلت واختلطت حقائق وأحداث العالمين وكلما تراجعت نسبة هذا الوعي اتسعت الفجوة بينهما .. الشعوب الأخرى التي سبقتنا في الإيمان بصرامة الأحكام التكنولوجية لا تفرق بين تمثيل الإنسان لفكره و محيطه في عالم الانترنت أو الواقع ولا تفرق في القوانين التي تحكم العالمين .. بينما لا يزال معظم رواد الإنترنت في السودان يتعاملون بسذاجة كبيرة مع فكرة وجودهم في العالمين .. فتجد الواحد منهم يتحول إلى شخص آخر .. شخص افتراضي .. يصول و يجول و يشتط و(ينبهل) ساهياً أو عامداً في مواقع النقاش ومنابر الحوار .. ويتحول إلى بطل أو زنديق أو نبي إسفيري .. ثم .. وما أن يقوم بتسجيل خروجه من ذلك العالم و يهبط في أرض عالمه المادي حتى يعود إلى صورته التي يحرص على أن يراه عليها الناس .. والسؤال الكبير هو : أين الوجود الحقيقي لإنسان بمثل هذه المعطيات ؟!.. وهل يحدث ذلك لأن البعض منَّا يفقد ذاته في العالم المادي فيحاول البحث عنها في العالم الافتراضي ؟!..