ملامح وجهها .. نظرات عينيها .. نبرات صوتها.. غزارة دموعها.. تترجم مأساة كبيرة تسكن دواخلها.. امرأة من تراب هذا البلد الطيب.. وقفت امامي بالصحيفة، وقالت بلغة فصيحة تنم عن نيلها قسطاً من التعليم: - طالعت التحقيق الصحافي المميز الذي نشرته «الرأي العام» حول قضية الاطفال حديثي الولادة، فاقدي السند ولكنك اغفلت قضية اخرى مهمة، لا بل خطيرة. ? سألتها: اية قضية تلك التي اغفلتها؟ - قالت: هناك اشكالية، بل «اشكاليات» كبيرة في انتظار هؤلاء الاطفال عندما يشبون عن الطوق ويواجهون الدنيا. ? ما هي؟ - اقصد عندما يعلمون حقيقتهم، وان من يعيشون في كنفهم ليسوا بأهلهم، واعرف العشرات منهم ِيٍٍٍٍُِعانون من هذه القضية. ? وهل انتِ منهم؟ - اجابت بصوت مرتفع عكس ما كنت اتوقع.. اجل.. ثم بدأت تسرد حكايتها وكأنها تعرض امامي شريطاً لفيلم سينمائي: نشأت وترعرت مع اسرتي بمدينة القضارف.. والدتي كانت تغدق علىَّ حباً وحناناً فائضين لم تبخل علىَّ بشيء، ادخلتني المدرسة وتدرجت في التعليم حتى الصف الاول الثانوي، بعدها قامت بتزويجي من احد الاشخاص من قرية قريبة من القضارف، وقتها عمري لم يتجاوز «14» عاماً.. انجبت منه «3» اطفال ذكور، الآن في عمر «8- 9 -14» عاماً وفجأة اصيبت امي بمرض عضال في «المرارة» وقرر لها الاطباء عملية جراحية عاجلة بمستشفى القضارف.. وفي اليوم السابق مباشرة لموعد العملية انفردت بي وقالت: «لا اعرف اذا كنت سأعيش بعد العملية، لكنني احس بأن اجلي قد حان، لذلك هناك سر يجب ان ابوح لكِ به قبل وفاتي». وليتها لم تبح بشيء! السر الذي فجّرته امامي نزل علىَّ كالصاعقة وقلّب حياتي وحياة اطفالي الثلاثة رأساً على عقب، قالت لي: - انا لست امك.. فقد وضعتك احدى النساء نتيجة ثمرة لعلاقة غير شرعية خارج نطاق الزواج الشرعي، واحضرتكِ وانتِ في عمر يوم واحد من مستشفى القضارف واصبحت لي كإبنتي تماما!! وبعد ايام من بوحها للسر الذي زلزل حياتي، ماتت امي، أو في الحقيقة، من كنت اعتقد انها امي لاكثر من «30» سنة!! وبموت المرأة التي كفلتني، ماتت معها كل آمالي.. فجأة اصبحت مشردة مع اطفالي.. فلا حق لي في ورثة، وانا بلا اهل، ولا قبيلة انتمي اليها، وبلا عمل، ولا مأوى حيث قام ابناء المرأة التي ربتني، الذين كنت اعتقد انهم اخوتي، قاموا بتأجير المنزل بعد وفاة والدتهم، فوجدت نفسي مع اطفالي في الشارع، إلا ان المستأجر رق لحالي وخصص لي جزءاً من المنزل، بل بنى لي راكوبة من القش لا تحمي من شمس أو برد أو مطر، اقيم فيها الآن مع اطفالي الثلاثة بالقضارف. ? سألتها: ومن أين وكيف تطعمين صغارك؟ - قالت: بحسرة: احياناً اعمل بتغليف الوجبات الجاهزة للبصات السياحية بالقضارف واتقاضى «5» جنيهات عن كل «54» وجبة أو طبقاً، وسبق ان تقدمت بطلب لمحلية القضارف للعمل فرّاشة، واوضحت في الطلب انني انسانة مجهولة الابوين، أو «فاقدة السند»، كما اصبحوا يجملون هذا الواقع في الخطابات الرسمية، إلا انهم للاسف تجاهلوني لانني حقاً «بلا سند».. مأساتي ومأساة اطفالي كبيرة ومعقدة، ذات يوم وجدني ابني الاكبر ابكي لعجزي عن اطعامهم وتوفير مستلزماتهم المدرسية، حيث انه يفترض ان يلتحق بالصف الثامن اساس هذا العام ويحتاج لحقيبة مدرسية وكتب وكراسات كبقية التلاميذ .. قال لي ابني: - (لا تبك يا أمي .. سوف اترك المدرسة واعمل في السوق لاحضر لكِ المصاريف حتى نعيش كبقية الخلق!!!). حديث ابني الاكبر جعلني احترق من الالم فازداد بكائي وتحول الى نحيب، وجعلني اخشى على مستقبل اطفالي المجهول من بعدي، فهم بلا اهل، ولا قبيلة، ولا عم أو خال.. اصبحت مشردة وضائعة وتائهة مع اولادي في معترك الحياة الذي لا يرحم امثالنا!! فوالله لو كنت اعلم حقيقة وضعي لما تزوجت، اذ انني اليوم احس بعقدة ذنب كبيرة تجاه اطفالي. ? وهل يعلم اطفالك بحقيقتك؟ - لا، لم اخبرهم خوفاً على مشاعرهم. ? ألم تلجأي لوزارة الرعاية الاجتماعية، أو ديوان الزكاة؟ -طلبت المساعدة من وزارة الرعاية الاجتماعية الاتحادية وللاسف عاملوني كمتسولة، كل ما قدموه لي ورقة لأ تسول بها تفيد انني مجهولة النسب، أو مجهولة الابوين، أو لتطلق عليها ما يحلو لك من تسميات.. فهل هذا حل ناجع لقضيتي والمئات من امثالي؟ لماذا لا تلتفت لنا الدولة والمجتمع وتمنحنا منازل، وتهتم برعاية وتعليم اطفالنا؟ واتساءل: لمن نتبع بعد وفاة الكفلاء أو الاسر البديلة؟ من المسؤول عنا بعد وفاة الكفيل.. واصطدامنا بحقيقتنا؟ واعلم ان هناك المئات - من الجنسين- يعيشون الآن نفس محنتي ومصيبتي. ما اود قوله للمجتمع، والدولة، الآن انا انسانة وحيدة في هذه الدنيا وكما يقولون «مقطوعة من شجرة» لا ام.. لا اب.. لا عم.. لا خال.. لا اخ.. لا اهل.. لا قبيلة.. ليس لديَّ سوى الله، وصبري ولكن للصبر حدود، فمن هذا الذي يتحمل رؤية اطفاله بدون طعام، وبلا دواء!! فأطفالي الثلاثة مصابون بداء الربو، وانا كذلك.. نتحمل جميعنا نوباته وويلاته دون علاج!! ? وأين زوجك؟ -اجابت باستنكار: زوجي.. زوجي عندما علم حقيقتي هرب واختفى، ولذلك تطلقت منه بواسطة المحكمة.. ولم يسأل عنا ولم يترك لاطفاله شيئاً، وكل ما املكه الآن قطعة ارض سكنية بشارع دوكة بمشارف القضارف، وهي منطقة خلوية غير مأهولة، تفتقر للخدمات خاصة المياه والكهرباء، وحتى لو كانت مأهولة فمن اين لي بتكاليف تشييد منزل حتى ولو كان من القش والطين؟! المحرر: هذه حكاية المرأة فاقدة النسب والسند.. حكتها لي وهي تبكي بكاءً مُراً متواصلاً.. بل انها طالبت مني نشر صورتها واسمها بالكامل من فرط يأسها، أو كما قالت لي: من اخشى وانا انسانة وحيدة في هذه الدنيا!! إلا انني رفضت تقديراً لمشاعر اطفالها الصغار. المرأة بشجاعة كشفت الواقع الخطير والمجهول الذي ينتظر كثيراً من هذه الشريحة.. وعلينا دولة، ومجتمعاً، وافراداً ومؤسسات، العمل معاً لحل هذه الاشكالية القائمة والموجودة التي كشفت جانباً منها هذه المرأة الشجاعة. وبالاخص النساء أو الفتيات اللائي وجدن انفسهن في هذا المأزق بدون ذنب.. هذه المرأة واطفالها يحتاجون لسندنا جميعاً قبل ان يحدث لهم ما لا يحمد عقباه من تشرد وغيره.. فمن حق هؤلاء الاطفال وامثالهم العيش كبفية الاطفال.. فمن يرغب من اهل الخير والمروءة والاحسان اعادة البسمة والحياة لهذه الام الباكية، ولاطفالها الصغار الابرياء الاتصال بالاستاذ «عوض الكريم احمد حسن» المدير التنفيذي لمؤسسة «الرأي العام» الخيرية - موبايل (0912122134).