ما ذكره لي الزميل الصحافي - يحيى كشة - عن المأساة العريضة التي تعيشها امرأة (لقيطة)، تقطن بأحد احياء العاصمة، هزني بعنف وأثار شهيتي الصحفية لمثل هذه القضايا (المغلقة) بغلاف سميك من السرية والكتمان.. اتصلت بها هاتفياً فارشدتني على عنوانها.. فانطلقت صباح الجمعة الماضية الى المنزل.. استقبلتني خارج المنزل مرحبة امرأة في نهاية الثلاثينيات، ولكن ملامح وجهها تنم عن انها أكبر من ذلك بكثير.. تعيش لوحدها مع طفلها وطفلتها الصغيرين.. داخل جزء صغير من منزل مؤجر يحتوي على غرفة واحدة وحوش صغير لا يتسع سوى لسريرين.. همت بالقيام بواجب الضيافة فطلبت منها الجلوس.. ومن ثم أمطرتها بوابل من الاسئلة والاستفسارات.. ومن خلال اجاباتها الصريحة والشجاعة تكونت قصة تصلح ان تكون سيناريو لمسلسل اجتماعي كشفت لي عن مأساتها ومأساة مئات (اللقيطات) اللائي يعانين لوحدهن في صمت خاصة عندما يكبرن فيتفاجأن انهن (مقطوعات من شجرة) لا أب ولا أم، ولا أهل ولا أزواج.. اللقيطة الشجاعة ترسل من خلال سردها لتفاصيل حياتها اشارات واضحة للمجتمع وتكشف حجم المعاناة والمأساة التي تحيط باللقطاء من الجنسين وما يتعرضون له من ويلات، واهانة، وذل من البعض الذين يقومون بتبنيهم.. فلندعها تحكي وتسرد التفاصيل الموجعة والمؤلمة بنفسها.. وبعد القراءة سوف تصابون بالدهشة والاستغراب والالم لفداحة الأحداث، ومأساوية التفاصيل.. ...... المايقوما.. الأبيض.. المايقوما عثر علىَّ أحد المارة في الشارع وعمري يوم واحد فقط، وتم ايداعي بدار المايقوما بالسجانة، أمضيت بها أشهر قليلة، وذات يوم جاءت امرأة وتبنتني فانتقلت للعيش معها بمدينة الأبيض.. وبالطبع وقتها لم أكن ادرك وأعي ما يدور حولي، ولا اتذكر شيئاً عن الأحداث التي احاطت بي في حياتي الأولى.. ترعرت مع تلك المرأة، وعندما بلغت السنتين اعتقدت انها والدتي، وكنت اناديها (أمي).. كان وضعها المادي لا بأس به، تقيم في منزل كبير مع والدها، والذي كنت اناديه (جدي).. عندما اخذتني من الملجأ، علمت لاحقاً ان عمرها كان فوق الخمسين عاماً، وهي غير متزوجة.. كانت تعاملني بقسوة، وكثيراً ما تضربني لاتفه الأسباب بسير ماكينة الخياطة.. وكنت اتناول طعامي لوحدي، مما جعلني اتساءل وقتها: لماذا أتناول الطعام لوحدي؟ ولماذا يمنعاني: أمي وجدي تناول الطعام معهما في صينية واحدة؟ سؤال سكن دواخل عقلي الصغير، ولم يجد له اجابة إلاّ بعد حين. عندما بلغت الرابعة ادخلتني والدتي بالتبني روضة قريبة من المنزل.. وذات يوم وعقب عودتي منها لحظت امتلاء المنزل برجال ونساء كثيرين، كانت النسوة يبكين، لكن لحداثة عمري لم ادرك سبب بكائهن.. وظللت اذهب للروضة ورغم انني لحظت غياب أمي، إلاّ انني اعتقدت انها في سفر.. وبعد أيام اخذني جدي وركبنا القطار الى الخرطوم، وسلمني لدار المايقوما بالسجانة وعندما هم بالانصراف تعلقت به وانا أبكي بحرقة، قائلة: «لماذا اخذتني يا جدي من أمي؟ أنا عايزة أمي.. عايزة أمي.. وبعد انصرافه اخبرتني المسؤولة من دار المايقوما قائلة: «أمك ماتت، ووالدها - جدي - رجل كبير في السن لا يستطيع رعايتك لوحده، ولذلك أتى بك للاقامة معنا بالدار».. وبما انني كنت صغيرة فقد اذعنت للأمر الواقع، وبقيت بالدار. كشف المستور بعد وفاة أمي بالأبيض، مكثت في دار المايقوما بالسجانة ليومين، وفي اليوم الثالث، أخبرتني مشرفة الدار ان احدى النساء جاءت لتأخذني لاعيش معها بمنزلها.. فذهبت معها وكانت تسكن في منزل بالايجار بأحد أحياء الخرطوم القريبة من دار المايقوما، يقيم معها شقيقها وهو رجل كبير في العمر.. وكانت تعمل في تجارة الحناء، والقفاف ومكانس (مقاشيش) السعف، واحياناً كانت تسافر للشمالية لجلب السعف من هناك.. وللحقيقة كانت أمي الثانية بالتبني تعاملني معاملة (كويسة) وادخلتني مدرسة الأساس، وكانت تطعمني وتلبسني جيداً كابنتها تماماً، خلاف أمي الأولى بالأبيض - رحمها الله -. تدرجت في المدرسة حتى وصلت الصف الخامس، فطلبت مني أمي، ذات يوم التحدث معي على انفراد، فادخلتني غرفتها، وقالت لي: (أنا لست أمك.. احضرتك من دار المايقوما وقمت بتربيتك.. انت لقيطة عثر عليك بالشارع، ولا يعرف أحد والدتك ووالدك الحقيقيين). وقع علىَّ ما قالته المرأة التي كنت اعتقد أنها أمي الحقيقية كالصاعقة، لدرجة انني أصبحت عاجزة عن الكلام.. وبعد انصرافها حبست نفسي داخل الغرفة، أبكي، وأبكي بحرقة متساءلة: أين أمي يا ترى؟ ولماذا تركتني في الشارع ولم ترعاني كما تفعل بقية الامهات مع اطفالهن؟!.. وبالطبع عقلي كان أصغر من الاجابة على هذا التساؤل.. ومن هول الصدمة رفضت الذهاب للمدرسة لمدة عام دراسي كامل.. كنت اعتقد ان الخبر الصاعقة الذي قذفت به المرأة في وجهي سوف ينتشر وسط زميلاتي بالمدرسة، ولذلك قررت عدم مواصلة دراستي.. إلاّ أنني نجحت في التغلب على الصدمة، فعدت العام الجديد لمواصلة دراستي رغم احساسي بالذل والهوان لأنني اجهل أمي وابي وللعثور علىّ بالشارع. بعدها استخرجت والدتي بالتبني جنسية، وبطاقة شخصية بالاسم الذي اطلقته علىَّ دار المايقوما، وبالطبع كان اسم والدي اسماً (وهمياً)، فلا أحد يعرف مكانه ولا اسمه بالطبع.. وكما ذكرت فإن والدتي بالتبني كانت تسافر كثيراً للولاية الشمالية لجلب الحناء والسعف لصناعة (القفاف) و(المقاشيش) وبيعها.. في غيابها كنت انتقل للاقامة مع ابناء وبنات شقيقتها بمنزلهم المجاور لمنزلها.. كانوا يعاملونني معاملة قاسية اذ يجبرونني على غسل ملابسهم والأواني المنزلية، ونظافة المنزل، وتفريغ بالوعة الحمام، التي قصمت ظهري.. وعندما اخرج للمدرسة في الصباح كانوا لا يعطونني حق الفطور كما كانت تفعل خالتهم - والدتي بالتبني - ولذلك كنت لا اتناول وجبة الافطار بالمدرسة، وعندما يشتد بي الجوع كنت اتناول فضلات سندويتشات زميلاتي في غفلة منهن.. وكان ابناء وبنات شقيقة والدتي بالتبني يرفضون غسل ملابسي مع ملابسهم، ولا يعطوني الصابون لغسلها، ولذلك كنت اغمسها في الماء فقط بدون صابون.. وعندما تعود أمي من الشمالية، كنت اشكو لها معاملتهم القاسية معى في غيابها، إلاّ أنها كانت لاتأبه ولا تصدق.. وعندما توفيت والدتهم - شقيقة والدتي بالتبني - اضطرت خالتهم للانتقال للعيش معهم إذ أن والدهم متوفي منذ العام 1980م.. وفي منزلهم أصبحت معاملتهم لي أكثر قسوة، وكانوا عندما يفقدون شيئاً بالمنزل يتهمونني بسرقته.. وكانت البنات يضربنني لاتفه الأسباب، ويمنعوني الأكل معهم في صينية واحدة، بل كنت انتظر حتى يفرغوا من طعامهم فأحمل الصينية للمطبخ واتناول فضلات طعامهم!! (هنا اخذت تبكي بكاء متواصلاً موجعاً) فتركتها فترة لتهدأ، وبعد ان مسحت دموعها واصلت قائلة: ظللت اقيم معهم برفقة والدتي بالتبني، وكنت اذهب للمدرسة دون حل الواجبات المدرسية، ودون استذكار دروسي.. كيف استذكر دروسي وانا اعمل بالمنزل منذ حضوري من المدرسة وحتى المساء؟!!. ولذلك عندما جلست لامتحان شهادة الاساس كانت نتيجتي (رسوب)، وهي نتيجة طبيعية للظروف الصعبة والمعاملة القاسية التي اعاني منها. العمل بالمصنع بمرور السنين أصبحت والدتي بالتبني متقدمة في السن، وغير قادرة على التجارة وبالتالي أصبحت بلا دخل، فاضطررت للعمل بأحد المصانع بالخرطوم.. كان باص المصنع الذي يحمل العمال والعاملات، يأتي في الخامسة والنصف صباحاً، ويعود بنا من المصنع في السادسة مساء.. كنت ادخل المنزل منهكة متعبة فيجبروني على غسل الاطباق التي تكون مكومة بالمطبخ، رغم تعبي.. كنت اتقاضى من عملي بالمصنع (175) جنيهاً في الشهر، انفق منها على طعامي واحتياجاتي القليلة المتواضعة.. وتحت إلحاح وضغوط بنات شقيقتها بأنني شخص غير مرغوب فيه بالمنزل، قامت والدتي بالتبني بارسالي لاحدى قريباتها بأحد احياء العاصمة الجنوبية الكبيرة، للعمل معها، وهي امرأة طاعنة في السن، لديها ولدان وبنتان قالت لها انني قريبتها ولم تخبرها بحقيقتي انني (لقيطة).. وبعد انتقالي للعيش معها تركت العمل بالمصنع، لأن باص الترحيل لا يأتي للحي البعيد الذي انتقلت إليه، أصبحت أعمل معها (خادمة) بالمنزل، اقوم بجميع الاعمال المنزلية، بدون أجر، فقط مقابل الطعام والمأوى.. وللحق المرأة قريبة والدتي بالتبني كانت تعاملني معاملة حسنة، وكذلك ولديها وبنتيها، ولم يكونوا يعلمون انني لقيطة، بل يعتقدون انني قريبة والدتي بالتبني.. وظللت معهم سنتان، بعدها قررت والدتي ارجاعي لمنزلها لتقدمها في السن حسب قولها.. وكانت بنات شقيقتها المتوفاة يعاملنني بقسوة وفظاظة أكثر، رغم انني اقوم بخدمة خالتهم، حمام ونظافة.. العودة لدار المايقوما لم احتمل ولم أطق المعاملة القاسية التي كنت اجدها بالمنزل من بنات شقيقة والدتي، وذات مرة طلبت من احدى صديقات والدتي البحث عن عمل لي، فالحقتني بالعمل بدار اطفال المايقوما.. انها سخرية القدر.. عدت مرة ثالثة للملجأ ولكن هذه المرة كعاملة، المرأة صديقة والدتي التي الحقتني للعمل بالدار لم تكن تعرف انني لقيطة.. عملت بالدار في نظافة الاطفال واطعامهم والعناية بهم، وكنت اتقاضى (200) جنيه في الشهر، وكنت اعمل ورديتين من السابعة صباحاً وحتى الثامنة والنصف مساءً.. العاملون في الدار كانوا يعرفون أنني خريجة دار المايقوما، وأنني لقيطة، وبعد سنتين قضيتهما بالدار، تم تعيين مدير جديد، فاصر ان اعمل ثلاث ورديات، من الثامنة والنصف صباحاً حتى السابعة صباحاً اليوم التالي، فاخبرت والدتي بذلك، إلاّ ان أبناء شقيقها رفضوا ذلك واشاروا لها انني لا أعمل بل ارغب المبيت خارج المنزل مع الرجال الغرباء!!.. ذلك الاتهام ابكاني فقررت ترك العمل بدار المايقوما، قطعاً للقيل والقال.. وذات يوم زارت والدتي بالتبني احدى الجارات، فعرضت علىًّ العمل عاملة باحدى المدارس الخاصة، فوافقت على الفور وظللت اعمل بالمدرسة ثلاث سنوات، كنت اتقاضي (200) جنيه في الشهر. حوار وتصوير: التاج عثمان