قضيت مع أسرتي أياما من المرح والبهجة في مدينة ديزني في باريس، لم أذهب الى هناك لأنني أب عصري لا يحرم عياله من مسرات الحياة، بل لأنني شخصيا كنت بحاجة الى اللعب والتمتع بعجائب ديزني .. منذ أن وعيت الأشياء حولي وأنا مطالب بأن أكون «مسؤولا».. قضيت فترة الصبا في جزيرة بدين حيث كل من هو فوق الخامسة مكلف بالعناية بالغنم أو حلبها أو فتل الحبال أو بناء المزيرة.. ولا مجال للعب إلا ليلا.. وكانت ألعابنا كلها من النوع الذي يسبب كدمات وعاهات: «دكي» التي يسميها البعض الشدة أو حرينا.. وهي ان تمسك طرف قدمك اليسرى بيدك اليمني (أو العكس إذا كنت أعسرا) وتدخل في معارك مع لاعبي الطرف الآخر للوصول الى «الميس».. وكان هناك الكود.. فريقان يتقابلان للتنافس على العثور على قطعة عظم معينة يتولى رميها أحدهم إلى أبعد مسافة ممكنة .. وكثيرا ما انتهت اللعبة بتعرض احدهم للسعة عقرب .. وكان هناك ولع ب»المرجلة».. لابد أن تثبت في سن مبكرة أنك «رجل» شديد البأس، ويكون ذلك بواحدة من طريقتين: موركا دِم (ادخل في مباراة مصارعة) او كريك كد (تتعرض للضرب بالسوط او جريد النخل) .. قبل يومين سمعت كلاما عجيبا سيثير فتنة في صفوف الجعليين.. كانت هناك مكالمة هاتفية بيني وبين السيد محمد حسن البشير.. كان قد قرأ ما أوردته مؤخرا في مقالاتي عن تاريخ الخرطوم وتوقف عند القصيدة التي تحدث فيها الطهطاوي عن ان القوم يأكلون مخ العظم مخلوطا بالرماد.. وقال لي ان ذلك الشيء اسمه الويكاب وأنه أكله فقلت له: الله يشفيك فكان رده: ويشفيك من آثار التركين، ثم قال: المحس هم فعلا من أسسوا مدينة الخرطوم .. جاء تعقيبي: الله أكبر.. يعني فعلا كل المباني التي على شارع النيل كانت تسمى ساقية المحس؟ قال: بالتأكيد ثم أضاف: زرت مناطق المحس واكتشفت ان هناك خصالا كثيرة مشتركة بينهم وبين اهلي الجعليين .. قلت له لا غرابة لأن الجعليين نوبيون مستعربون فقال: ده كلام صح .. ممكن يكون صح .. ربما صح .. بس لا تنسب إلي هذا الكلام لأنك عارف الجعليين، ووعدته بذلك، وهأنذا ألحس وعدي وأنشر ما قاله لي وبإمكانك يا سيد محمد طلب اللجوء عندنا في موطنك الأصلي .. ديار النوبة... حقيقة لماذا لا يمارس المصارعة إلا نوبيو الشمال ونوبيو جبال النوبة في جنوب كردفان ما لم يكونوا ينهلون من نفس المعين الثقافي؟ ولماذا كان التعرض للضرب بالسوط نوعا من التباهي بالرجولة عند النوبيين كما هو الحال عند الجعليين إلى يومنا هذا ما لم يكن الطرفان ينهلان من نفس النهر الثقافي؟ الشاهد فيما سلف ان اللعب الذي كنا نمارسه كأطفال وصبية كان «عنيفا» .. حتى البنات كان عليهن صنع العرائس بالأقمشة البالية (الدلاقين) .. كرة الشراب (الدافوري) جواب عنوانه يكشف فحواه، أي لعبة تقوم على الدفر و»الكبِر» وليس فيها «فاول» او تسلل، تتجاوز السابعة ويصبح كل لعب غير كرة القدم «عيب».. وهكذا أدركت على كبر أنني لم أأخذ حظي من اللعب فكان الحماس لزيارة مدينة ديزني في باريس.. أجمل ما في بلاد الخواجات أن المرح واللعب جزء من ثقافتهم.. في بريطانيا مثلا ممنوع تكليف التلميذ بأداء أي واجب مدرسي في البيت، حتى يكمل السنة الرابعة الابتدائية وعندنا يتحدث الأب بتقدير فائق عن الروضة: يا زول ديل ناس تمام ما عندهم لعب.. الولد عمره 3 سنوات وحفظ الإيه بي سي وبيعرف يكتب اسمه (ويفوت عليه ان سيتخرج في الجامعة ويكون قد نسي كيف يكتب اسمه). # حاشية: تم تكوين لجان في دولة الأمارات لجمع الكتب في إطار مشروع إنشاء وتعمير المكتبات في السودان.