في واحدة من أحداث العام 2008م، المجلجلة، بدون شك، وما من أحد بوسعه المجادلة عليه، رحل الاسبوع الماضي، المخرج المصري يوسف شاهين عن عمر يناهز ال (82) عاماً. وشاهين كاتب كبير قيم في مشروع السينما المصرية، قل العربية. كان الرجل يشابي في اتجاه العالمية. وقد لامسها لحد ما، وقد يطرق أبوابها ويدخل، لولا أقدار «جو»، وهذا اسمه الفني وراء الكواليس، التي وضعته في بيئة تفرض الركون لشروطها، مهما بلغ من هم داخل نطاقها درجة من «التمرد» على المألوف، وتكسير الواقع، على نسق ما يعرف التجريد، ومع ذلك كان «جو» ضد الاستنساخ. في كل عصر من العصور هناك أشخاص لهم تأثير بالغ في الحياة العامة، وربما بطريق غير مباشر، في الحياة الخاصة، على من حولهم من الناس. أشخاص يلقون، بجرأة وشجاعة، بحجارة كبيرة في ماء الحياة، فتثور ثائرة الحياة العامة، لتخرج أثقالها، قبل ان تهدأ على ترتيب جديد. أشخاص يثيرون البراكين الحامية، فيتطاير لهيبها ودخانها، قبل ان يهدأ وينقشع على تضاريس جديدة، غير مألوفة. شاهين واحد من أولئك الأشخاص. وشم عميد السينما العربية، كما يطلق عليه النقاد، وجوده فينا بخطوط عرضية تتسم بالديمومة والوضوح. كشلوخ ستينية من ام ردمان. كان شاهين رائداً من رواد التغيير في المنطقة من خلال التوقيع على الشاشة البيضاء. اذا كان الحكام يصدرون القرارات الكبرى على طاولاتهم أو من على منصات الكلام، فإن شاهين كان يتخذ القرارات الكبرى، على الشاشة. ظل على خط التغيير هذا كمن يمشي على الاشواك، أي كان ديدنه التحايل على النظام المنطقي، في كل ضروب الحياة، أو كما يعتقد انه منطقي. بدأ «جو» رحلة احتراف هذه الصنعة: الاخراج، بفيلم «بابا أمين» في العام 1949م بعد عودته بعامين على الأكثر من الولاياتالمتحدة، حيث درس هناك السينما، وانتهى بفيلم «هي فوضى» بالاشتراك مع أحد تلاميذ العام الماضي، رحلة كلفته ستين عاماً ونيفاً، أنجز خلالها نحو أربعين فيلماً بين روائي ووثائقي، فسجل بذلك «علامات انعطافية في السينما المصرية بخاصة، ولكن، بالواسطة، في بعض السينمات العربية الأخرى»، كما يقول النقاد، الذين يرون انه رائد أفلام النقد وأفلام الغضب السياسي»، يقابله، بتقديري، في هذا الفضاء الواسع المعقد، اسامة انور عكاشة في كتاباته للدراما التلفزيونية «المسلسلات».كان شاهين مهموماً بتحريك الحاضر، في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، من خلال استنطاق التاريخ، وتقديمه عارياً، كما ولدته أمه. ويتجلى ذلك في افلام: «الأرض، في لبنان، وداعاً بونابورت، الناصر صلاح الدين، والناس والنيل، وجميلة الجزائرية، وعودة الابن الضال، وسلسلة أخرى»، ومن خلال السعي المحاولة الجريئة لكشف ورؤية الداخل: الداخل العام والداخل الخاص، وألمع نموذج لذلك ما اشتغل عليه في فيلم «حدوته مصرية». ربما سبق المخرج «هنري بركات» زميله الراحل «جو» على هذا الخط الجرىء الشفاف، وفي الطرق على هذا الباب المغلق، عندما حول رائعة القاص احسان عبد القدوس رواية «في بيتنا رجل»، التي جسدت المقاومة المصرية للاحتلال الانجليزي، الى عمل سينمائي ملحمي، اواخر الستينات من القرن الماضي، ولكن شاهين، سجل الانطلاقة في السبعينات من ذات القرن، في هذا الاتجاه، حينما زاوج بين الواقع السائد آنذاك والتخييل، فتخطى مرحلة «في بيتنا رجل»، بمراحل تمثلت في: «العصفور، وعودة الابن الضال، وحدوته مصرية، ووداعا بونابروت، والآخر»، ربما «هي فوضى». رحم الله شاهين، فقد كان شخصاً مؤثراً في المنطقة، بحق وحقيقة.